أخلاق القوة وأخلاق الفضيلة بين السياسي والدعوي

10 يناير 2019 19:27
الإنسان بين عبودية الاختيار وعبودية القهر

هوية بريس – أحمد الشقيري الديني
(اللهم إني أشكو إليك عجز التقي وفجر القوي) الفاروق عمر بن الخطاب.
السياسة تحتاج لأخلاق القوة (الشجاعة، الصبر، الإقدام، الدهاء، الجرأة، المبادرة، المجاهدة، الثقة بالنفس.. إلخ).
والدعوة تحتاج لأخلاق الفضيلة (الزهد، الرحمة، التواضغ، الصدق، العفاف، الورع، الإحسان، العفو، الخمول، الإيثار.. إلخ).
وقلما تجتمع أخلاق القوة وأخلاق الفضيلة في شخص واحد، ولهذا شكى سيدنا عمر عجز التقي وفجور القوي، مع أنه في زمن كان الصحابة فيه متوافرون وأبناؤهم كذلك، لكن مع سعة الفتوحات ازدادت الحاجة للولاة وتآكلت أخلاق الفضيلة أمام مغريات المنصب والجاه والثروة المتراكمة نتيجة الفتوحات، فتوارى أهل الورع والتقوى والزهد، وتقدم الأقوياء طلاب المناصب، فطرحت مبكرا إشكالية “من نولي قيادتنا: الكفء الفاجر أم الضعيف التقي؟”.
رجح العلماء وأهل الشورى والسياسة الكفء الفاجر أو القوي الفاجر على الضعيف التقي، يقول الإمام أحمد (أما الكفء الفاجر فخيره للأمة وفجوره لنفسه، وأما الضعيف التقي فخيره لنفسه وضعفه ضرر على الأمة).
والمناصب العامة أمانات مسؤولة، وهي من بين أعلى مراتب الأمانة، والتفريط فيها بتسليمها لغير المؤهلين لها يُعَد خيانة عظيمة. ولذلك لما سأل أبوذر رضي الله عنه -وهو من هو في الصلاح والزهد والعلم والخُلق- الرسول -عليه الصلاة والسلام- لماذا لا يستعمله (أي يوليه وظيفة عامة)، قال له: (يا أباذر! إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها) رواه مسلم.
نشأت عند الغربيين فلسفة “أخلاق القوة” كرد فعل على شعار الزهد والصلاح والسكونية الذي كانت ترفعه الكنيسة شكلا وتخالفه مضمونا بتكديسها للثروة من جيوب المستضعفين اللاهثين وراء صكوك الغفران وحجز قصور الجنة..!
الماركسية اعتبرت القيم الأخلاقية من إنتاج الأقوياء اقتصاديا لضمان بقاء مصالحهم المادية ونمائها، بينما اعتبر نيتشه، فيلسوف القوة، أخلاق الفضيلة من صنع الفقراء والمستضعفين يحصلون من خلال إشاعتها على المنافع من جيوب الأغنياء بعدما فقدوا كل وسائل الصراع والمقاومة، فقسم الأخلاق إلى قسمين: أخلاق السادة وأخلاق العبيد..!
ولما كانت فلسفة ماركس ونيتشه الأكثر تأثيراً في القرن التاسع عشر، أنتجت الحركات الأكثر دموية في تاريخ البشرية: النازية والحروب المدمرة والاستعمار واستعباد الشعوب ونهب ثرواتها..
ولازالت فلسفة القوة تسيطر على صناع القرار السياسي في الغرب، وتوجه مراكز البحث العلمي والتكنولوجي والشركات العملاقة المنتجة للسلاح والدمار، فهي قوة بلا رحمة..!
جاءت الحركة الإسلامية المعاصرة لتقدم نموذجا ثالثا يتمثل في الجمع بين أخلاق القوة وأخلاق الفضيلة، ولهذا اهتمت بالجانب التربوي مقرونا بالجهاد السياسي، من حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين إلى عبد السلام ياسين مؤسس جماعة العدل والإحسان..
لكن الحركات الإسلامية التي باشرت العمل السياسي في ميدان التدافع ستواجه هي الأخرى نفس إشكالية “القوي الفاجر مقابل الضعيف التقي”..!
وقد علق الشيخ الغزالي في “خلق المسلم” على هذا بقوله: “إن الكفاية العلمية أو العملية ليست لازمة لصلاح النفس، فقد يكون الرجل رضي السيرة، حسن الإيمان، ولكنه لا يحمل من المؤهلات المنشودة ما يجعله منتجا في وظيفة معينة… والأمانة تقضي بأن نصطفي للأعمال أحسن الناس قياما بها، فإذا ملنا عنه إلى غيره -لهوى أو رشوة أو قرابة- فقد ارتكبنا -بتنحية القادر، وتولية العاجز- خيانة فادحة“..
ولحل هذه الإشكالية القديمة/الجديدة، علينا أن نستفيد مما قررته البشرية اليوم في علم السياسة والاجتماع من نشدان دولة الديمقراطية والمؤسسات، وأيضا حزب المؤسسات، والحرص على تقوية الديمقراطية الداخلية للحزب وأجهزة المراقبة الصارمة في كل ما يتعلق بالمال العام، لأن الناخب يهمه من يحفظ ثروة البلاد ويخلق التنمية ويواجه الفساد أكثر مما يهمه طول لحية وحجاب امرأة..

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M