الكنزُ الدفين في (المجموع الثمين)

04 فبراير 2017 20:11
الكنزُ الدفين في (المجموع الثمين)

هوية بريس – لطيفة أسير

لأن (أزهد الناس في العالم أهله) فلا غرو أن تجد ظل الإهمال قد أسبل ستاره على علمائنا بمغربنا الحبيب، فباتوا فريسة لمطرقة التجاهل الرسمي لسامق مقامهم، وسندان جهل العامة بعلومهم وأحوالهم. بل إني كثيرا ما أتعمد سؤال طلبتي عن أسماء علماء مغاربة، فيلوذون بالصمت، وقد هالني جواب أحدهم مرة: (لا يوجد بالمغرب علماء!!)، وما أن تسألهم عن علماء مشارقة حتى يعددوا لك بعضهم، ليس لأنهم يتتبعون أحوال العلماء، أو يقتفون أثر العلوم الشرعية، ولكن لأنهم يتابعون ما ينشر بالفضائيات، وجلها تُعنى بعلماء المشرق.

لهذا لا تملك وأنت تجد شابا مغربيا يخصص جزءًا من وقته وعلمه لأحد علماء المغرب، إلا أن تشعر بالفخر والاعتزاز وبعض الأمل في شباب كدنا نكبّر أربعا على جلّ أهله.

صادفت كتاب “المجموع الثمين لمقدمات الشيخ العلامة أبي أويس محمد بن الأمين بوخبزة الحسني للمؤلفين والمحققين” على صفحات التواصل الاجتماعي، وقد قادني الفضول لمعرفة محتواه حين رأيت الكثير من أولي الفضل يسارعون لاقتنائه، فجاد عليّ أخي به ذات صباح، فكان هدية ثمينة شغفت بقراءتها.

الكتاب للداعية المغربي الشاب رضوان بن عبد السلام زرغيل، به حوالي 336 صفحة، نذره صاحبه للحديث عن العلامة المغربي محمد بن الأمين بوخبزة الحسني وأفصح عن غايته ومنهجه عند تقديمه للكتاب قائلا: (هذا مجموع ثمين يضم طائفة من مقدمات شيخنا العلامة محمد بن الأمين بوخبزة الحسني التطواني لزمرة من الكتاب والمحققين، جمعتها ورتبتها وفهرستها خدمة لشيخنا ووفاء لحقه، ولما حوته من اللطائف والفوائد وقد فاقت بالعدّ الأربعين). فأكرِم به من وفاء!

قبل الشروع في عرض المقدمات مهّد الكاتب بترجمة مختصرة للشيخ العلاّمة محمد بن الأمين بوخبزة تحدث فيها عن نسبه وولادته ونشأته العلمية وشيوخه وتلاميذه وعقيدته، كشفت عن أصالة منبته وعراقة نسبه الذي يرجع إلى إدريس الأكبر مؤسس الدولة الإدريسية. وكان من الطبيعي أن تكون هذه الثمرة المباركة نتاج بيئة مباركة، إذ الشيخ بوخبزة ينحدر من (أسرة جبلية تطوانية عمرانية تُنسب إلى الجد الجامع للأشراف الأدارسة العمرانيين) و(الغالب على آل بوخبزة طلب العلم والقيام بوظائف الدين كالتدريس والخطابة والإمامة والعدالة والفتوى).

وقد أحصى المؤلف قرابة 59 مقدمة بدءا من 1420هـ إلى 1436هـ رتّبها حسب تاريخ كتابتها بشكل تنازلي بدءا بآخر تقديم وانتهاء بأول تقديم قدم له الشيخ. وفي ختام الكتاب تجد ملحقا به صور خطية لبعض المقدمات بخط الشيخ بوخبزة ابتغى من ورائها المؤلف تعريف القارئ بالخط الجميل الذي وهبه الله للشيخ والذي أثنى عليه أهل المشرق والمغرب.

الملاحظ في هذه المقدمات أنها صيغت بأسلوب أدبي فصيح وسلس، خالٍ من التصنع والكلفة، تلمس من خلاله أن الشيخ الأمين حين يقدم لكتابٍ فإنه لا يبتغي مجاملة صاحبه بقدر ما يرمي لنيل الثواب والأجر من خلال التقديم لكتب يرى أنها تقدم خدمة لدين الله وشرعه. ولهذا كثيرا ما كان يتعالى عن ظروفه الصحية ويصر على تلبية طلب من ابتغى نيل شرف تقديم الشيخ لكتابه، كما هو الحال مع ديوان (بوْح وفوْح) للأديب الشاعر قطب الريسوني الذي قال في مطلعه: (وافاني كتابك المؤرخ بـ9 ربيع الثاني 1428هـ. وأنا أعاني من أمراض لا مرض واحد، معاناة تحول بيني وبين الفهم والتركيز، بله الكتابة والنقد، ورغم ذلك فقد تكلفت قراءة كتابك مرتين).

وقال في موضع آخر من المقدمات: (ثم إن الكتاب جاءني والجسم عليل، والطرف كليل، والنشاط قليل، ورغم ذلك فقد تكلفت تصفحه وقراءة فصول منه مأخوذا لحسن بيانه، وجمال عرضه…)، وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدل على سعة صدر الشيخ بقدر سعة علمه، وعدم بخله على من توسّم فيه خيرا، خصوصا إن كانت المادة العلمية تستحق العناء. كما تلمس من خلاله مقدماته تواضعه الجمّ، سواء في حديثه عن طلبته أو شيوخه، وكثيرا ما يردد لمن تأمّل منه هذه المكرمة: (استسمن ذا ورم ونفخ من غير ضرم).

المتأمل في الكتب التي قدم لها الشيخ الأمين يرى أن جلّها له ارتباط بالعلوم الشرعية من عقيدة وفقه وحديث، وهذا أمر طبيعي، لأن الشيخ بوخبزة أحد علماء المغرب المشهود لهم بسعة الاطلاع بالكتب الإسلامية العربية قديمها وحديثها، مخطوطها ومطبوعها، لهذا كان حريصا على الإشارة إلى بعض الفوائد العلمية المرتبطة بطبيعة كل كتاب، وكان حماسيا حين الرد على المبتدعة والضلاليين من أهل التصوف والفرق المارقة عن العقيدة الصحيحة، والذب عن السنة وصاحبها عليه الصلاة والسلام. كما حوَت مقدماته نصائح وتوجيهات للتمسك بالعقيدة السليمة والابتعاد عن الابتداع والضلالات.

لهذا كانت مقدماته لكتب العقيدة من أطول المقدمات كما هو الشأن بالنسبة لكتاب (ذم الأشاعرة والمتكلمين والفلاسفة) للدكتور صادق سليم صادق (تسع صفحات)، وكذا تقديمه لكتاب (عقائد الأشاعرة) لمصطفى باحو، ولعلنا نعذر شيخنا الجليل لأن الأمر جلل ومرتبط بعقيدة المسلمين، فكان لزاما أن يكشف النقاب عن العوار المعتزلي والفكر الأشعري ويحذر منهما ويدعو للتمسك بالعقيدة الصحيحة التي أساسها الوحي (الكتاب والسنة). وفي مقدمة طويلة أيضا لكتاب (مجموعٌ في كشف حقيقة الجزء المفقود المزعوم من مصنف عبد الرزاق). قال بعد أن ردّ على المبتدعة والوضاعين فيما نسبوه زورا وبهتانا من أحاديث للرسول صلى الله عليه وسلم: (هذه نفثة مصدور حزنا على ما آلت إليه الحال، وشفقة من المصير المظلم، بسبب هذه البوائق الموبقات، والجرائم المهلكات، التي تتنامى وتتكاثر كجراثيم الوباء القاتلة في الجو الموبوء، وقد انصرف أولياء الأمر إلى الاشتغال بدنياهم، الذين هم في غاية الفطنة واليقظة لكل ما يمس دنياهم، وفي غاية التبلد والإعراض واللامبالاة فيما يرجع لدينهم وعقيدتهم).

ومن جميل ما صادفته بهذه المقدمات، حديث الشيخ عن بعض القضايا التي تقض فكر كل مسلم غيور على دينه ولغته، فأشار مرة إلى ضحالة المستوى اللغوي للمنتسبين للعلم حاليا من طلبة وأساتذة حيث قال في تقديمه لكتاب (الميزان ولسانه): (ولا يفوتني قبل التمام أن أنوه بلغة الأخوين وهما طالبان يومئذ، فهي جيدة سلسة سليمة من اللحن والضعف، الشيء الذي أصبح اليوم نادرا، فلا يسلم من اللحن الفاضح، والخطأ الواضح دكاترة الجامعات، بله أساتذة الثانويات، وما ذاك إلا لضعف مستوى التعليم، وتهميش اللغة العربية، لغة القرآن والملة، وإلى الله المشتكى وهو الموفق لا رب غيره)، وقال في موضع آخر في تقديمه لكتاب (الأثر الفكري والعلمي لمشاهير علماء المغرب المستوطنين بالمشرق إلى عصر محمد بن سليمان الروداني) للدكتور أحمد الطيب ستيتو: (حيث أصبح الطالب النجيب لا يقيم لسانه، ولا ينأى عنه اللحن الفاحش، بل تعدى الشأن إلى الأساتذة الجامعيين، والدكاترة المشرفين، بل سمعنا بآذاننا عمداء الجامعات وأعضاء، بل ورؤساء المجامع والمجالس يصكّون الآذان باللحن المزري بكرامة العالم).

وعن شهادة الدكتوراه قال الشيخ بوخبزة: (وقد نوقش بحثُه وأحرز لقب الدكتوراه بتقدير “مشرف جدا” وهو أقل من حقه بالنظر لتميع موضوع الدكتوراه الآن حتى نالها من لا يستطيع قراءة ورقة من كتب التراث قراءة سليمة، وحتى أصبح نيلها شارة ضعة وانحطاط).

كما نحا باللائمة على دور النشر التي فقدت بوصلة التمييز بين الغث والسمين، وغدا الربح المادي ديدنها وإن على حساب دينها وعقيدتها، فقال في دعوة حكيمة: (أدعو إلى ممارسة الحسبة على دور النشر في العالم العربي، لسيطرة الروح التجارية عليها إلا من رحم ربك، وقليل ما هم).

ولفت الشيخ بوخبزة الانتباه في كثير من مقدماته إلى بعض الأوضاع المزرية بالمغرب، فأشار إلى التضييق الذي تمارسه وزارة الأوقاف على العلماء والمشايخ الأحرار، حيث كان الشيخ الأمين أحد ضحايا هذا الشطط فقال: (وقد سبق من (وازر) الأوقاف أن طالتني يده الظالمة، ولم يراع شيبتي في الإسلام، ولا نسبي إلى خير الأنام عليه أفضل الصلاة والسلام، وهو يتمسح بالتصوف وأهل البيت، كما لم يرفع رأسا لعدة عرائض ممهورة بمئات التوقيعات، وقد تركتُ له (منبره) و(كرسيّه) وسلِمتُ بحمد الله من كل بلية).

كما استنكر صمت علماء المغرب حيال الانتهاكات التي تطفو على السطح من المناوئين لديننا الحنيف فقال في تقديمه لكتاب (الغارة على السنة النبوية) للدكتور الحسن العلمي ردّا على سباب (بومة آدمية) للرسول صلى الله عليه وسلم على أمواج الإذاعة الوطنية المغربية: (إلا أنه يظهر مما جرى ويجري -والبقة تأتي- أن مالكية المغرب لدى المتأخرين إنما هي في الطهارة والغسل والحيض وسجود السهو).

وعن التصوف والزوايا المنتشرة في المغرب انتشار الجراد في حقول خضراء، كانت للشيخ وقفات عديدة مع مجموعة من الكتب، ففضح وأفصح وكشف وبين ضلالات هؤلاء القوم (الذين لا يكادون يفقهون حديثا). فقال في تقديمه لكتاب (رؤية النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته يقظةً بين الأصول الشرعية والعقائد الصوفية) لصلاح فتحي هلل: (ومعلوم أن المغرب الأقصى في طليعة الدول المنكوبة ببلاء التصوف الفلسفي، فمنذ دولة الموحدين إلى المرينيين إلى الوطاسيين فالسعديين فالعلويين، والمغرب يعاني من أرباب الزوايا وشيوخ الضلال أدواء تحيّفتْ أخلاقَهُ وعقيدتَه، فأفسدتها بيئة الشّطح والدعاوى والمزاعم المنافية للعقل والنقل، والتي ظهرت آثارها في سلوك المغاربة، فأخلدوا إلى الراحة، وعُرفوا في الشرق بممارسة السحر والشعوذة والخرافة والسيميا).

وقد عزا الشيخ الجليل ذيوعهم عبر التاريخ المغربي إلى صمت الجهات الرسمية وتخاذلها في ردع هذه الطوائف والفرق المارقة، حيث قال في مقدمة كتاب (حوار هادئ مع عبد السلام ياسين) للشيخ أبي عاصم عمر بن مسعود: (وما دام الباب مفتوحا على مصراعيه للأدعياء والدجاجلة في غيبة الحسبة الشرعية والوازع الديني، فلكل من أراد الحق في إنشاء طائفة وبناء زاوية ولن يكلفه ذلك إلا تصنع الحال وادعاء منامات والشطح بكلمات، والأغبياء في الدنيا كثير والأنعام خلقها لكم…).

كما حذّر من التشيع قائلا: (ولا غرو بعد هذا أن ينتشر التشيع والرفض في هذا البلد، وتفتح مكتبات في بعض مدن المغرب باستيراد كتب الروافض وبيعها دون سواها، فإلى أهل الحل والعقد العلماء العالمين والدعاة الصادقين، أن ينتبهوا لهذا الخطر الداهم والظلام القادم، ويتداركوا الأمة وهم مسؤولون عنها قبل أن يستفحل الداء ويعز الدواء).

والملاحظ أن جلّ من قدم لهم الشيخ كانوا من الرجال، باستثناء تقديم واحد ظفرت به الدكتورة حنان الفاضلي في تقديمها وتحقيقها لكتاب (الدرّة الشريفة في الكلام على أصول الطريقة) لأبي عبد الله محمد بن علي الخروبي.

عموما فقد (كانت لي أنَسَةٌ بهذا العمل)، وشرفت بقراءته والاستفادة مما ورد فيه من معلومات في موضوعات شتى، ولعل الكتاب يعتبر نافذة مهمة يطل من خلالها القارئ على شخصية الشيخ بوخبزة بارك الله فيه، ويقف على سعة علمه ومعرفته برجال الحديث، وإلمامه بالعلوم الشرعية، ومعرفته بالشعر والأهم غيرته الشديدة على دين الله وصدعه بالحق ضد التيارات الظلامية التي تسيء للإسلام والإسلام منها براء. فجزى الله الداعية الفاضل رضوان بن عبد السلام خير الجزاء على عمله النبيل الذي يحفظ به جزءا من علم الشيخ، وبارك في علمه ودعوته وجعل سبيل الخير ممهدا له، وحفظ للمغرب علماءه الأفاضل وهدى الصالحين لنبش القبور التي وارت الكثير من علوم علمائنا حتى قيل (المغرب مقبرة العلماء).

والله من وراء القصد.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M