الأخذ بحسن الظن في جلب المصالح ودرء المفاسد

06 يناير 2019 18:09

هوية بريس – د. صفية الودغيري

 من أخذ بسوء ظنِّه لعدم الثِّقَة بمن هو لها أَهْلٌ: “فإنْ كان بالخالق كان شَكًّا يَئُول إلى ضلال، وإنْ كان بالمخلوق كان اسْتِخانةً يصير بها مُخْتانًا وخَوَّانًا، لأنَّ ظَنَّ الإنسان بغيره بحسَب ما يراه من نفسه، فإنْ وجدَ فيها خيرًا ظَنَّه في غيره، وإن رأى فيها سوءًا اعتقدَه في النَّاسِ”[1].

والاسترسال في سوء الظَّن، واعتقاد السُّوء فيما يقبل عليه أو يدبر عنه، ليس من شيم الكرام ولا ذوي الحزم والحكمة، بل يفسد على صاحبه سدادَ رأيه، ولا يستقيم حاله على طريقة مثلى في سلوكه ومعاملاته، ولا يهتدي إلى حجَّةٍ بالغَة، ولا يترجَّح لديه دليل صريح، أو معنًى جليل، ولا يسلك سبيلا واضح المعالم والرَّواسِم في الأخذ بالعلم ونهجه، ولا يتَّبع مذهب حقٍّ يسلِّم له، مصداقا لقوله تعالى: ﴿وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ ۖ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ ۖ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28)﴾[2]..

ولقد اختصر ذلك الشيخ أحمد ابن القاسم الصومعي (ت1013هـ)في بيتي شعر، كان كثيرا ما يرددهما على طلبته :

خذ العلوم ولا تعبأ بناقلها     واقصد بذلك وجه الخالق الباري

إن الرجال كأشجار لها ثمر       فآجن الثمار وخلِّ العود للنــار

وقال العلامة محمد الطاهر ابن عاشور في تفسيرها: “وأطلق الظن على الاعتقاد المخطئ كما هو غالب إطلاقه.. وأظهر لفظ الظن دون ضميره لتكون الجملة مستقلة بنفسها فتسير مسير الأمثال . ونفي الإغناء معناه نفي الإفادة، أي: لا يفيد شيئا من الحق… والمعنى: أن الحق حقائق الأشياء على ما هي عليه وإدراكها هو العلم، المُعَرَّف بأنه تصوُّر المَعْلوم على ما هو عليه، والظَّن لا يفيد ذلك الإدراك بذاته، فلو صادف الحق فذلك على وجه الصُّدفة والاتِّفاق، وخاصَّة الظَّن المخطئ كما هنا”[3].

فمن استبدَّ به الشَّك والظَّن السَّيء أظلم قلبه وأضلَّ عقله، وأعمى بصيرته عن إعمال النَّظَر الصَّحيح، والاسترشاد بالفهم السَّليم فيما يتلقَّاه ويطلبه،  وسلب منه إرادته ويقينه، وأضعف طاقته، وثبَّطَ همَّته وعزيمته عن الاشتغال والتَّحصيل، وحسَر نشاطه عن الكدِّ والسَّعي، وأصيب بالشُّح والبخل، فاستصعب عليه كل أمر من أمور دينه ودنياه، ولم يُوَفَّق إلى جلبمصلحة أو درء مفسدة، ومُنِع من العدل والإنصاف في أداء الحقوق والواجبات، “فإنَّ نفسَ البخيل لا تسمح بفراق محبوبها. ولا تَنْقادُ إلى تركِ مَطْلوبِها، فلا تُذْعِن لحَقٍّ ولا تُجيب إلى إنصاف. وإذا آلَ البخيل إلى ما وصفنا من هذه الأخلاق المذمومة، والشِّيَم اللَّئيمة، لم يَبْقَ معه خيرٌ مَرْجُوٌّ ولا صَلاحٌ مَأْمولٌ>>[4]..

إذ لا يتكلَّم أو يتصرَّف إلا بجهل وسوء ظن يكلِّس عقلَه، فيقِلُّ نظَره واجتهاده في مسائل العلم، ولا يظفر بغاية من تحريرها، ولا الفصل في أحكامها، ويكثُر لغَطه ويتفَشَّى غلطه، فيُبْدى عُجَره وبُجَره، وينفش ريشه متكبِّرا على أهل العلم وذويه، ومنصرفا عن الجدِّ وتحصيل العلم انصِرافَ الزَّاهدين، ومنحرفا عن الانصياع للحقِّ انحراف المعاندين المتعصِّبين لفساد الرَّأي، ومعاديا من عاداه ومن لم يُعادِه، يسلُّ عليه لسان سخطه وبُغْضه، ويفشي حنقه وتعصُّبه، ويُذيع في الناس شرَّه ويتطاير منه شرَرَه، ولا يرتدع عن غيِّه وشططه، لأنَّ من جَهِل شيئًا عاداه.

ومما أنشَده أبو بكر بن دريد[5]:

فقد جَهِلْت فعادَيْت العُلومَ وأهلَها ..  كذاك يُعادي العِلمَ من هو جاهِلُه
ومَنْ كانَ يَهْوى أَنْ يُرَى مُتَصَدِّرا ..ويَكْـــــرَه لا أَدْري أُصِيبَتْ مَقاتِلُــــه

وقد خصص العز بن عبد السلام فصلا في بيان جَلْب مصالح الدَّارين ودَرْء مفاسدهما على ما يظهر في الظُّنون فقال: “كذلك أهل الدُّنيا إنَّما  يتصرَّفون بناءً على حُسْن الظُّنون، وإنَّما اعْتُمِد عليها لأنَّ الغالب صِدْقُها عند قيام أسبابها؛ فإنَّ التُّجَّار يسافرون على ظَنِّ أنَّهم يُسْتعمَلون بما به يَرْتَفِقون، والأَكَّارون يَحْرُثون ويَزْرَعون بناءً على أنَّهم مُسْتَغَلُّون، والجَمَّالون، والبغَّالون يتصَدَّرون للكِراء لعلَّهم يُسْتَأْجَرون، والملوك يُجَنِّدون الأَجْناد ويُحَصِّنون البلاد بناءً على أنَّهم بذلك ينتصرون. وكذلك يأخُذ الأَجْنادُ الحَذَر والأسلحة على ظَنِّ أنَّهم يَغْلِبون ويَسْلَمون، والشُّفَعاء يَشْفَعون على ظَنِّ أنَّهُم يُشْفعون والْعُلَماء يشتغلون بالعلوم على ظَنِّ أنَّهم ينجحون ويتمَيَّزون. وكذلك النَّاظِرون في الأدلَّة والمجتهدون في تَعَرُّف الأحكام، يعتمدون في الأكثر على ظَنِّ أنَّهم يَظْفَرون بما يطلبون، والمرضى يَتداوَوْن لعلَّهم يُشْفَوْن ويَبْرَءون. ومعظم هذه الظُّنون صادِقٌ موافِقٌ غير مخالف ولا كاذب، فلا يجوز تعطيل هذه المصالح الغالبة الوقوع خوفا من نُدور وكذِب الظُّنون، ولا يفعل ذلك إلَّا الجاهلون”[6].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]– أدب الدنيا والدين/ أبو الحسن علي الماوردي ت 450هـ ـ دار مكتبة الحياة:  1/186.

[2]– سورة النجم

[3]– التحرير والتنوير/ محمد الطاهر ابن عاشور ، دار سحنون: 28/116.

[4]– أدب الدنيا والدين/ أبو الحسن علي الماوردي ت 450هـ ـ دار مكتبة الحياة:1/186.

[5]-أدب الدنيا والدين/ أبو الحسن علي الماوردي ت 450هـ ـ دار مكتبة الحياة:37.

[6]-قواعد الكبرى الموسوم بـ : قواعد الأحكام في إصلاح الأنام/ العز بن عبد السلام ـ المحقق: نزيه كمال حماد – عثمان جمعة ضميرية ـ دار القلم: 1421 هـ – 2000م : 1/6ـ7.

آخر اﻷخبار
1 comments

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M