الإنسان الأسود.. صانع الحضارة

09 يونيو 2017 09:41

ذ. طارق الحمودي

كان يومَ خميس حينما ألقى الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي خطابه الشهير جدا في مدينة داكار، وكان ذلك في 26 من شهر يوليوز من عام 2007م في حضور شباب أفريقي جاء ليستمع إلى ممثل عن الاستعمار الفرنسي القديم الحديث لدول جنوب غرب الصحراء الأفريقية آملا أن يجد خطابا يدل على حسن نية في إعادة تشكيل العلاقات الفرنسية الأفريقية على أساس من الاحترام للتاريخ والثقافة والسيادة، لكنه سيفاجأ يومها بخطاب دال على جهل كبير أو تجاهل، ولعل أقبح عبارة سجلها العالم عليه يومها  قوله: ‹‹المحزن في أفريقيا أن الإنسان الأفريقي لم يدخل التاريخ بما فيه الكفاية››، وتلقفتها وسائل الإعلام قبل السياسيين والمثقفين، وأحدثت عند الرأي العام الأفريقي والأوروبي صدمة كانت سببا في انتقادات لاذعة لساركوزي نعت فيها بالجاهل بتاريخ أفريقيا..

وبقواعد الديبلوماسية الخارجية، واستغلت الأحزاب السياسية الفرنسية الحادثة للضرب بشدة على وتر العنصرية وعدم الكفاءة الديبلوماسية، ووصل الأمر إلى إصدار دراسات خاصة عن تلك العبارات الغبية، ولم يكن الأمر متعلقا بساركوزي، بل بعقلية فرنسية متعالية لم تستطع كتم موقفها كما يجب، وخانها قلم كاتب خطابات ساركوزي.

بعد هذا الخطاب، ثار المثقفون الأفارقة السود، وعقدوا الندوات ونشروا المقالات مظهرين سخطا كبيرا، وكانت الفرصة مواتية لإعادة الحديث عن حقيقة الحضارة الأفريقية جنوب الصحراء، والكشف عن واحدة من أكبر الجرائم الثقافية التي ارتكبها الجناح الفاشي من الاستشراق الفرنسي في حق تاريخ وثقافات الأمم الأفريقية.

كان من محاسن الدستور المغربي لسنة 2011 أن نبه على الجذور الأفريقية للحضارة المغربية، فتولت ديباجته التأسيس لذلك بالحديث عن الروافد الأفريقية للهوية الوطنية، بل صرح بأن المملكة المغربية تؤكد وتلتزم بتقوية ‹‹علاقات التعاون والتضامن مع الشعوب والبلدان الإفريقية، ولا سيما مع بلدان الساحل جنوب الصحراء والصحراء››، وهذا دال على أن المغرب يعي جيدا طبيعة الموقع الثقافي لأفريقيا السوداء في تاريخ القارة بل في تاريخ العالم، وهو أمر يغفله أو يتغافل عنه ذوو الميولات الاستعمارية الحديثة من أصحاب البشرة البيضاء، وقد كان تنزيل مقتضيات النص الدستوري واضحا في زيارة الملك محمد السادس وفقه الله لكثير من الدول الأفريقية السوداء وسعيه الحثيث الذي توج بعودة المغرب إلى الأسرة الأفريقية.

ولم يكن كل ذلك إلا وضعا للأمور في مواضعها الصحيحة، وعودة إلى ربط الصلاة التاريخية والثقافية لدعم العلاقات السياسية والاقتصادية التي يبدو أن لها ثقلا كبيرا في مستقبل العمل الديبلوماسي المغربي.

استقر في معتقد أغلب الناس صورة نمطية تضع الرجل الأفريقي الأسود في مراتب دنيا من الإنسان الأبيض وتقدمه مخلوقا متخلفا متوحشا غبيا وضعيفا، وقد أسس لهذا تصريحات كثير من المستشرقين الأوروبيين قديما وحديثا، وأسهمت السينما الغربية في ترسيخ هذه الصورة القبيحة العقل الثقافي الجماعي للمجتمعات الاستهلاكية، وكان طرزان الأبيض دائما متغلبا على جيوش من السود كما هو حال رامبو مع الفيتناميين وغيرهم، ويصعب جدا التصديق بعكس ذلك، وبأن الرجل الأسود ذي الشفاه العريضة والشعر الجعد كان أصلا لكل الحضارات العالمية وفق النظرية التطورية الغربية، بل يصعب أكثر أن يتقبل الرجل الأبيض تبعا لنفس النظرية أن يسلم بأن الناس كلهم يرجعون إلى أصول سوداء!

في عنوان مستفز ومثير، يخرج الباحث الأنثروبولوجي الفرنسي ميشيل برونيت بكتابه “كلنا أفارقة“، ويجول العالم مبشرا بما توصل إليه العلم، وأن أصل الأجناس البشرية كلها أفريقي أسود وفق آخر الاكتشافات الحفرية …ووفق قراءاتهم الخاصة التي تنص على أن الإنسان في طوره الأسود بقي في أفريقيا مهد الإنسانية نحو خمسة ملايين سنة، ثم انتقلت مجموعات منهم إلى أوروبا …وهي سوداء البشرة، والتي ستتحول مع الزمن، وفق نظرية التطور الداروينية في زعمهم إلى بيضاء وسفراء بمميزات خلقية مختلفة! بل تذهب بعض الدراسات الجينية إلى أنه إن كان هناك “آدم” حقا، فإنه لابد أن يكون أفريقيا أسود البشرة!!

كل هذا على فرضية صحة نظرية التطور الداروينية، لكن الصحيح أن الله خلق آدم تاما من تربات مختلفة وجعل فيه جينات تحمل خصائص الإنسان الذي سيكون من نسله، ثم ظهر ميل ذريته مع الوقت إلى بعضها، وامتازت كل الفروع الآدمية بميزات تخصها واختارت أنسب الأماكن لسكناها واستطيناها على الأرض، وقد تحمل السود كما تحمل البيض وغيرهم الرسالات السماوية وعرفوا الوحي، ثم تفرق الناس أمما وقبائل وجماعات وشعوبا، وكان للسود دور كبير في صناعة الحضارة الإنسانية وتاريخها بلا تردد.

كان ما فعله الباحث السنيغالي شيخ أنتا ديوب المتوفى سنة 1986 بسكتة قلبية والحاصل على الدكتوراه من السوربون صادما للمجتمع العلمي الواسع، سوى بعض الصادقين الذين لم يفاجؤوا، فقد كتب ديوب مجموعة من المصنفات عن تاريخ الحضارات الأفريقية، وبيَّن معتمدا على الوثائق المنقوشة والمرسومة وغيرها للاستدلال على أصالة الجنس الأسود في صناعة الحضارة العالمية، ولعل أبرز ما أثاره في كتاباته أن رجح كون جزء من الحضارة الفرعونية أفريقيا أسود في كتابه “Nations Négres et culture“، والذي ترجمه حليم طوسون إلى العربية تحت عنوان “الأصول الزنجية للحضارة المصرية“.

وتحكي الآثار التاريخية أن أسرا ملكية  نوبية سودانية كانت جزءا من الحكم الفرعوني في مصر في بعض الأزمنة، بل إن مينس موحد القطرين مصر والنوبة في العام 3000 قبل الميلاد كان نوبيا، ولديوب مصنفات أخرى كثيرة كانت ملهمة لطائفة من الباحثين الأفارقة السود خاصة للدفع برسالة ديوب في إعادة الاعتبار لإفريقيا السوداء، وعودة المغرب إلى الاتحاد الأفريقي عودة طبيعية ومعقولة وذكية، وقد كان للمغرب دائما اتصال ثقافي واقتصادي بأكابر الممالك في جنوب غرب الصحراء، فقد تعاقبت على منطقة السنغال وموريتانيا ومالي وغيرها ممالك مثل مملكة غانا ومملكة مالي ومملكة سونغاي، وانتهى بها المطاف إلى الدخول في الإسلام، وتعد تاريخيا جزء من الغرب الإسلامي.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M