البعد السياسي لوثيقة المدينة (1)

29 سبتمبر 2018 17:29
البعد السياسي لوثيقة المدينة (1)

عبد الرزاق سماح – هوية بريس

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. وبعد..

إن هذا المقال جزء من بحث قدمته كمشروع نهاية الدراسة في شعبة الدراسات الإسلامية لنيل شهادة الإجازة بعنوان:” مفهوم المواطنة من خلال وثيقة المدينة”.وهذا المقال يمثل بعدا من الأبعاد الحضارية لهذه الوثيقة، يُتبع إن شاء الله بمقالات أخرى تُظهر ضرورة قراءة جديدة للسيرة النبوية العطرة لمعرفة الغاية الحقيقية من بعثت المصطفى  للبشرية جمعاء.

 

“إن ميثاق المدينة أنشأ مجتمعاً مدنياً عالمياً قائماً على الولاء التعاقدي بين أفراده وجماعاته، متنوع في انتمائه الديني، من خلال الالتزام بمجموعة من المبادئ الأخلاقية الكلية التي شكلت الميثاق المدني، وأخضعت ولاء العضوية للجماعات السكانية المختلفة (من مسلمين ويهود ومشركين) إلى الولاء التعاقدي”.

– هل تعلم أننا: لا نكاد نعرف من قبل دولة قامت منذ أول أمرها على أساس دستور مكتوب غير هـذه الدولة الإسلامية، فإنما تقوم الدول أولا ثم يتطور أمرها إلى وضع دستور.

– هل تعلم أن: وثيقة المدينة تعتبر أول دستور في التاريخ ينظم العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين،حيث اعتمد الرسول في الوثيقة مبدأ المواطنة، فوضعت فيها الحقوق والواجبات على أساس المواطنة الكاملة التي يتساوي فيها المسلمون مع غيرهم من ساكني المدينة المنورة ومن حولها.

– هل تعلم أن: هذه الوثيقة تعد أول دستور مكتوب في التاريخ يعترف بحقوق المواطنة لجميع سكان الدولة باعتبارهم(أمة من دون الناس( ، فهم جميعا شركاء في نظام سياسي واحد،يضمن لهم حقوقًا متساوية، ويستظلون بحماية الدولة، مقابل أدائهم واجباتهم في الدفاع عنها، لذا فقد رضي سكان المدينة كلهم، بها دستورا حاكمًا بينهم، لما وجدوه بها من عدل ومساواة.

– هل تعلم أن: اختلاف الدين ليس سببًا للحرمان من مبدأ المواطنة.

هل تعلم أن: هذه الوثيقة تعتبر أصلاً تفرعت عنه نصوص القانون الدولي في الإسلام، وتنظيم العلاقات بين مختلف الفئات باختلاف عقائدها ومواطنها.

هل تعلم أن: الإسلام لا يرى حرجا في وضع دستور مكتوب للوطن الذي يتكون من مجموعات مختلفة يوحدها العيش في حدوده،يكفل للجميع ما كفلته وثيقة المدينة من حقوق وواجبات.

– هل تعلم أن: المجتمع السياسي الذي أنشأته الوثيقة، هو مجتمع تعاقدي متنوع في انتمائه الديني.                                                                                   

 – هل تعلم أن: هذه “الوثيقة” التأسيسية استطاعت أن تستقطب وتقود كل هذه الأمشاج وهذا الشتات المجموع جمع توليف لا تعسف وفق تصور جديد قائم بالأساس على مفهوم”الأمة” ذي الطابع السياسي والمدني لا العقدي الديني.

– هل تعلم أن: أول مفهوم للأمة ظهر في المدينة من خلال بنود الوثيقة: “فهي كيان اجتماعي سياسي، يقوم على أساس “الفكرة والعقيدة”، لا على أساس الدم ،أو على أسس بيولوجية،لا تحدها لغة أو جنس أو وطن، ولا تصادر الأفكار والعقائد الأخرى، بل لها من الرحابة ما تستوعب به العناصر الأخرى دون صهر أو تذويب، قابلة للتوسع والتقلص تبعا لعدد من ينظم إليها أو يتركها باختياره”

–  هل تعلم أن : المقصود هنا بالأمة أولئك الذين يعبر عنهم القرآن غالبا بالناس،فالرسول أرسل للناس كافة،بالمعنى الواسع للكلمة.العالم كله هو مجال الدعوة،والناس في العالم بالتالي أمة محمد

( أمة الإستجابة وأمة الدعوة).                                                                                   

– هل تعلم أن: اليهود الذين حالفوا المسلمين (أمة مع المؤمنين)، وليسوا جماعة سياسية منفصلة، فهم يشكلون أمة بالمعنى السياسي وليس العقدي (لليهود دينهم وللمسـلمين دينهم)، فيكـون المجتمع الجديد أمة واحدة بالمعنى السياسي وأمتين بالمعنى العقدي.

–  هل تعلم أن : النظام السياسي الإسلامي تبنّي “مبدأ التسامح الديني المبني على حرية اعتقاد أفراد المجتمع”

– هل تعلم أن: الوثيقة كفلت الحرية الدينية لليهود، واعتبرتهم “أمة مع المؤمنين”،وضمنت لهم مايشبه الحكم الذاتي وخاصة فيما يتعلق بشؤونهم الدينية وأحوالهم الشخصية.

– هل تعلم أن: حق العضوية في الأمة يتحدد، كما تشير الوثيقة، في قبول مبادئ النظام الجديد، الاتباع واللحاق والجهاد.

 

مقدمة:

إن ربانية المنهج الإسلامي الذي جاء به محمد  من ربه في القرآن الكريم والسنة المطهرة ، لا يمثل ، ولم يمثل إشكالية لأتباعه بين مصالحهم ومبادئهم، ولا  بين السقف الحضاري الذي يعيشونه في لحظة تاريخية معينة ، وقيم الإسلام الثابتة.

وبما أن الإسلام دين الله للبشر، فقد جعل قيمته الكبرى وهي العبودية لله حاكمة على تلك الدوائر المحيطة بالإنسان (الأسرة ، العائلة ، القبيلة ، الوطن .. إلخ)  كلها صابغة إياها بصبغة الإسلام المتميزة ، مما يجعل تلك الدوائر متناغمة فيما بينها دون تشاكس تبعاً لوحدة القيم الموجهة لها .

والواضح أن مشكلة المسلمين – في هذا العصر – هي في تعاملهم مع قضايا الحياة لا من خلال قيم دينهم مباشرة ، ولا من خلال مصالحهم المستقلة ، وإنما من خلال التفاعل مع حضارة الآخر، إما استلاباً لمعطياته الحضارية ، أو مخالفة لها ورفضاً ، بذريعة العداء التاريخي مع هذا الآخر، أو الاختلاف الديني معه.

وقد أصبح من الضروري التفريق بين “المشروع الحضاري الإسلامي” الذي يقوم على ثوابت الإسلام وقواعده الأساسية ويسعى لتحقيق عالميته،وبين “المشاريع السياسية الإسلامية” التي يسعى أصحابها لتقديم معالجات أو مشاريع سياسية في أطر إقليمية أو قومية محددة.

كما أصبح من الضروري المحافظة على مقصد سلامة المنطلقات الإسلامية أكثر من المصلحة السياسية المتحركة المتغيرة، منبهين إلى أن المنطق الإسلامي الفكري الذي يعتبر الدعامة الأساسية للمشروع الحضاري الإسلامي يقوم على ثوابت الإسلام، لا على متغيراته، وحين ينظر المشروع الحضاري الإسلامي إلى المتغيرات فإنما ينظر إليها في إطار تلك الثوابت.

إن استعارة مفاهيم من نسق حضاري مختلف له جذوره وأصوله الوثنية وقواعده المغايرة ليس كاستعارة ألفاظ عادية أو ترجمة مصطلحات ميكانيكية، زراعية أو صناعية أو وسائل وأدوات حضارية، وإن كنا نرى أنه حتى في هذه المصطلحات هناك أمور كثيرة لا بد من ملاحظاتها، لأن وراء كل من الآلة والأداة والمصطلح الذي يعبر عنها أفكاراً لا يسعنا تجاهلها أو إهمال دورها في التأثير الفكري والعمراني، لكن الأمر في هذه قد يكون أهون خطراً وأقل شأناً من عملية استعارة مفاهيم حضارية من أنساق مغايرة مشحونة بجملة من الأفكار متصلة بكثير من القواعد، ومؤدية إلى

كثير من الآثار في مختلف جوانب الحياة مثل “المواطنة” و”الديمقراطية” ونحوها.

فكان من الواجب التنبيه للمستعيرين لهذه المفاهيم إلى وجوب وضع الضوابط المناسبة، والمعايير الضرورية لهذا النوع من الاستعارة، لئلا تنهدم السدود بين الثوابت والمتغيرات في إطار الحوارات السياسية.

 

نظام الدولة

كانت يثرب قبل قيام الدولة الإسلامية مقسمة إلى خمسة أجزاء، كل جزء منها تسيطر عليه قبيلة من القبائل، سواء كانت عربية أو يهودية، ويعيش على ذلك الجزء مختلف البطون والعشائر للقبيلة الواحدة، وكانت كل قبيلة تشكل وحدة الحياة الاجتماعية، وفي مضمونها وحدة الحياة السياسية المستقلة بنفسها. وقد كان الخلاف بين مختلف القبائل مستحكما، فيهود بني النضير وقريظة نكلوا بيهود بني قينقاع وأخرجوهم من ديارهم ومزارعهم وسفكوا دماءهم، جريا وراء مصالحهم الشخصية،وقد ندد القرآن الكريم بأعمالهم(1) .

وبعد الهجرة كانت قبائل اليهود وبطونها في حالة واضحة من التفكك، وكان إحساسهم بالترابط منعدما، فلم يبد أي بطن من بطونهم أي إحساس بالعطف نحو الآخر حين وقعوا في خلاف مع النبي .

أما العرب – الأوس والخزرج- فقد تمكن اليهود، عن طريق الدسائس والمؤامرات، أن يلقوا العداوة والشحناء بين الفريقين، فكانوا يعيشون دائما في حروب دامية متواصلة، كان آخرها حرب (بُعاث) قبل الهجرة بخمس سنوات.. فالتنافر بينهم مستحكم، والعداء مزمن، منذ أمد بعيد.

وقد وَصف حالَهم هـذا للنبي نفرٌ من الخزرج حينما عرض عليهم نفسه فآمنوا به، قائلين له:

“إنا قد تركنا قومـنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، وعسى أن يجمعهم الله بك”(2) .

فلم تكن لهم قبل ظهور الإسلام دولة لها سلطان مستقل يخضعون له على اختلاف قبائلهم، ولا هـيئة منظمة يوظفونها للرجوع إليها والنـزول عند حكمها، كما لم يكن لهم عرف في جزيرتهم على حدود وثغور لـها جيشـها المنظم وارتباطاتها وعلائقها… وإنما كان كيان العرب الاجتماعي الطبيعي ينمو وتتشابك أغصانه، وتلتف فروعه، وترسو جذوره في إطار القبيلة فقـط الذي يرأسها «شيخ» هـو لها بمقام الملك؛ لأنه هـو المرجع المسئول في السلم وفي الحرب، يقصده أفراد القبيلة من ذوي الحاجات، ويتولى الشئون العامة، ويفصل في المنازعات، لكن كثرة الخلافات وعمقها بين القبائل والبطون أو بين أفرادهما تظل عالقة بينهم، لأن اللجوء إلى حلها حلا قبليا أو عشائريا لا ينتهي إلى الحسم في الغالب بل تظل له صفة التراضي(3) .

فحين قدم الرسول المدينة كون منها مجتمعا جديدا موحدا يختلف في جميع مناحي حياته عن المجتمع الجاهلي، ويمتاز عن أي مجتمع يوجد في العالم الإنساني حينئذ، لأنه ارتكز في بنائه على

_____________                                                                                                                            

(1)انظر الآيات (83-84) من سورة البقرة.
(2) المباركفوري صفي الرحمن،الرحيق المختوم،ص 180.

(3)خالد،حسن،مجتمع المدينة قبل الهجرة وبعدها،ص70.

 

كتبه عبد الرزاق سماح

عضو مؤسس لحركة المجاهدين بالمغرب (تم حلها)

آخر اﻷخبار
1 comments
  1. اعيب على الكاتب انه لم ينشط لكتابة الصلاة على النبي محمد صلى الله عليه وسلم عند ذكره النبي. محمد صلوات ربي وسلامه عليه
    الموضوع كبير حدا يحتاج لتقييم ذوو البصائر والعلم وهذا ليس فيه بخس لمكانة الشيخ

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M