المعنى الحقيقي للصبر على المكاره.. قراءة في مضامين خطبة الجمعة ليوم 29 أبريل 2016

11 مايو 2016 23:46
أسباب اختيار موضوع «حب الوطن» في خطبة الجمعة في أيام الحملة الانتخابية

أحمد المتوكل (خطيب سابق موقوف)

هوية بريس – الأربعاء 11 ماي 2016

أخبرني مصدر موثوق أن الموضوع الذي كان مقررا أن توجه في شأنه المندوبيات مذكرات للسادة الخطباء من أجل إعداد خطبة يوم الجمعة المذكور هو ذكرى الإسراء والمعراج التي كانت ستحل ذكراها في الأسبوع الموالي له، إلا أن وزارة الداخلية وبسرعة البرق وحسب أحداث الانتحار التي أثارت الرأي العام الوطني وزعت على مندوبيات الشؤون الإسلامية خطبة تحث على الصبر على شدائد الحياة وما قد يتعرضون إليه من محن وابتلاءات.

وحسب بيانات نسخة خطبة الجمعة الموجهة للخطباء وسياقها الزمني والقرائن اللفظية لعباراتها، وسهر أجهزة الداخلية على تبليغها للخطباء فإن مصالح الداخلية هي من هيأتها بتنسيق مع وزارة الأوقاف التي نفذت الأوامر فقط.

كما أن الأذكياء والفطناء من المصلين الذين حضروا خطبة الجمعة الأخيرة أدركوا أنها صيغت بهاجس أمني لحث المواطنين على الصبر الذي تريده أجهزة الداخلية وتفهمه على طريقتها الخاصة.

موضوع الخطبة جاء بعد أحداث أهين فيها بعض المواطنين من طرف بعض رجال السلطة والتي نتج عنها عدة انتحارات في مناطق مختلفة، حيث احتجوا على مظلوميتهم بطريقة حرق الأجساد، تصرفُ المنتحرين أرعب مصالح الداخلية وزرع الرعب في أركانهاودفعها لإعطاء تعليماتها لعلمائها الموضوعين رهن إشارة وزارة الأوقاف،فكتبوا بسرعة قصوى تلك الخطبة التي كان الغرض منها هو كبح الفعل الميداني الاحتجاجي للمقهورين والمظلومين خوفا من تصرفات مستقبلية أكثر تصعيدا قد تسير في اتجاه أحداث تونس بعد حادث إحراق المرحوم البوعزيزي لنفسه.

ليس عيبا أن تحث وزارة الداخلية أو وزارة الأوقاف أو أية جهة أخرى المواطنين على عدم الانتحار، لأن الإقدام عليه محرم شرعا ومستقبح أخلاقا، وهذا لا يمكن أن يقبله عاقل، ولكن يجب على الدولة وعلى كل رجالها وإداراتها ومؤسساتها وأجهزتها أن تعمل بكل إمكانياتها على إزالة كل الدوافع والأسباب المؤدية إليه كيفما كانت.

وليس عيبا أن يُنصح المواطنون بالتحلي بخلق الصبر وضبط النفس، فالصبر في السراء والضراء مطلوب في كل الأعمال وفي كل الأحوال ومن كل الأشخاص، ويكفي إدراج الحكمة التالية لبيان أهميته وضرورته في جميع مناحي الحياة، قال أحد الحكماء: “بالصبر واليقين تُنال الإمامة في الدين“.

لكن الذي لا يُقبل في الموضوع هو أن تحث الجهات التي صاغت الخطبة المواطنين العاديين ومن جهتهم فقط على الصبر، بل كان عليها أن تحث وفي نفس الخطبة رجال السلطة وكل المسئولين على ضمان حقوق المواطنين، وعدم ظلمهم والاعتداء عليهم، والتيسير عليهم والتعامل معهم برفق ورحمة دون إهانتهم أو إذايتهم مع تطبيق القانون بطريقة حضارية راقية ترعى المصالح العامة وتحفظ كرامة الموطنين وحقوقهم.

إن الخلاصة العامة التي خرج بها المصلون الأذكياء لمّا سمعوا خطبة الجمعة الأخيرة هو أن المواطنين مطلوب منهم الصبر على مكاره التصرفات غير القانونية لبعض عناصر القوات العمومية وبعض رجال السلطة المتهورين.

إنه منطق خلق الصبر السلبي الذي يعني الصبر وتركالمطالبة بالحقوق وإن هضمت، وعدم الشكوى وإن نُهبت الأموال أو عنفت الأجساد أو صودرت الممتلكات، أو أهينت الكرامات، أو أزهقت الأرواح، أو انتهكت الحرمات، أو قطعت أرزاق الأبناء بطرق غير قانونية وسلبت الحريات، هذا هو الصبر الزائف الذي جنى على الأمة وجعلها غثاء كغثاء السيل،منقادة لا قائدة، مهزومة مأزومة، يُفعل بها ولا تفعل، تهان ولا تصان،..

الصبر على المكاره في فهم العلماء الرسميين يعني عدم رفع الصوت على من ظلمك، وعدم الاحتجاج على من اعتدى عليك، وترك الاشارة إليه ولو بالأصبع، ويعني الرضا بالقمع، وقبول المنع، وتحمل الإهانة والأذى، وإلا فأنت مواطن فتان مشاغب غير صالح.

إن الصبر على المكاره تختلف كيفية التعامل معه باختلاف أحوال المسلمين وأزمنتهم وأمكنتهم وقوتهم وأعدائهم وإمكانياتهم المادية والبشرية.

ليس من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم الصبر على ظلم الظالمين، وليس من هديه إعطاء الدَّنِيةِ طوعا، إذْ كان صلى الله عليه وسلم يتلقى أذى الأعداء ويصبر عليه وفي الوقت نفسه يسعى لرفعه عنه بكل الوسائل المتاحة، وكذلك كان خلفاؤه الراشدون وصحابته الموفقون وورثته العاملون.

ولواختار الرسول -في مرحلة الإيذاء- طريق الصبر السلبي ولم يبحث عن طرق أخرى للإفلات من أذى الكفار ونشر الإسلام والدعوة إليه لانتهى الإسلام بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم.

كماوجهت الخطبة من اعتُدي عليه وظُلم إلى حل واحد تمثل في اللجوء للقضاء وكأن قضاءنا نزيه، وكأنه ليس هناك سبيل آخر لرفع الظلم.

لقد تغافل وتجاهل معدو الخطبة أن الصبر والرضا بالقضاء والقدر لا يعني أبدا في ديننا الحنيف الرضا بالدون والعيش الهون، ولا القبول بالظلم وتحمل ظلم الظالمين بصدر رحب والسكوت على جرائمهم، ولا يعني أبدا الاستسلام والانهزام، بل يعني التفاعل مع الوقائع النازلة بحكمة وروية، ودفع القضاء القبيح بقضاء حسن وبفعل حميد وبطرق مشروعة قانونية سلمية حضارية بعيدا عن العنف اللفظي أو الفعلي، حتى لا تضيع المقاصد الشرعية التي جاءت الشريعة السمحاء لحفظها.

إن الصبر الحقيقي الذي دعا إليه الشرع وأمر به وجعل الجزاء عليه بغير حساب، هو بذل الجهد المشروع لإزالةالأضرار الحاصلة على الدين أو النفس أو النسل أو المال أو العرض.

إن الصبر المطلوب شرعا هو ذلك الخلق الذي يُظهر المؤمن أمام الشدائد حكيما في تصرفاته، متئدا متزنا لا متهورا، قويا لا ضعيفا، منتصرا لا منهزما،عزيزا لا ذليلا، رافعا رأسه لا مطأطأه أمام من ظلمه أو أهانه أو اعتدى على حرماته. 

إن خطبة وزارة الأوقاف الأخيرة أراد من كتبها أن نكون مومنين دراويش ساكتين بُكما خاضعين مستسلمين أمام من اعتدى على حقوقنا، وألا يحتج محتج وإن تعرض لظلم مهين، أو صودرت ممتلكاته بغير قانون أو ضيعت أقوات أبنائه.

لماذا لم يأْمر معدو الخطبة القوات العمومية بالصبر والانصياع للشرع والقانون أثناء التعامل مع المواطنين المطالبين بحقوقهم المهضومة بطرق سلمية وباحتجاجات شرعية وعدم التعرض لهم بالضرب والتنكيل في الشوارع العمومية أمام مرأى ومسمع من الجميع؟

ولماذا غاب عمن صاغ تلك الخطبة -التي تدعو إلى الصبر من جهة واحدة- حث السادة رجال السلطة المحترمين على الصبر وضبط النفس أثناء التعامل مع الباعة المتجولين وإعطائهم حقوقهم واحترامهم ومعاملتهم بكرامة،وعدم أخذ سلعهم والاستيلاء على رزق أبنائهم وإتلافه بغير قانون، وما ألجأهم إلى عرض بضائعهم في الشوارع إلا الفقر والحاجة؟

وأسأل السادة العلماء معدي الخطبة مَا الأفضل للفقراء الصبر على قضاء الله وقدره بالفقر والخصاصة والمكوث في البيوت جوعا حتى الموت كي يكتب لهم أجر الصبر على قضاء الله بالفقر، أم اتخاذ الأسباب المشروعة التي لا تضر بأحد من أجل إعالة أنفسهم وأهلهم؟

ولسائل أن يسأل:هل اللجوء إلى الموعظة الدينية وحدها كاف لتوجيه المواطنين إلى عدم الاحتجاج ضد من اعتدى عليهم؟

إن موضوع الخطبة تركيعي لا ترقيعي، ولا يمكن أبدا أن يزيل الأسباب التي تجعل الكثير من المظلومين يلجؤون إلى إحراق أجسادهم.

يقول الله عز وجل في سورة الشورى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ،وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا، فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ،وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ،إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} (الآيات:36-39).

إن الإسلام شَرَع لمن ظُلم ألا يتنازل عن حقه، وله أن يدفع عنه الظلم النازل به ويزيله بالطرق المشروعة، وله أن يعفو ويسامح من ظلمه إذا كان الظلم قليلا محدودا، ومن أفراد وفي أمور شخصية لا تضر بالعامة وبحقوقهم، فأجره حينئذ عَلَى اللَّهِ.

أما إذا كان الظلمم منهجا فاحشا والبغي زائدا، ومن شخصيات عمومية، وعصابات إجرامية، ومن قوات إرهابية تريد أن تجعله قاعدة عامة ونهجا مسلوكا، وجب على الدولة والأفراد والهيئات السياسية والحقوقية والنقابية مواجهته للحد منه وإزالته حتى لا يكثر ويعم ويستأسد البغاة ويسود الجور ويزداد الطغيان ويحصل القتل، وتزهق الأرواح وتضيع الحقوق وتفسد الحياة ويختل بناء العمران وتعم الفوضى في الأوطان ويحصل الدمار والخراب يقول الله عز وجل في سورة الشورى: {ولولا دفاع الله الناسَ بعضَهم ببعض لفسدت الأرض}  (البقرة الآية:249).

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M