التحبير في الرد على صاحب التيسير (الحلقة الأولى)

04 أبريل 2016 22:18
الدروس المؤصلة لمن خالف العلماء وفقد البوصلة

منير المرود*

هوية بريس – الإثنين 04 أبريل 2016

بسم الله الرحمان الرحيم

والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا وحبيبنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:

فقد كتب “محمد بن الأزرق الأنجري” ردا على الحلقة الثانية المتعلقة بحديث فضائل القرآن الجزءَ الثاني من تيسيره للدروس الحديثية، فأغرب مرة أخرى وأتى بالعجائب، بل إنه قد أخطأ أخطاء فادحة لم أكن أظن يوما أن يقع فيها من ينسب نفسه لعلم الحديث الشريف، وهذه الأخطاء كانت تقع من بعض طلبة الجامعة في سنتنا الأولى من الطلب، وكنا نستنكرها استنكارا شديدا آنذاك، والعجب كل العجب أن أراها تتكرر من أحد خريجي دار الحديث الحسنية.

ولن أطيل على القارئ الكريم، وسأدخل مرة أخرى على رحاب درس شيخنا الجليل، لننظر مبلغ علمه في طبعات الكتب ونسخها بل وأسمائها، وما يعتمد منها في البحث العلمي وما لا يعتمد، وغير ذلك من القضايا التي ناقشها في رده المذكور.

وقبل الشروع في البحث، أود التنبيه على أنني سأقسم هذا المقال إلى أربعة أقسام، سأتحدث في الأول منها على ما وافق فيه “ابن الأزرق” الصواب في استدراكه علينا، بينما أخصص الثاني: لما اعترف فيه بخطئه، والثالث: لما تجاهله، وسكت عنه، ولم يقدر على الجواب عليه، ثم سأختم بالحديث عن مناقشات علمية لزلات حديثية ومنهجية وقع فيها أستاذنا عن عمد أو جهل.

القسم الأول: ما وافق فيه الصواب

1 ـ استدرك علي قولي: (والأصل في الراوي عدم السماع حتى يقوم الدليل على عكس هذا الأصل )، فكان الصواب حليفه، والحمد لله .

2 ـ أصاب في رده لما توهمته من وجود انقطاع بين القرظي والحارث الأعور: ورغم أن الأمر لا يزال فيه دخن، خاصة فيما يتعلق بكلام الإمام أحمد حين يحصر روايات القرظي عن علي رضي الله عنه في رجلين اثنين، إلا أن حجة “ابن الأزرق” كانت أقوى. والله أعلم.

القسم الثاني: ما اعترف فيه بخطئه

قال “ابن الزرق” في تعليقه على خطئه في عزو التصريح بالسماع بين ابن إسحاق والقرظي : ( إلا أنه أصاب في مسألة وحيدة، وهي أنني أشرت إلى وجود التصريح بسماع ابن إسحاق عند أبي يعلى الموصلي، وليس كذلك، فشكر الله الأخ على تنبيهه، ولم يكن ذلك إلا غفلة مني وسهوا ).

قلت: الملاحظ أن “ابن الأزرق” تأدب مع نفسه حيث جعل سبب هذا الخطأ هو الغفلة والسهو، أما غيره فينسبه إلى التقصير في البحث، وهذا مخالف للعدل الذي قامت عليه السماوات والأرض، فلو أنه تلطف في العبارة أثناء استدراكه على العلماء قديما وحديثا في بحوثه ومقالاته لما احتجنا إلى كل هذه المهاترات والمناقشات.

ونحن لم نسلك معه هذا المسلك في الرد إلا غيرة على أئمة الإسلام من قلمه اللاذع، ولسانه السليط، ولو تأدب معهم، وحفظ لهم حقهم، لخاطبناه بوقار وتبجيل، ولاعتبرنا مقالاته اجتهادات شخصية، تنطلق من قناعات مبدئية قد يخالف في بعضها ويوافق في البعض الآخر.

القسم الثالث: ما سكت عنه “ابن الأزرق” والصواب فيه معنا

قلت في الحلقة الثانية من “الرد على حديث فضائل القرآن” تحت عنوان: الزلة الرابعة:

قوله: ( وذكره مترجموه في الرواة عنه )، أي أن أصحاب التراجم ذكروا أن محمد بن إسحاق بن يسار من الرواة عن محمد بن كعب القرظي.

قلت: لم يذكر أحد ممن ترجم له ـ فيما أعلم ـ أنه ممن روى عنه، بل جميع القرائن تدل على أنه لم يأخذ عنه الحديث مشافهة بل بواسطة كما ذكرنا من قبل، وهذا تدليس قبيح من “ابن الأزرق”، إذا لم يذكر من هم هؤلاء الذين عدوه من شيوخه. اهـ

أقول في “التحبير 2”: فسكت “ابن الأزرق” عن الكلام، وأفحم ولم يستطع الرد على هذا الإلزام، وهذا لا يخلو من أحد أمرين اثنين: إما تدليس مقصود، أو سبق قلم مقبول مغفور.

القسم الرابع: مناقشة أخطائه في التيسير

درس في نسخ البزار

الاستدراك الأول:

قال أستاذي بعد أن نقل استدراكي عليه أثناء خطئه في عزو حديث الفضائل للبزار، ـ ويا ليته ما تكلم ولا قال ـ : (زعم أنني أخطئ في الإحالة والعزو لأنني أنقل عن غيري، ودافعه إلى ذلك هو الظن بأنني لا أملك القدرة للوصول إلى المراجع بنفسي، فأتكل على غيري، وهو ظن كاذب ينقصه البرهان من قبل ظانِّه، إذ لم ينقل للقراء أي مثال على ظنه الذي لا يغني من الحق شيئا، فهو التهويل والادعاء )

قلت: بل الأمثلة على ذلك كثيرة، والشواهد عديدة وغزيرة، ألم تقرأ ما سودته في المقدمة التاسعة، أم أنك لم تتأمل فيما كتبته في الجزء الأول من التحبير، أم أخالك لم تنظر بعد فيما دونته من أخطاء غزيرة في العزو في باقي حلقات الجزء السادس من السلسلة… إلخ.

ذلك أنك في كثير من الأحوال تخطئ في إصدار الأحكام على نصوص واضحة لا تدل إلا على معنى وحيد وصريح، فتزيل النص عن سياقه السابق واللاحق، ثم تستنتج بعد ذلك استنتاجات خيالية بعيدة عن كوكبنا بملايين السنوات الضوئية، فيحق لي حينها أن أتساءل، هل يقع منك ذلك قصدا بهدف التدليس ؟، أم تكاسلا ؟، أم اغترارا بغيرك؟.

علما أن أستاذي هنا لم يلتزم بالأمانة العلمية، وأوهم القارئ بأنني أتهمه بالنقل عن الغير فقط، ولم يذكر أن هذه التهمة جعلتها في المرتبة الثانية، بالرغم أنه نقل كلامي كاملا، إلا أنه لم يركز إلا على هذا الجزء منه، وأغفل ما قبله، وهو قولي: « لا يمكن الركون إلى إحالات “ابن الأزرق” لأنه كثيرا ما يخطئ فيها نظرا لغفلته وقصوره في البحث، أو نقله ذلك عن غيره دون تكلف عناء الرجوع إلى المصادر للتأكد من صحة ما نقل، وقد ضربت لذلك مثالا في المقدمة التاسعة من هذه السلسلة فلتراجع ».

فقدمت القصور والغفلة على الاعتماد على الغير، كما أنني أرشدت القارئ الكريم ومعه “ابن الأزرق” نفسه إلى المثال الذي ضربته على ذلك في المقدمة التاسعة من السلسلة، لكنه بتر هذا الجزء من كلامي ـ وهو المشار إليه باللون الأحمر أعلاه ـ، ثم قال : (وهو ظن كاذب ينقصه البرهان من قبل ظانِّه، إذ لم ينقل للقراء أي مثال على ظنه الذي لا يغني من الحق شيئا ) اهـ.

يقول هذا مع العلم أنه أسقط المثال ولم يعلق عليه بأي كلمة، خاصة وأنه لم يشترط أن يكون المثال صادقا، بل اكتفى بقوله ” أي مثال”، يعني ولو لم يكن صحيحا صريحا، والأمانة تقتضي أن يشير إلى المثال الذي ذكرت، ثم يعلق عليه بما يفنده ويدحضه، لا أن يبتره ويسقطه عمدا، لأنه فعلا لا يدل إلا على أحد أمرين: إما الغفلة والتكاسل عن قراءة الكلام كله، أو الاعتماد على الغير ممن لا يؤتمن في النقل.

وأنا لا أريد أن أطيل بذكر الأمثلة التي أرادها “ابن ألأزرق”، لأنها متفرقة في هذه الحلقات من الجزء السادس، وهي كثيرة يشق عدها، ولو شاء المخاصمة والمعاندة، لجمعتها له في بحث مستقل أردفه بالمقدمة التاسعة.

الاستدراك الثاني: ( فضيحة علمية )

أراد المسكين أن يستدرك علينا حينما أنكرنا عليه عزوه الخاطئ لمسند “البزار”، فقال:

(نسخة مسند البزار التي عزوت إليها الحديث هي من ترتيب الدكتور علي بن نايف الشحود المعتمدة في الإصدار الثاني من موسوعة الشاملة، نظرا لكمالها وحسن ترتيبها وقلة الأخطاء والتصحيفات فيها.

وقد أحالني صاحبنا على الشاملة، أي أنه على دراية بإصداراتها، فكيف غاب عنه أن يراجعها؟ أم هو الإمعان في التجاهل لتسويد وجه المخالف بأي أسلوب؟ )

قلت: يا ليتك يا أستاذي الكريم ما علقت ولا تكلمت، فقد وقعت في خطأ  لا تغبط عليه، أتعلم يا شيخي الكريم، أننا في سنواتنا الأولى من الطلب، كنا نتعلم أنه لا يمكن الاعتماد في البحوث على التصانيف المكتوبة على صيغة “الوورد”، والتي ليس لها طبعة علمية موثوقة، بل إننا لا نثق ببعض دور النشر التجارية، لبعدها عن التحقيق والتدقيق، فكيف تستسيغ إذا أن تعتمد في العزو لمسند البزار على نسخة إلكترونية غير مطبوعة طبعة علمية، بل إنها غير كاملة، لأن الدكتور علي بن نايف ـ شكر الله له جهده وصنيعه هذا ـ لم يكمل تنسيق مسند البزار كاملا، حيث اقتصر عمله على الأجزاء الخمسة عشر الأولى، إلى حدود الحديث رقم 9018. بينما عدد أحاديث المسند بلغ 10082 حديثا إلى نهاية الجزء 17 مع العلم أن محقق الجزء الثامن عشر لم يلتزم بهذا الترتيب بل جعل له ترتيبا مستقلا، وأضاف حوالي 327 حديثا.

فمثل هذه المصادر لا يمكن الركون إليها، ولا يصح الاعتماد عليها في البحوث والمقالات العلمية، وسأبين لابن الأزرق ذلك من خلال مثال بسيط:

قمتَ بعزو الحديث إلى البزار 1 / 155، ولنفرض جدلا أننا نعلم أنك أحلت على تنسيق الدكتور نايف للمسند، فإذا أراد طالب علم أن يعتمد على مقالك ويرجع إلى هذا الحديث في المسند، فأي طريق سيسلك، ونحن نعلم ـ وما أخالك تعلم ذلك ـ أن هناك ثلاث نسخ منتشرة على الشبكة لتنسيق الدكتور نايف، الأولى وهي الأصل عبارة عن نسخة وورد من حوالي 2109 صفحة[1]، نجد فيها حديث الفضائل في ص: 275، والثانية: عبارة عن ملف (بي دي إف ) نجد الحديث فيها في الصفحة 285، وأما الثالثة فهي نسخة الشاملة حيث نجد الحديث في  1 / 155.

وتجدر الإشارة إلى أن تقسيم العمل ووضعه في الشاملة إلى قسمين لا يستند على أي أساس علمي، لأن صاحب العمل لم يقسمه، بل جعله كاملا على “الوورد” لكي يسهل الوصول إلى الأحاديث، حيث قال في معرض حديثه عن عمله في هذا “الكتاب”: « جعلت ملف الورد واحدا وذلك لسهولة البحث فيه » ( أنظر ص: 6 ـ نسختي : ب يدي إف و الوورد ـ و 1 / 2 نسخة الشاملة ). وإن كان هو نفسه من شارك في رفعه للشاملة، إلا هذا التقسيم إلى الجزء الأول ثم الثاني غير ملزم.

أقول هذا مع قدرة صاحبنا على الرجوع إلى مسند البزار في المكتبة الشاملة أيضا، حيث توجد طبعة مكتبة العلوم والحكم التي أشرت إليها في “التيسير”، وهذا أيضا يجعلنا نشك في اعتماد “ابن الأزرق” على غيره في التخريج.

ولئن كنت أشرت على حذر ـ في الحلقة الثانية من الجزء السادس من التيسير ـ بوجود طبعة وحيدة لمسند البزار، فإني أجزم هنا بأنها الطبعة العلمية الوحيدة للكتاب، وأنها المعتمدة في الدراسات والبحوث، أما من يعزو لغيرها فلا يعدو أن يكون إما طالبا مبتدئا، وإما ناقلا مدلسا.

الاستدراك الثالث 

قال شيخي: (: ادعى صديقنا منير أن لمسند البزار طبعة وحيدة هي طبعة مكتبة العلوم والحكم سنة 1988 )اهـ

قلت: وقد تبين أنه الصواب.

ثم قال فرحا باعتقاده أنني ارتكبت مصيبتين علميتين: (الأولى: مسند البزار / “البحر الزخار” لم تطبعه مكتبة العلوم والحكم جملة واحدة سنة 1988 كما ادعى الكاتب، بل بدأت طبع بعض أجزائه منذ تلك السنة، ولم تنته من طبعه إلا عام 2009. ) اهـ

قلت: ما هذا الاستئساد يا أستاذ، فليس كل ما يعرف يقال في البحوث، وقد تعلمنا في مدارسنا منذ نعومة أظافرنا أن “شرح الواضحات من المفضحات”، فمن هذا الذي لا يعلم أن مكتبة العلوم لم تطبعه جملة واحدة، وأنا لم أدع أنها طبعت جملة واحدة، وتقدير الكلام هنا هو ” منذ سنة 1988 “، والدليل على ذلك أنني ذكرت هذه الحقيقة في الحلقة الثالثة أثناء تعليقي على خطأ مماثل في العزو حيث قلت هناك: « وهذه الأخطاء في العزو تتكرر دائما من “ابن الأزرق”، وهي دليل على قصوره وغفلته، لذلك لا يمكن الاعتماد عليه في شيء من ذلك أبدا، وقد أشرت في الحلقة السابقة إلى سقطة مماثلة، وبينت أن الطبعة العلمية الوحيدة للمسند هي طبعة مكتبة العلوم والحكم والتي بدأ طبعها منذ سنة 1988 إلى حدود سنة 2009م بأجزائها الثمانية عشر، وهي النسخة المتوفرة في المكتبة الشاملة، ولا أعتقد بوجود طبعة غيرها، وإن وجدت فعليه أن يشير إليها في الهامش كما هي قواعد البحث العلمي الرصين»، وهذه الحلقة قد نشرت على الشبكة قبل الجزء الثاني من التيسير، وذلك بتاريخ 19 فبراير من السنة الجارية، في حين أن هذا الجزء من التيسير قد نشر بتاريخ 21 فبراير، أقول هذا: حتى لا يعتقد البعض أننا أضفناها هناك بعد استدراك ابن الأزرق علينا.

وانطلاقا مما سبق يتأكد لنا ما يلي:

  • عدم الركون فعلا إلى إحالات ابن الأزرق

  • أنني على علم سابق بأن البحر الزخار لم يطبع جملة واحدة

  • التأكيد على عدم وجود طبعة أخرى للكتاب

  • التنصيص على وجوب الإشارة إلى الطبعة التي اعتمد عليها في البحث إن وجدت.

الاستدراك الرابع

قال أستاذي فيما يعتقد أنها مصيبة علمية:

(الثانية: نفى صاحبنا وجود طبعة غير التي ذكر، اعتمادا على “علمه” الذي لا يساوي جناح بعوضة في مجال الطباعة والنشر ) اهـ.

قلت: والله لقد أصبت كبد الحقيقة بوصفك لعلمي في مجال الطباعة والنشر بأنه لا يساوي جناح بعوضة، بل قد بالغت إذ أن الجناح يشغل جزءا كبيرا من جسد الذبابة مقارنة بعلمي الضئيل جدا في عالم النشر والطباعة، فماذا عن علمك يا شيخ؟!، أخشى أن يكون أقل من ذلك بكثير!، والدليل أنك اعتقدت أن عمل الدكتور علي بن نايف طبعة علمية معتمدة، كما أنك لم تفرق بين “البحر الزخار” للبزار ، و”كشف الأستار” للهيثمي، كما سيتبين في خطئك التالي.

ثم قال مستعرضا لعضلاته، وفرحا باكتشافاته:

(ونحن نفيده من كلام إمامه الألباني رحمه الله، فإنه يقول في (سلسلة الأحاديث الضعيفة(13/908): ثم طبع “المختصر” بتحقيق صبري بن عبد الخالق، وهو فيه (1/118/77). وطبع قبله أصله “كشف الأستار عن زوائد البزار” بتحقيق الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي غفر الله له، وهو فيه (1/85/140). وأخيراً طبع ثلاثة مجلدات من أصله وهو “البحر الزخار المعروف بمسند البزار” تحقيق الأخ الفاضل الدكتور محفوظ الرحمن، ينتهي الثالث منها بأواخر مسند سعد بن أبي وقاص).

وفي كلام الألباني هذا فائدتان غائبتان عن المتشيع له:

الأولى: التصريح بأن طبعة الأعظمي سابقة على طبعة مكتبة العلوم بتحقيق محفوظ الرحمن التي لا يعرف المرود سواها.

والثانية: الإقرار بأن البحر الزخار لم يطبع كاملا دفعة واحدة من قبَل مكتبة العلوم والحكم. ) اهـ

قلت ـ منير المرود ـ: يا لهول المصيبة، ويا لفاجعتي فيك يا “ابن الأزرق”، أوشك أن أدع هذه المناقشة، وأعرض عن كتابة هذه الردود، لما أراه من قصور في صاحبه غير محسود.

على من أرد ؟، ولمن أكتب ؟، وكيف ستفهم كلامي وتستوعب استدراكاتي عليك، وأنت لم تستطع فهم كلام الشيخ الألباني هنا ؟، خاصة وأن هذا المقطع الذي نقلتَه خارج محل النزاع، وكأني بك تعيش في كوكب آخر، أو كأنك وضعت عقلك في صندوق من حديد، وأحكمت إغلاقه ثم رميت به في قعر المحيط[2]، فهو يتقلب بين الأمواج العاتية باحثا له عن منفذ.

لقد ذهلت مما قرأت، وتركت حاسوبي وفررت، لأسترخي قليلا، ثم أتابع الرد الذي كنت بدأت، حيث قرأت تلك الفقرة من كلامك مرات ومرات حتى مللت، ثم لما تأكد لي قصدك، قلت في نفسي: بما أن الأمور تسير على هذا النحو، فإنني سأتبرع عليك مرة أخرى يا أستاذ بشرح كلام الشيخ الألباني رحمه الله.

فأقول: قد كان الشيخ رحمه الله يتحدث عن تخريج حديث:

« إني لأعرف أناسا ما هم أنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء بمنزلتهم يوم القيامة: الذين يحبون الله ويحببونه إلى خلقه، يأمرونهم بطاعة الله، فإذا أطاعوا الله، أحبهم الله»

فحكم عليه بالوضع، ثم عزاه إلى البزار اعتمادا على  مختصر الزوائد للحافظ ابن حجر والذي لم يكن قد طبع بعد ـ حسب ما يقتضيه سياق الكلام ـ، ثم لما طبع الكتاب بتحقيق صبري بن عبد الخالق عزى الحديث إليه وبين موضعه فيه، وذلك قوله: « ثم طبع “المختصر” بتحقيق صبري بن عبد الخالق، وهو فيه (1/118/77) ».

ثم قال: « وطبع قبله أصله “كشف الأستار عن زوائد البزار” بتحقيق الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي غفر الله له، وهو فيه (1/85/140) ».

قلت: وكشف الأستار هذا للهيثمي رحمه الله، وقد وضعه على الكتاب الأصل ” مسند البزار” لاستخراج أحاديثه التي رواها وهي غير موجودة في الكتب الستة ورتبها على مجموعة من الكتب والعناوين ذات الموضوع الواحد، وقد كان مجموعة من العلماء ـ ومنهم الألباني رحمه الله في سلسلتيه ـ يعتمدون عليه، وعلى مجمع الزوائد للمؤلف نفسه، وكذا على مختصر الزوائد لابن حجر المذكور قبل قليل أثناء عزو الحديث للبزار في مسنده، فما علاقة هذا الجزء من كلام الشيخ رحمه الله بمسند البزار. سبحانك اللهم إنا نعوذ بك من هذا الفهم السقيم.

وكيف يعقل أن يستدرك علينا بعد ذلك “ابن الأزرق” بقوله: (التصريح بأن طبعة الأعظمي سابقة على طبعة مكتبة العلوم بتحقيق محفوظ الرحمن التي لا يعرف المرود سواها ). وقد علمنا أن العلامة المحقق حبيب الرحمان الأعظمي لم يحقق مسند البزار، وإنما حقق كشف الأستار للهيثمي رحمة الله على الجميع.

وما لا يعلمه الأنجري أن الشيخ الألباني رحمه الله اعتمد في سلسلتيه الصحيحة والضعيفة على “مجمع الزوائد” و”كشف الأستار” و”مختصر الزوائد” في عزو الأحاديث لمسند البزار، فلو كان المسند مطبوعا حينها، فكيف لا يعتمد عليه مباشرة ؟، ولو لم يفعل لكانت نقيصة لا يمكن قبولها من أي باحث إلا المرة والمرتان، أما أن يكون عمدته دائما في التخريج الفرع، والأصل موجود، فهذا ما يتنزه عنه كل طالب مبتدئ، فكيف بالشيخ العلامة المدقق الذي كاد أن ينتهي.

وأما قوله في نهاية المقطع أعلاه: (والثانية: الإقرار بأن البحر الزخار لم يطبع كاملا دفعة واحدة من قبَل مكتبة العلوم والحكم ) اهـ.

فقد سبق رده بما لا يدع مجالا للشك بأن هذا الأمر كان معلوما عند كاتب هذه السطور، لأن من جرب الكتابة يعلم أن الباحث أحيانا ينشط فيسود ورقات لإيصال فكرة معينة، وأحيانا يكسل فيوصل الفكرة بأبسط عبارة.

درس في سماع ابن إسحاق من محمد بن كعب القرظي:

ذكر أستاذي كلاما طويلا لي في رد سماع ابن إسحاق من محمد بن كعب القرظي لهذا الحديث، وقد قام ببتر مقطع مهم منه، فيه أبلغ رد على مجموعة من الشبه التي أوردها بعده، فهل كان ذلك منه سهوا أم عمدا؟، الله أعلم بما تخفي الصدور.

وبما أن المقطع طويل، سأكتفي بإيراد جزء مما قبل السقط وما بعده، مع ذكر الجزء المبتور بعد ذلك، وفيما يلي نص كلامي :

 (… وهذا لا ينفي ورود بعض الروايات في كتب السنة التي وقع فيها التصريح بالسماع بين “ابن إسحاق” و”القرظي”«…» إلا أنه ليس فيها ما يطمئِنُّ القلب إليه، فنعتمده كسند نستدل به على الاتصال بينهما، لأن كل ما يصرح فيه بالتحديث هو من كلام “القرظي” نفسه … ) اهـ.

ففي الموضع الذي أشرت إليه ب « … »، ووضعته باللون الأحمر، قام الأستاذ الأنجري بإسقاط نص كلامي التالي: « كما عند الطبري في تفسيره 12 / 537، و19 / 596، والطبراني في معجمه الكبير 11 / 62 رقم 11051، والمستدرك 2 / 605 رقم 4039، والعقوبات لابن أبي الدنيا ص: 165 رقم 246 » اهـ.

قلت: فلنتذكر هذا الكلام جيدا، لأننا سنحتاج إليه في حينه.

ثم قال فيما يزعم أنه من أخطائي، بعد أن نقل كلاما للشيخ أحمد شاكر تعليقا على أثر رواه الإمام أحمد يصرح فيه ابن إسحاق بالسماع.

(وعلّق أحمد شاكر بقوله: إسناده ضعيف، لجهالة الشيخ الذي روى عنه محمد بن كعب. اهـ

أي أنه أقرّ ابن اسحاق على قوله: “حدثنا”، وضعف الأثر بجهالة الراوي عن ابن مسعود. )

قلت: قبل التعليق على كلامه هذا يجب الاعتراف بأن هذا الأثر مما قد خفي علي أثناء بحثي للروايات التي صرح فيها ابن إسحاق بالتحديث.

مع أنني لم أجزم الاستقراء التام، لأن ذلك يحتاج إلى مزيد من التحري والتدقيق، وإنما قمت باستفراغ الوسع بما يليق مع مقام البحث والوقت المخصص له، فوجدت الروايات التي أشرت إليها في الكلام الذي بتره ابن الأزرق، وبما أن قضية سماع ابن إسحاق من القرظي هي قضية ظنية إذ لا يمكن لعاقل أن يجزم بحكم قطعي فيها، فإنني أنهيت ذلك المبحث بقولي:  « وأيا كان الأمر، فإن هذه الرواية التي بين أيدينا لم يصرح فيها “ابن إسحاق” بالتحديث، كما سنبين بعد قليل، وكون “محمد بن كعب القرظي” من شيوخ “ابن إسحاق”، لا يعطي للسند أية مزية بعد أن “عنعن” ».

الجمع بين كلام الشيخ شاكر:

يمكن الجمع بين كلام الشيخ أحمد شاكر الوارد أعلاه، وتعليقه على حديث الفضائل، بما ذهبت إليه في الحلقة موضوع النقد، حيث قلت ما معناه: إن الروايات التي وقعت بين يدي، والتي يصرح فيها ابن إسحاق بالتحديث كلها من كلام القرظي نفسه، وقد كان هذا مني سبق قلم، وكان الأولى أن أقول: « كل ما صرح فيه بالتحديث إما موقوف أو مقطوع »، وبالتالي: يمكننا القول: إنه لم يسمع شيئا مرفوعا من القرظي.

أضف إلى ذلك أن علماء الحديث يتساهلون في الآثار الموقوفة ما لا يتساهلون به مع الأحاديث المرفوعة للنبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث الذي أورده ابن الأزرق موقوف على ابن مسعود رضي الله عنه.

والدليل على صدق هذا التخريج أو ذاك، أن الشيخ أحمد شاكر ذكر في تحقيقه لتفسير الطبري “جامع البيان في تأويل القرآن” نفس الحكم الذي أورده في مسند أحمد عن حديث الفضائل حيث قال 1 / 171: « ورواية ابن إسحاق -التي أشار إليها ابن كثير- هي حديث أحمد في المسند: 565. عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن أبيه عن ابن إسحاق. وقد ضعفنا إسناده هناك، بالحارث الأعور، وبانقطاعه بين ابن إسحاق ومحمد بن كعب».

فالشيخ لم ينس ولم يناقض نفسه، مما يستدع التفكير مليا في إيجاد تخريج منطقي لصنيعه هذا أثناء كلامه على أثر ابن مسعود رضي الله عنه.

وأقول مرة أخرى أن هذا من باب الظنون، ولو سلمنا أنه سمع منه المرفوع والموقوف وغيره، فإننا أمام مشكلة كبيرة وهي عنعنته وهو معروف بالتدليس.

الاستدراك الخامس:

قال “ابن الأزرق” منتشيا:

(الثاني: الروايات المثبتة لسماع ابن إسحاق من محمد القرظي كثيرة، لم يكلف المرود نفسه البحث عنها أو تجاهلها لسهولة الوصول إليها، ومنها روايته السابقة، والتي أقرّ شاكر والأرنؤوط تصريح ابن إسحاق فيها بالسماع من القرظي.

وإليك يا منير هذه التي لم تبحث عنها أو تعمدت إنكارها:

قال ابن أبي الدنيا في العقوبات(ص165): … ) اهـ .

قلت: أتتذكر يا ابن الأزرق ومعك كل قارئ ومتابع، ذلك المقطع الذي أوردته أعلاه، وقلت أننا سنحتاجه لاحقا، راجعه وستجد فيه الإشارة إلى هذه الرواية التي أوردها ابن أبي الدنيا في العقوبات، حيث قلت : « وهذا لا ينفي ورود … والعقوبات لابن أبي الدنيا ص: 165 رقم 246 .. ».

ثم تجرؤ بعد ذلك وتتبجح بقولك: (وهذا إسناد صحيح، غاب عن منير أو أخفاه ) اهـ .

فقل لي بربك يا أستاذ ما تفسيرك لأفعالك المتكررة هاته، حيث تسقط جزءا من كلامي، ثم تستدرك علي بما هو موجود فيه أصلا… هل هو تدليس ؟، أم غفلة وتكاسل ؟، أم غير ذلك ؟، أنت أعلم بقصدك.

الاستدراك السادس:

قال: (الخطأ الثاني: زعم المرود أن ابن إسحاق لا يروي عن محمد القرظي إلا أقواله هو، وهذا كذب فاحش تبطله الروايتان الصحيحتان المصرحتان بالسماع ).

قلت: سبق وذكرت أن ذلك كان سبق قلم مني، حيث كنت أقصد أنه لا يصرح عنه بالتحديث في الأحاديث المرفوعة، لذلك استثنيت بعد كلامي ذلك رواية الطبراني المرفوعة.

والروايتان اللتان ذكرتَهما ليستا مرفوعتان فتنبه.

الاستدراك السابع:

ثم قال فرحا مرة أخرى وهو يتحدث عن التصريح بالسماع:

(وهذا شاهد آخر على كذب المرود أو تجاهله الواقع:

قال الدارمي في سننه(1/218) بإسناد رجاله ثقات: أَخْبَرَنَا فَرْوَةُ بْنُ أَبِي الْمَغْرَاءِ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُخْتَارٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهَ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ: «صُبُّوا عَلَيَّ سَبْعَ قِرَبٍ مِنْ سَبْعِ آبَارٍ شَتَّى حَتَّى أَخْرُجَ إِلَى النَّاسِ فَأَعْهَدَ إِلَيْهِمْ».

فهل هذه أقوال القرظي؟ ) اهـ .

قلت: سارت مشرقة وسرت مغربا **** فشتان بين مشرق ومغرب

فهذا الحديث الذي أتعبت نفسك بنسخه ولصقه هنا خارج محل النزاع، فنحن نتحدث عن الروايات التي صرح فيها بالتحديث، وليست المروية عن طريق العنعنة، فتنبه مرة أخرى، ولا تضع في بحوثك إلا ما يعود عليها وعلى القارئ بالنفع، ولا يكونن هدفك تسويد ورقات بهدف الإغراب والتدليس.

الاستدراك الثامن:

قال في معرض رده على تضعيفي رواية مقتل حمزة رضي الله عنه بأحمد بن أيوب بن راشد، وهذا حق، إلا أنه كعادته أراد أن يستدرك علي فجاء بالعجائب، حيث جعل علة تضعيفي لأحمد بن أيوب هي نفسها العلة التي ذكرها الشيخ رحمه الله، وهذا فهم سقيم، نتج عنه حكم غير مستقيم، فالشيخ رحمه الله ضعفه لكونه لم يجد فيه لا تجريحا ولا توثيقا من غير ابن حبان، مما جعله يعتبره مجهول العدالة، وقد علم أن ابن حبان رحمه الله كان يذكر في كتابه “الثقات” الكثير من المجهولين. أما أنا فقد جعلت العلة في تضعيف حديثه هي المخالفة اعتمادا على قول ابن حبان رحمه الله : «ربما أغرب ».

وعلى فرض صدق “ابن الأزرق” في دعواه، فإن اتباعي للشيخ الألباني في تضعيف الحديث لنفس العلة، ليس عيبا، وقد بينت لابن الأزرق في الجزء الأول من التحبير الفرق بين التقليد والاتباع، ومع ذلك فإنني أقولها مدوية، وليفرح بها كما فرح بما قبلها، إنني أعتمد على الشيخ الألباني في كثير من الأحاديث تصحيحا وتضعيفا إذا لم يسعفني الوقت للنظر في أسانيدها، ولست بدعا في ذلك، بل قد اعتمد عليه من هو أعلم مني بمسافات ومفاوز.

الاستدراك التاسع:

ثم قال متطفلا على منهج الشيخ الألباني رحمه الله في رأيه في توثيق ابن حبان:

(قال ابن الأزرق: كان هذا معتقد الألباني في قديم كتبه، ثم ترجح لديه أن الذي يوثقه ابن حبان منفردا، ويخلو من الجرح، ولا يروي خبرا منكرا، يكون حديثه حسنا ).

قلت: لم يتغير رأي الشيخ الألباني رحمه الله فيمن يوثقهم ابن حبان رحمه الله، وليس له في ذلك إلا قولا واحدا، وعلى من ادعى غير ذلك فليأتنا بنص صريح من كلام الشيخ يبين فيه تغير رأيه فيمن يوثقهم ابن حبان ، لكن ماذا نقول فيمن عادته إطلاق الأحكام بدون قيود.

فالشيخ الألباني رحمه الله بين منهجه فيمن يوثقهم ابن حبان في مواطن كثيرة من كتبه، ومن ذلك ما وضعه في القاعدة الخامسة من مقدمة كتابه “تمام المنة في التعليق على فقه السنة”، وهو من بين كتبه القديمة، حيث إنه كتب هذه المقدمة سنة 1373 هـ يعني حوالي سنة 1953م تقريبا، وقد بين هناك أنه يعتمد على ما قرره المعلمي في “التنكيلي”، مع إضافة شرط آخر، استنبطه الشيخ من خلال ممارسته العملية للتصحيح والتضعيف، وهو يتفق مع ما نسبه إليه ابن الأزرق أعلاه إلا أنه أسقط منه عبارة مهمة تبين عدم إحاطته بمنهج الشيخ إحاطة دقيقة، وفيما يلي نص عبارة الألباني رحمه الله، حيث قال:

« وإن مما يجب التنبيه عليه أيضا أنه ينبغي أن يضم إلى ما ذكره المعلمي أمر آخر هام عرفته بالممارسة لهذا العلم قلَّ من نبه عليه، وغفل عنه جماهير الطلاب، وهو أن من وثقه ابن حبان وقد روى عنه جمع من الثقات ولم يأت بما ينكر عليه فهو صدوق يحتج به.

وبناء على ذلك قويت بعض الأحاديث التي هي من هذا القبيل كحديث العجن في الصلاة فتوهم بعض الناشئين في هذا العلم أنني ناقضت نفسي وجاريت ابن حبان في شذوذه »[3].

فإذا قارنا ما قرره الألباني هنا مع صنيعه مع أحمد بن أيوب، نجد أن قوله يتفق مع فعله، فقد ضعف أحمد لكونه لم يرد فيه لا جرح ولا تعديل من المتقدمين، واستثنى بذلك ابن حبان لأنه قد أورده في الثقات، إلا أنه لم يعتمد على توثيقه لأنه لم يوافق شرطه المذكر آنفا، فاعتبره بذلك من جملة مجهولي العدالة، فأين هو التعارض الذي يجعلنا نقول إن هناك قولا قديما وحديثا للشيخ.

الاستدراك العاشر

ثم ذكر كلاما للشيخ الأرنؤوط ظنا منه أنه علينا، إذ قال:

(وكل الشروط متوفّرة في أيوب بن راشد لتحسين حديثه، وهو ما قرّره الأرنؤوط، فإن عبد الله بن أحمد روى في زوائد مسند أبيه عن شيخه أيوب بن راشد حديثا، فقال الأرنؤوط في تعليقه (35/101): وهذا إسناد حسن من أجل أحمد بن أيوب بن راشد الضبي البصري، فقد روى عنه جمع، وذكره ابن حبان في “الثقات”، وقال: ربما أغرب. قلنا: فهو حسن الحديث إلا عند المخالفة، وقد توبع. اهـ ).

قلت:

أولا: الراوي الذي نتحدث عنه هو: (أحمد بن أيوب بن راشد)، وليس: ( أيوب بن راشد ).

ثانيا: هذا الكلام موافق لما ذهبنا إليه، لأنه ربط تحسين حديثه بأمرين اثنين:

الأمر الأول: إذا لم يخالف، حيث استثني بقوله: « إلا عند المخالفة ».

الثاني: إذا توبع.

وهذا رأي سديد، وقول متين، من عالم محدث جليل، فإن أردته حكما بيننا في الحكم على حديث أحمد بن أيوب بن راشد فهو عليك وليس لك، خاصة إذا علمنا أن حديث اشتشهاد حمزة رضي الله عنه قد خالف فيه من هو أوثق منه، حيث قام بإسقاط راويين من السند، وهذا هو السر في قول ابن حبان : «ربما أغرب »، وهو المستند الذي اعتمدت عليه في تضعيف روايته، لأنه خالف فيها وأغرب.

وهذا الذي ذهب إليه الأرنؤوط موافق لرأي ابن حجر الذي قال فيه: «مقبول »[4]، أي في المتابعات.

الاستدراك الحادي عشر:

قال:

(وأضيف أن أيوبا البصري مترجم في الجرح والتعديل2/40، وتهذيب الكمال1/269، وتاريخ الإسلام للذهبي17/33، وتهذيب التهذيب1/17، وهو من شيوخ البخاري وأبي زرعة والموصلي، وقال الذهبي هناك: “ثقة”

فكيف غاب هذا كله عن الألباني وغيره؟) اهـ

قلت: لنا هنا مع “ابن الأزرق” أربع وقفات:

الوقفة الأولى: قوله: «أيوبا البصري »، وهو خطأ، والصواب: أحمد بن أيوب.

الوقفة الثانية: في قول الذهبي « ثقة ».

قلت: كل الذين ذكر “ابن الأزرق” ترجموا له دون ذكره بجرح أو تعديل، إلا ما كان من الذهبي رحمه الله، حيث قال عنه: “ثقة”.

فوفق قاعدة “ابن الأزرق” التي يرددها دائما ويستعملها في غير موضعها، حينما يقول عن الذهبي وابن حجر ما معناه: “وهما متأخران عن زمن توثيق وتضعيف الرجال”، وهذا القول منه صواب، إلا انه يضعه في غير موضعه، لأنهما لا يعتمدان في توثيقهما أو تجريحهما إلا على كلام المتقدمين، ثم يرجحون ما ظهر لهم أنه الصواب، وبما أن “أحمد بن أيوب” لم يرد فيه قول فصل عند المتقدمين غير إيراد ابن حبان له في الثقات، كان هذا مستندا للذهبي رحمه الله ليقول عنه: «وكان ثقة»، فهو يعتمد بذلك على كلام ابن حبان. وهذا هو ما جعل الشيخ الألباني رحمه الله يقول: « لم أجد من صرح بتضعيفه من الأئمة المتقدمين، ولا من وثقه منهم»، فقيد عدم توثيقه بالمتقدمين يا أستاذ، أم أنك لم تستفد من درس الدكتور أحمد الريسوني إليك في التفريق بين المتقدمين والمتأخرين من العلماء.

الوقفة الثالثة: ذكر “ابن الأزرق” أن أحمد بن أيوب من شيوخ البخاري هكذا بإطلاق، وهذا تدليس منه، لأنه يتبادر إلى الذهن من صنيعه هذا أنه من رواة الصحيحين، والحال أنه روى له في الأدب المفرد.

الوقفة الرابعة: قول ابن الأزرق: (فكيف غاب هذا كله عن الألباني وغيره؟) اهـ.

قلت: لم يغب عن الشيخ الألباني رحمه الله شيء من ذلك، فهذا كلام واضح بين، لكنه يحتاج إلى فهم دقيق، وقلب ألف صاحبه النظر في كتب الأولين، أما من يخلط بين المتقدمين والمتأخرين والمعاصرين، وبين مسند البزار ومختصر الزوائد وكشف الأستار، فأنى له الإحاطة بمصطلحات القوم.

الاستدراك الثاني عشر:

قال تحت عنوان:

تناقض الألباني وصفعه لمتبوعه:

( هذا الحديث الذي أورده الشيخ في “الضعيفة”، قوّاه في “أحكام الجنائز” (1/104)، فقال: وهذا سند جيد، رجاله كلهم ثقات، وقد صرح فيه محمد بن اسحاق بالتحديث، فزالت شبهة تدليسه. اهـ

ويفترض أن يكون المرود قد وقف على كلام إمامه في “أحكام الجنائز”، وفيه صفعتان موجعتان له:

الأولى: أقرّ الألباني بسماع ابن إسحاق من محمد بن كعب القرظي.

الثانية: جوّد حديث أيوب الذي يثبت السماع، وينفي عن ابن إسحاق اختصاصه برواية أقوال شيخه القرظي دون غيرها من الموقوفات والمرفوعات ) اهـ.

قلت: وقع أستاذي من خلال كلامه هذا في عدة أخطاء:

الخطأ الأول: اسم الراوي هو أحمد وليس أيوبا، لأن أيوبا هو أبوه.

الخطأ الثاني: ذكر أن الشيخ الألباني قوى هذا الحديث في أحكام الجنائز، لكنه حينما أراد أن يوثق كلام الشيخ وضعه على هذا الشكل ( 1/104) أي الجزء الأول الصفحة 104، مع العلم أن الكتاب من جزء واحد فقط، وهذه هي المرة الثانية التي ألاحظ فيها مثل هذا الخطأ، وقد أشرت إلى الأول في المقدمة التاسعة من السلسلة، وكررت ما ذكرت هناك في المقدمة الخامسة من الجزء الأول من التحبير، وأرشدته إلى كيفية التعامل مع المكتبة الشاملة حيث قلت: « فتنبه رحمك الله في المرة القادمة، وانظر في بطاقة الكتاب من المكتبة الشاملة قبل أن تحيل إليه كي لا تنسب إلى التقصير».

والعجيب أن هذا يقع منه في المرتين معا في كتب الشيخ الألباني، مما يدل على أنه لم يخالط كتبه مباشرة، ولم يمسك الكثير منها يوما بين يديه، وأن كل اعتماده على المكتبة الشاملة، فكيف لمثله أن يزاحمنا في بيان منهج الشيخ رحمه الله ؟

الخطأ الثالث: طبع كتاب “أحكام الجنائز” للعلامة الألباني رحمه الله سنة 1388 هـ كما تشير إلى ذلك مقدمة الشيخ رحمه الله، وكان قد انتهى من تأليفه وتهييئه سنة 1382 هـ، يعني منذ حوالي 55 سنة، وقد ألفه وانتهى منه قبل سلسلتيه الصحيحة والضعيفة، لأنه كثيرا ما يشير فيهما إلى كتاب ” أحكام الجنائز وبدعها”، وبما أن السلسلتين قد شغلتا وقتا كبيرا من حياة الشيخ الألباني، فلا شك أنه قد ألف أحكام الجنائز في الوقت نفسه الذي كان منشغلا بتأليف هاتين الموسوعتين[5]، لذلك لا بأس أن نجده رحمه الله يشير إلى ما كان مطبوعا حينها من هاتين السلسلتين في أحكام الجنائز، أقول هذا كي لا يستدرك علينا البعض بأنه يشير أحيانا إلى السلسلتين في أحكام الجنائز، فقد أصبحنا مجبرين على تسويد جل ما نعلم مراعاة لفهم وإدراك القوم.

وبناء عليه، يكون حكم الشيخ الألباني المعتمد هو ما وضعه في السلسلة الضعيفة، أي أنه ضعيف عنده بأحمد بن أيوب، خاصة أنه أجمل الكلام في “أحكام الجنائز” فقال ـ ص: 134، طبعة مكتبة المعارف بالرياض، ط 2 ـ: « رجاله كلهم ثقات »، أما في “الضعيفة” فقد فصل القول عن الحديث، فالرأي إذا ما استقر عليه هناك.

فإذا تقرر ذلك، فلا وجه إذا للاعتراض علينا بما نعلمه من كلام الشيخ رحمه الله، فالقول الأخير هو المعتمد، وما في الضعيفة هو ما استقر عليه قول شيخنا رحمه الله، وهكذا يكون قد زال هذا الإشكال، والحمد لله رب العالمين.

مختصر أخطاء ابن الأزرق المذكورة في هذه الحلقة

1 – إيهامه القراء أنني أتهمه بالنقل عن الغير فقط، والواقع هو أنني جعلت هذا الاحتمال في المرتبة الثانية.

2 ـ إسقاطه لجزء من كلامي ضمنته مثالا وشاهدا على هذه التهم، ثم طالبني بإيراد الدليل على صدق تلك الدعوى.

3 ـ اعتماده في بحوثه على نسخة إليكترونية  غير معتمدة علميا أثناء عزوه لمسند البزار.

4 ـ عدم تفريقه بين “البحر الزخار ” للبزار، و”كشف الأستار” للهيثمي، واعتبارهما كتابا واحدا.

5 ـ دعواه العريضة بجهلي بأن مسند البزار طبع متفرقا.

6 ـ بتر مقطعا من كلامي أشير فيه إلى رواية عند ابن أبي الدنيا صرح فيها ابن إسحاق بالسماع، ثم استدرك علي بتلك الرواية نفسها وادعى أنها غابت عني أو أخفيتها.

7 – استدرك علي برواية عند الدارمي ليس فيها التصريح بالسماع، وهذا خارج محل النزاع، لأننا نتحدث عن الروايات التي صرح فيها بالسماع.

8 – الخلط بين سبب إعلالي لرواية أحمد بن أيوب، وبين تضعيف الشيخ الألباني رحمه الله لها.

9 ـ ادعاؤه أن للشيخ الألباني رحمه الله قولا قديما، وآخر حديث في الاعتماد على توثيق ابن حبان رحمه الله.

10 ـ عدم إدراكه لصنيع الشيخ الأرناؤوط أثناء تحسينه لحديث فيه أحمد بن أيوب في المسند.

11 ـ أطلق القول بأن أحمد بن أيوب من شيوخ البخاري، وهذا تدليس يوهم القراء أنه أخرج له في الصحيح، والحال أنه روى عنه في الأدب المفرد.

12 ـ عزى كلاما للشيخ الألباني لكتبه أحكام الجنائز بالجزء والصفحة، والكتاب ليس له إلا جزء واحد.

13 – خلطه بين أحمد بن أيوب بن راشد، وأيوب بن راشد.

هذا ما تيسر لي ذكره في هذه الحلقة من التحبير في جزئه الثاني، وفي انتظار الحلقة الثانية، ها هو صاحب المقال يحييكم بتحية أهل الجنة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* خريج دار الحديث الحسنية.

[email protected]

[1]  ـ تزيد أو تنقص بقليل لأن كل باحث متمرس يكتب بحوثه بيده يعلم أن البحوث المكتوبة في “الوورد” إذا تجاوزت الثلاثمائة صفحة تقريبا، فإن عدد الصفحات تزيد مرة وتنقص أخرى.

[2]  ـ أستعير هذه العبارة من أحد تلاميذي النجباء.

[3]  ـ تمام المنة في التعليق على فقه السنة ص: 25 طبعة مكتبة الثقافةـ عدن كريتر.

[4]  ـ تقريب التهذيب ص: 77.

[5]  ـ وكان ذلك على شكل مقالات كانت تنشر في مجلة التمدن الإسلامي، ثم طبعها على شكل أجزاء كل جزء يحتوي على مائة حديث، ثم جمع كل خمسة أجزاء في مجلد واحد، وقد طبع أولا في المكتب الإسلامي سنة 1399 هـ، ثم تكلفت مكتبة المعارف بعد ذلك بطبعه في أربعة عشر جزءا،

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M