إعلان الحرب اللغوية في المغرب؛ فرنسة التعليم.. من التنظير إلى الأجرأة

16 نوفمبر 2015 00:14
معضلة ازدواجية لغة التعليم (دراسة نقدية)

د. إدريس جنداري*

هوية بريس – الأحد 15 نونبر 2015

في السياق

 منذ تعيين السيد بلمختار وزيرا على قطاع التعليم المدرسي، في الحكومة المعدلة، كان واضحا المسار الذي سيخوضه التعليم المغربي، وذلك لأن السيد الوزير لا يخفي نزوعاته الفرانكفونية، ولذلك تم تهييئه من طرف الجناح الفرانكفوني في الدولة العميقة ليقوم بمهمة قذرة في محاربة التوجه الدستوري الجديد الذي أكد على الطابع الرسمي للغة العربية، وأوصى بتقويتها وتطويرها. هناك مؤشرين -على الأقل- يؤكدان ما ذهبنا إليه:

قبل تعيينه وزيرا على قطاع التعليم المدرسي خلفا لسلفه محمد الوفا في سياق التعديل الحكومي، تمت استضافة السيد بلمختار كضيف شرف فوق العادة من طرف مؤسسة زاكورة المعروفة بترويج مشروع التدريس بالدارجة (الموؤود على يد الوعي الشعبي) وبعد ذلك مباشرة تم الترويج له كوزير على قطاع التعليم. إن ذلك لا يدخل في إطار المصادفة بل إن الأمر يدخل في إطار خطة محبوكة يقودها الجناح الفرانكفوني في الدولة العميقة من أجل خلق صراع لغوي تستفيد منه اللغة الفرنسية، في الأخير. ولعل الأمر الواضح هو أن التنسيق قد جمع بين العمل المدني من طرف مؤسسة زاكورة والعمل الحكومي الذي كان يهيَّأ له بإتقان من خلال وضع السيد بلمختار في أعلى هرم السلطة التنفيذية المشرفة على قطاع التعليم .

عبر السيد بلمختار مرارا عن عجزه عن التعبير باللغة العربية، فهل ذلك يدخل في إطار عجز ذاتي يمكن تجاوزه من خلال حصص استدراكية في تعلم اللغة العربية، أم إن الأمر يتجاوز ذلك، بكثير، خصوصا وأن السيد بلمختار يعبر عن هذا العجز من منطلق منصب وزاري يمثل السلطة التنفيذية لدولة تقر دستوريا بأن اللغة العربية لغة رسمية وتوصي بصيانتها وتطويرها ؟ إن الأمر الواضح، هو أن السيد بلمختار لم يكن يعبر عن عجز ذاتي في التواصل باللغة العربية، بل أكثر من ذلك كان يستغل منصبه الوزاري من أجل الترويج للغة الفرنسية كلغة تواصل سياسي وشعبي، وهو يؤكد هنا أن قوة الواقع اللغوي المدعوم فرانكفونيا أكبر من قوة الدسترة اللغوية المدعومة شعبيا.

إن الواضح هو أن تعيين السيد بلمختار كوزير على قطاع التعليم المدرسي، لا يدخل ضمن تعديل حكومي روتيني، بل إن ذلك جاء في سياق صراع محموم بين تيارين من داخل أجهزة الدولة العميقة، لكل تيار منهما أجندته الخاصة التي ينفذها من خلال الدفع بممثليه إلى ساحة المعركة السياسية:

من جهة، هناك التيار الوطني الذي يدافع عن مقومات الدولة المغربية، في بعدها العربي الإسلامي، وهذا التيار يمتلك أذرعه الخاصة من داخل دواليب صناعة القرار، ويصرف مواقفه من خلال مجموعة من القرارات التي تهم قطاع العدل مرة والتعليم مرة أخرى.

من جهة أخرى، هناك التيار الفرانكفوني الذي لا يتصور المغرب إلا امتدادا للمتربول الاستعماري، وهذا التيار ينسج خيوطا متشابكة مع فرنسا، وهو بذلك يمثل صفة الناطق الرسمي باسم المصالح الاقتصادية والسياسية والثقافية الاستعمارية في المغرب.

 إن الصراع بين هذين التيارين يتجاوز قطاع التعليم، إلى قطاعات الثقافة والعدل والشؤون الإسلامية… لكن ملف التعليم يعتبر الورقة (الجوكير) في حلبة الصراع، لأنه يرتبط بتشكل أجيال المستقبل، وكل تيار يريد تقوية أرضيته القيمية والثقافية حتى يتمكن من أدوات الصراع مستقبلا. لذلك، نجد كل تيار يدفع برجالاته إلى واجهة صناعة القرار ويقدم لهم كل الدعم من أجل إنجاح خططه في تشكيل المشهد الثقافي والاجتماعي والسياسي المغربي على مقاسه الخاص.

 لكن، إذا كان الشعب المغربي بنزوعاته الوطنية المتأصلة، بنخبه وعامته، يتفهم القرارات الصادرة عن التيار الوطني من داخل الدولة العميقة لكونها تنسجم مع التوجه الشعبي، في الثقافة والمجتمع والسياسة، مثل قرار إصلاح الحقل الديني، وقرار تقوية علاقات المغرب مع محيطه العربي والإسلامي، وقرار إصلاح قطاع العدل … فإن الشعب المغربي، في المقابل، لا يستوعب الكثير من القرارات الصادرة عن التيار الفرنكفوني، مثل قرار التدرج من استعمال الدارجة في التعليم في أفق فرنسته، والمطالبة بالمساواة في الإرث بين الذكور والإناث، وفسح المجال لاكتساح الشركات الفرنسية للمجال الاقتصادي المغربي.

في التاريخ

إن الحديث، هنا، عن قوة التيار الفرانكفوني من داخل الدولة العميقة، قد يثير الاستغراب لدى البعض، لكن الأمر ليس خيالا البتة بل هو عين الواقع، خصوصا إذا انطلقنا من حقيقة تفرض نفسها على جميع المغاربة، هي كون المغرب في استقلاله عن فرنسا ظل مرتبطا باتفاقيات، منها ما هو معلن ومنها ما هو سري، تتعلق بجميع تفاصيل الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية في المغرب، وهذه الاتفاقيات تقوم بوظيفة رقابية – تحكمية أحيانا- في القرار السيادي المغربي. لكن ذلك لا يمر من خلال تدخل مباشر من طرف صانع القرار الفرنسي، بل يتم توظيف التدخل الناعم من خلال دعم الأذرع الفرانكفونية من داخل أروقة صناعة القرار، وهذه الأذرع يمثلها سياسيون وتقنوقراط من المغاربة يشكلون لوبي فرانكفوني يرتبط بمصالح، سياسية واقتصادية وثقافية، مع فرنسا، وهو في دفاعه عن مصالحه يدافع، بشكل غير مباشر، عن المصالح الاستعمارية في المغرب.

إن تركيز اللوبي الفرانكفوني، في المغرب، على قطاع التعليم، ليس أمرا جديدا بل كان منذ حصول المغرب على الاستقلال، حيث دخل هذا اللوبي في مواجهة التعليم الخاص الذي أسسته الحركة الوطنية، وكان يمثل النواة الأولى لبناء تعليم وطني نابع من الخصوصية الحضارية العربية الإسلامية التي تميز الشعب المغربي، ولذلك فإن نجاح التيار الوطني في إقرار المبادئ الأربعة لإصلاح التعليم في المغرب (التعريب، المغربة، التوحيد، التعميم) لم يتم على أرض الواقع، لأنه واجه مقاومة شرسة من طرف خدام المشروع الاستعماري في المغرب، بل على العكس من ذلك تحقق المشروع الفرانكفوني البديل – مع استثناء واحد يتعلق بمغربة الأطر تقنيا- فقد تمت عرقلة تنفيذ مشروع التعريب، من خلال غياب التخطيط والتشكيك في جدواه، كما تمت عرقلة مشروع التوحيد من خلال فتح المجال أمام البعثة التعليمية الفرنسية تصول وتجول بلا رقيب وتزاحم التعليم الوطني، أما التعميم فقد ظل شعارا شكليا تم إفراغه من محتواه نظرا للتحديات التي واجهها التعليم الوطني.

من أجل مقاربة فكرية لفضح الاختراق الفرنكفوني

ومن أجل فهم أفضل لهذا المشروع الفرانكفوني المتشابك الخيوط، لابد من توظيف مقاربة فكرية تفكيكية للمبادئ الأساسية التي قام عليها، منذ البدايات الأولى لتأسيسه، فبعد إفشال المشروع الاستعماري، عسكريا، وطرد آخر جندي من الامتداد الترابي المغربي، كان المشروع الاستعماري يخطط لتدشين عودته التي كان يتصورها، هذه المرة، عودة حضارية توظف أسلحة رمزية فتاكة تخترق جسم الوطن، وتبث فيه فيروسات قاتلة تفكك الجسم من الداخل من خلال التغلغل في خلاياه.

ولعل هذا هو ما فطن له مفكر من حجم الأستاذ محمد عابد الجابري في كتابه (أضواء على مشكل التعليم في المغرب) حين اعتبر أن المشروع الاستعماري حقق استمراريته في المغرب من خلال النخبة التي تشكلت في مختبراته التعليمية، لقد كانت النخبة التي تولت زمام الأمور عقب الاستقلال هي نفسها النخبة التي تمخض عنها تعليم الحماية الفرنسية في المغرب.

محمد عابد الجابري- أضواء على مشكل التعليم في المغرب- دار النشر المغربية – البيضاء – ط: 1 – 1973 – ص:54.

وبما أن وظيفة التعليم تتلخص في إعادة الإنتاج القيمي والمعرفي، فإن منظومة التعليم الاستعمارية وظفت التعليم لخلق جيل جديد من المواطنين المغاربة يكون قادرا على تحقيق استمرارية المشروع الاستعماري، وذلك لأن مصير هذا الجيل من المتعلمين سيكون حتما العمل مع سلطات الحماية إما في الإدارة، وإما في المؤسسات الرسمية وشبه الرسمية، الشيء الذي كان يؤهلهم لأن يصبحوا متعاونين، بشكل أو بآخر، مع الحماية الفرنسية لا ثائرين ضدها.

محمد عابد الجابري – أضواء على مشكل التعليم في المغرب دار النشر المغربية – البيضاء – ط : 1 – 1973- ص: 59.

إن الأستاذ الجابري، حينما ركز على وظيفة التعليم في صناعة تبعية النخبة للمشروع الاستعماري، كان يبحث في الإشكالية السياسية والاجتماعية التي واجهت المغرب بعد خروج الاستعمار، لان النخبة السياسية التي تقلدت زمام الأمور، بعد القيادة الاستعمارية، هي نخبة مستلبة من طرف المشروع الاستعماري، بل إن الاستغراق في الاستلاب سيجعلها أكثر جرأة في تنفيذ مشروع الاستئصال الثقافي أكثر من المستعمر ذاته.

ولعل هذا هو ما يدخل ضمن نموذج التحديث المعاق، الذي مارسته الأنظمة السياسية التي تقلدت الحكم بعد انسحاب الاستعمار، فحسب الباحث الفرنسي (فرنسوا بورغا) تطور نمط من التحديث بطريقة أسرع بكثير من ذلك التحديث الذي حاول أن يفرضه المستعمر، من قبل، فقامت عدة أنظمة في اليوم التالي للاستقلال – معتمدة على قوتها النابعة من شرعيتها التي تستمدها من إنجازاتها في التحرير الوطني- بتبني مجموعة من التشريعات زعزعت، إلى حد كبير، مكانة بعض المؤسسات (مثل القضاء والجامعات) وهي مؤسسات لم يجرؤ الاستعمار نفسه على المساس بها.

François burgat- L’islamisme au Maghreb : la voix du اsud, Edition Karthala 1988 .p :80-84

ويفسر (فرانسوا بورغا) إقدام الأنظمة الحاكمة على هذا النموذج من التحديث الكاريكاتوري المعاق، برغبة الجنوب في الوصول، بطريقة أسرع، إلى “الوليمة التكنولوجية الكبرى” ولذلك فقد ألقى بقوانينه وعاداته ولغته وأغانيه؛ بل وبملابسه… وأكثر من أي وقت سبق، أصبحت اللغات الأجنبية؛ الفرنسية في المغرب العربي؛ والإنجليزية في المشرق العربي؛ السلاح الذي يضطر أن يلجأ إليه كل من يريد أن يحقق صعودا مهنيا واجتماعيا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

* باحث.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M