الدرس العقدي بين المضمون العلمي والأثر التربوي الإيماني

16 أبريل 2017 19:43
د. البشير: المشكلة في تصريح الشيخي هو التهوين من التعارض بين العلمانية والإسلام في مرحلة يراد فيها هدم أصول الدين وفروعه

د. البشير عصام – هوية بريس

عرفت العقود الأخيرة، رجوعا إلى الاعتناء بالعقيدة في عموم العالم الإسلامي، بعد أن كانت المصنفات العلمية في القرون الأخيرة تدور على مقولات عقدية مكرورة مبتذلة.
وقد صاحب هذا الاهتمام طفرةٌ في التأليف والتدريس وعقد الدورات، وإحياء مجموعة من المصنفات والمتون في العقيدة.
إلا أن هذا التركيز على تعليم العقيدة بشكل عمودي يختص بطلبة العلم الشرعي والعلماء، كان على حساب تعليمها بشكل أفقي يبث أصولها ومضامينها في عموم الأمة، وبين مختلف طبقاتها.
ولذلك صارت العقيدة مرادفة – في أذهان الكثيرين – لذلك العلم الدقيق في اصطلاحاته، الجاف في مسائله، العسير في مناقشاته، الذي إن أخطأ الطالب فيه خشي على نفسه الخروج من الملة، أو الالتحاق بصف البدعة؛ وإن أصاب فيه وأحسن لم يعرف لذلك ثمرة عملية في واقع حياته!
ولم تعد العقيدة -كما ينبغي أن تكون- تصورا نظريا متكاملا، صالحا لعموم المسلمين، يثمر رسوخا إيمانيا وحصانة تربوية، ويؤطر المنهج الحركي ويضبط أصول العمل.
إن هذا الانفصال في الدرس العقدي بين المضمون العلمي النظري، والتربية الإيمانية والمنهج الحركي العملي، لا يمكن إلا أن يثمر ضياعا لجهود المصلحين الذي أفنوا أعمارهم وصرفوا جهودهم في إحياء تدريس العقيدة، وحض الناس على الاعتناء بها.
أسباب الظاهرة
وكغيرها من الظواهر الإنسانية، فإن لهذه الظاهرة أسبابا مختلفة متعددة، ويعسر على الباحث حصرها في سبب واحد.
فمن الأسباب ما هو تاريخي، راجع إلى نشأة علم العقيدة، والتطور التاريخي الذي مر به، وهو تطور يدور -في معظمه- على معاني الاختلاف، والردود المتبادلة بين الفرق، والجدال النظري الكلامي.
لقد تأسس علم العقيدة في جزء كبير منه على بيان الخلل الواقع عند بعض الأشخاص أو الطوائف، وتوضيح الانحراف في مسيرة فهم التوحيد بالمقارنة مع الخط الأول الذي كان عليه السلف. ولذلك تكوّن هذا العلم من نسيج متشابك من الجدالات والمناظرات الجافة، أهمل بسببها الغرض الأصلي لتعلم العقائد!
ويلتحق بهذا الشق التاريخي، سبب آخر مرتبط بمناهج دراسة العلوم الشرعية عموما، وهو ما انتشر في الأمة من التدريس بطريقة المتون، وما يقترن بها من الشروح والحواشي.
وبقطع النظر عن صلاحية هذه الطريقة لتحصيل العلوم الشرعية -وأنا من المنافحين عنها إجمالا- فإن تطبيقها في مجال العقائد يفرض التعامل النظري المجرد، ويقرّب الدرس العقدي من غاية تحصيل مضمون معرفي محدد، بعيدا عن الأثر الإيماني والتربوي.
إن طريقة المتون تقتضي العناية بالصناعة اللفظية، على حساب توليد المعاني) (، وتستهلك كثيرا من طاقة الطالب والمدرّس -على السواء- في توجيه كلام العلماء، ومحاولة فهم طرائقهم في التعبير. وذلك كله يكون بمعزل عن التأثير التربوي المنشود!
ومن الأسباب أيضا، ما يحيط بالعقيدة من محاذير ومخاوف، تختص بها عن سائر العلوم، وذلك بسبب كونها مبنية على الاتباع وعدم مخالفة السلف. وبين التجديد المحمود والابتداع المذموم -فيما يظهر لأكثر المشتغلين بهذا الفن- شعرة رفيعة، لا يقوى أعظمهم جرأة على قطعها.
ولذلك فإن كل محاولة تجديدية -ولو في الأسلوب دون المضمون- تظهر للمضطلعين بأعباء تدريس العقيدة، محفوفة بالكثير من المخاطر، محيلة على الكثير من التوجسات.
ولأجل هذا الخوف من التجديد في الدرس العقدي، فإن الكثيرين يؤثرون السلامة، فيسيرون على خطى من سبقهم، ويدرّسون تلامذتهم كما درّسهم شيوخهم، في حلقة لا تنقطع، تتكرر من خلالها المحاسن والمساوئ، ونقاط القوة مع مواضع الضعف!
بعض أوجه الخلل:
ولهذه الظاهرة تجليات كثيرة. من أهمها: عدم التحديد الواضح للغاية المتوخاة من تدريس العقيدة) (. فإنه بحسب ما تكون عليه الإجابة عن السؤال الآتي: (ما الغاية من تدريس العقيدة؟) يكون تحديد المنهج الملائم لتدريسها.
فقد يكون الجواب مثلا: التحصين من البدع العقدية، أو تزكية القلوب وربطها بالمعاني الإيمانية السامية، أو تصحيح مسيرة العمل الإسلامي، أو غير ذلك من الغايات التي يمكن تصورها.
ومن الغلط أن يكون منهج الدرس العقدي واحدا لا يتغير، في هذه الحالات جميعها!
ولأجل عدم تحديد الغايات، يقع الخلط -في الغالب- بين أصناف المتلقّين، على الرغم من تباين تطلعاتهم ورغباتهم ومؤهلاتهم، فيدرّس العامي مثلا ما يتلقاه طالب العلم المتخصص.
وإذا كان هذا في طريقة التدريس، فهو موجود أيضا في نوع الكتب والمتون المؤلفة في العقيدة، والتي تصلح أساسا لتدريس هذا العلم؛ فإن الغالب عليها أنها موجهة لطلبة العلم، والقليل منها ما يكون صالحا لعوام المسلمين.
والجمود الحاصل في تدريس العقيدة يسلك منحيين اثنين:
أولهما: الجمود في أساليب العرض، وعدم التجديد فيها باستعمال الطرق الحديثة التي تلائم غير المعتاد على دروس العلم الشرعي التقليدية من عامة المسلمين) (.
ومن التجديد المحبّذ في هذا المجال: إعادة الترتيب الأولوي بين جانبي الهدم والبناء في الدرس العقدي. والمقصود بذلك خصوصا: إعادة النظر في ما يعرض على العامة من مباحث الردود على المخالفين، وجعل ذلك في مرحلة زمنية تالية؛ والتركيز في المراحل الأولى على بناء الأصول العقدية، وتأسيس الثوابت الإيمانية.
والثاني: الجمود في المضمون ذاته على ما ألفه المتقدمون، ويتضمن هذا المنحى أمورا، منها:
• إغفال المخالفات العقدية العصرية، وتجاهل الفرق البدعية الحديثة، وهي عند عموم المسلمين أعظم أثرا، وأكثر ضررا.
• استسهال بعض المخالفات العقدية، وعدم التفطن لانتشارها الوبيل في الأمة. ومن المثال على ذلك: نقل كثير من مدرسي العقيدة المعاصرين ما قرره المتقدمون من أن البحث في توحيد الربوبية غير مُجدٍ، لأنه أمر مفروغ منه، مستقر في فطر الناس. والحق أن في عصرنا من إنكار الخالق، ونقض هذا النوع من التوحيد، ما يستوجب وقوف أهل العقيدة في مواجهته، بالتحصين والرد والبيان.
• إغفال أثر العلوم الحديثة -من التجريبية والإنسانية خصوصا- على عقائد الناس، وضرورة مواجهة ذلك بتطوير المضمون المطروح للتدريس، بما يجعل المتلقي محصنا إيمانيا من تلك الآثار الوخيمة.
• غياب جوانب التربية الإيمانية، وانفصال مهمة الوعظ الموجه لعموم المسلمين، عن تدريس العقيدة المخصص لطلبة العلم الشرعي.
• ضعف البحث في الجوانب العملية التطبيقية، عند تقرير مسائل العقيدة، مما يثمر انفكاكا بين التقريرات النظرية وتطبيقاتها العملية، ويزهّد الكثيرين في دراسة العقيدة.
مقاربة للعلاج:
وإذا كانت الظاهرة بهذا الحجم والسوء، فإن من المفروض وضع آليات عملية لتصحيح المسار، وإعادة بناء الدرس العقدي ليستوعب التربية الإيمانية، ويقرب من أفهام العامة وتطلعاتهم، بدل التقوقع الحالي في المباحث النظرية التي تلائم طلبة العلم خصوصا.
ومن رأيي أن بناء هذه الآليات يمر عبر مجموعة من الإجراءات المجتمعة، أذكر منها:
• اضطلاع المراكز البحثية والجامعات المتخصصة والعلماء المستقلين بإعداد كتب عقدية تعيد كتابة المباحث العقدية وترتيبها على وفق ما يناسب عوام المسلمين. ولا شك أن هذا سيحل جزءا كبيرا من المشكلة، لأن العقبة الكبرى في كثير من الأحيان هي غياب مثل هذه الكتب، مما يضطر المدرّسين إلى استعمال المتون والمؤلفات المتداولة، مع ما تتضمنه من إشكالات سبق بيان بعضها.
• تكفل الجامعات ومراكز التكوين المعتمدة، بتكوين مدرسي العقيدة، القادرين على المزج بين تحرير المسائل العقدية الدقيقة، واستخراج اللطائف الإيمانية منها، مع القدرة على إيصال تلك اللطائف إلى قلوب المتلقين، بمختلف الوسائل البيداغوجية الحديثة والقديمة.
• إيجاد الصيغ الملائمة، من دورات ومؤتمرات وندوات وغيرها، لتحقيق التنسيق الجيد بين العلماء التقليديين ودكاترة الجامعات، وذلك ليمكن استفادة كل فريق من الفريق الآخر. فيستفيد أهل الجامعة من الصرامة العقدية والدقة العلمية التي عند الأولين، ويستفيد هؤلاء مما عند الآخرين من الأساليب العصرية وتقنيات التدريس والتواصل.
• إن دروس الوعظ تقوم بدور كبير في مجال تركيز الجوانب العقدية الإيمانية. وقد أُخذت كثير من تعليمات رسول الله صلى الله عليه وسلم من مواعظه) (. ومن هنا فإن من اللازم قيام علماء العقيدة المتخصصين بأعباء هذه الدروس، وعدم تركها للقصاص المتساهلين، الذين قد يغرسون بذورا عقدية منحرفة من حيث يعلمون أو لا يعلمون.
• على الرغم من كل ما يمكن أن يقال عن أساليب التعليم، فإن أجلّها أثرا، وأعظمها نفعا: التعليم بالقدوة! إن من المتعين على مدرّسي العقائد، أن يعطوا بأقوالهم وتصرفاتهم ومواقفهم الأسوة الحسنة لعموم المسلمين، في باب تمثل المفاهيم العقدية الإيمانية. وقد كانت هذه الطريقة، أول الأساليب التعليمية عند رسول الله صلى الله عليه وسلم) (، وبها قبل غيرها تخرج الصحابة الأكرمون، الذين أخذوا العقيدة منه –عليه الصلاة والسلام– خلقا وتربية وتزكية إيمانية، لا مضمونا معرفيا جامدا!
• من اللازم الحرص قبل عقد الدورات العلمية، أو إلقاء المحاضرات العامة في العقيدة، أن يفرز المشاركون، وتحصر تطلعاتهم، وتعرف مؤهلاتهم العلمية، فيخصص لكل طائفة ما يناسبها. ويعجبني في هذا السياق قول أبي حامد الغزالي -رحمه الله- في الإحياء: (فلا ينبغي أن يفشي العالم كل ما يعلم إلى كل أحد. هذا إذا كان يفهمه المتعلم ولم يكن أهلا للانتفاع به فكيف فيما لا يفهمه؟
بل لا ينبغي أن يخاض مع العوام في حقائق العلوم الدقيقة بل يقتصر معهم على تعليم العبادات وتعليم الأمانة في الصناعات التي هم بصددها ويملأ قلوبهم من الرغبة والرهبة في الجنة والنار كما نطق به القرآن ولا يحرك عليهم شبهة فإنه ربما تعلقت الشبهة بقلبه ويعسر عليه حلها فيشقى ويهلك).
وأصل هذا الكلام من مجموعة من الأحاديث النبوية، والآثار السلفية. فالواجب الاعتناء بهذا المعنى، وتصحيح الخلل الواقع فيه.
والله الموفق.

  • ــــــــــــــــــــــــ
  • 1– ولذلك فإنها طريقة تلائم الفقه وعلوم الآلة خصوصا. ومن رأيي أن اشتغال الطالب في علم العقيدة بحفظ نصوص الوحي المرتبة على أبواب العقيدة، مع الفوائد العقدية المستنبطة منها أولى من الانشغال بحفظ كلام العلماء وتقريراتهم في هذا العلم. وهي مسألة اجتهاد، تحتمل الأخذ والرد.
  • 2- وعدم تحديد الغاية ”الاستراتيجية”، يؤدي إلى عدم وضوح الأهداف المرحلية أيضا!
  • 3- لفظ العامة في اصطلاح الشرع يشمل كل من ليس من حملة العلم الشرعي، فيدخل فيه كثير من المتخصصين في العلوم التجريبية والإنسانية الحديثة، المتمرسين بأساليب التعليم العصرية.
  • 4- من ذلك مثلا حديث العرباض بن سارية المشهور: (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة، ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب .. وفي آخره بعض أصول توحيد الاتباع.
  • 5- مما يمكن استحضاره في هذا الباب ما وقع بعد صلح الحديبية من رفض الصحابة التحلل من الإحرام، فأشارت أم سلمة رضي الله عنها على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحلق رأسه، وينحر هديه، ليقتدوا به، ففعل، وتسارع الصحابة إلى الائتساء به في ذلك. وهذا دليل واضح على أن البيان بالفعل أقوى وأعظم أثرا من البيان بالقول. وقد جاء في صفته – صلى الله عليه وسلم – أنه لا يأمر بخير إلا كان أول آخذ به، ولا ينهى عن شر إلا كان أول تارك له. وهذا معنى عظيم جدا، ينبغي إحياؤه في مناهج التعليم اليوم.
آخر اﻷخبار
1 comments
  1. نظرات موفقة في عرض العقيدة الصحيحة بطريقة مبسطة وبمقاصد تربوية وايمانية .بارك الله في الدكتور البشير

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M