العربية واللغات الحية

06 مارس 2020 18:36
دروس مستفادة من حرب غزة الأخيرة

هوية بريس – د.عبد العلي الودغيري

استوقَفَني أبياتٌ قرأتُها لشاعر جاهلي قديم هو هُناءة بن مالك بن فهم الأزدي الذي توفي حوالي سنة 400 قبل الهجرة النبوية ( أي حوالي 220م). منها قولُه في رثاء أبيه مالك بن فَهم وكان ملكًا على قومه:
لَو كانَ يَبقى على الأَيامِ ذو شَرفٍ
لِمَجْدهِ لم يَمُتْ فَهمٌ وما وَلَدَا

حلَّتْ على مالِكِ الأملاكِ جائحةٌ
هدَّت بناءَ العُلا والمَجْدِ فانفَصَدا

فلم أجد في البيتين من كلمات تحتاج إلى شرح سوى كلمة (فانفَصَدَ) ومعناها: شُقَّ وتصدَّع .
ومنها قولُه:
سيأتي على الناس مِنْ بعدنا
زمانٌ به الأرفعُ الأسفَلُ
(أي زمانٌ تنقلب فيه الأوضاع، فيصبح الأسفلُ عاليًا والأعلى سافِلاً).

ثم قرأت لشاعر آخر توفي حوالي 243م قولَه:
إذا الجوزاءُ جاوزتِ الثُّريّا
ظَننتُ بآل فاطمةَ الظُّنونــا
ويقصد فاطمتَه التي يجبها لا فاطة بنت الرسول.

وتذكرتُ أبياتَ الحكَم المأثورة لزهير بن أبي سُلمى التي ما نزال نتمثَّل بها كقوله:
ومَن يجعلِ المعروف في غير أهله
يكنْ حمدُه ذمًّا عليه ويَندمِ

وأخرى لطرفة بن العبد ومنها:
وظلمُ ذوي القربى أشدُّ مَضاضةً
على المرء من وَقع الحُسام المُهنَّدِ

ستُبدي لكَ الأيامُ ما كنتَ جاهلاً
ويأتيـــــك بالأخبار مَـــن لم تُــــــززِّدِ

وغيرها من عيون الشعر القديم، فقلتُ لنفسي: أين هذه اللغةُ البشرية التي ما زال أهلُها قادرين على فهم أشعار بعض شعرائها الذين مضى عليهم أكثر من 1800 سنة، والتفاعُلِ معها والتأثُّر والتَّمَثُّل بها كما نفعل نحن اليوم أبناء القرن الواحد والعشرين، مع بعض نصوص شعرنا الجاهلي الذي تعود بعضُ قِطَعه وأبياته إلى عدة قرون سابِقة للهجرة النبوية؟ لن تجد ذلك إلا في اللغة العربية الفصحى التي ما تزال قادرة على ربط حاضرنا، ونحن في الربع الأول من القرن الواحد والعشرين، بماضينا السحيق وآثارنا الأدبية الرفيعة التي كتبت منذ قرابة قرنين من الزمان؟
هل يستطيع الفرنسي أو الإنجليزي اليوم أن يقرأ نصّا كُتب بلغته قبل ثمانية قرون ويفهمه كما نفهم اليوم شعرَ عربيّتنا قبل ثمانية عشر قرنا بأوزان عروضية وإيقاعات موسيقية في غاية الدقة والانتظام؟ هل سألتم أنفسَكمْ: كم احتاجت العربية من قرون لكي تتطوّر وتتدرَّج في نضجها إلى أن استطاع شعراؤُها النظمَ على ستة عشر إيقاعًا أو وزنًا موسيقيّا دقيقًا قبل أن ينزل القرآن الذي توَّجَ نضجَها واكتمالَها؟
هذا ما يستغرب له الدارسون الغربيون، وكان منهم لوي ماسينيون ـ ويحسدون أبناءَ هذه الأمة عليه. وهذا ما جعل مستشرقًا آخر يقول: رُزِقَ المسلمون لغةً لا يستحقونها.
ثم يأتي بعضُ السُّفهاء من صِبية اليوم ليقولوا: إن العربية ما تزال في حاجة إلى تطوير وتهيئة لتصل إلى مستوى الفرنسية أو الإنجليزية… ما أقبح الجهل، وما أسخف هذه العقول!!

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M