تقرير الحالة الدينية بالمغرب: من الإصلاح إلى إصلاح الإصلاح

11 أغسطس 2018 18:09

د.امحمد الهلالي – هوية بريس

بخصوص خلاصات الحالة الدينية يمكن التمييز بين خلاصات بملامح استراتيحية وأخرى ذات طبيعة تدبيرية.

أولا: على الصعيد الاستراتيجي فان الخلاصة الأساسية هي أن جميع المؤشرات ترسخ حقيقة الإقبال المتزايد على الدين بما في ذلك الطلب عليه في الحياة العامة. حيث إن المؤشرات الكمية ما زالت في ارتفاع، لكن هذا الارتفاع لا يوازيه نفس الارتفاع من حيث الكيف بل يتم تسجيل بعض التنافر بين الكمي والكيفي وبين الالتزام بالشعائر وضعف تمثل قيم التدين، بين التشدد في بعض الأحكام الجزئية والتفريط في بعض القيم الكبرى كالصدق والنزاهة واستسهال التعامل بالربا والتساهل بقضاء بعض المآرب حتى مع تقديم رشوة أو وساطة والسوء في المعاملات وضعف الإتقان في العمل وأداء الواجبات.

– ومن الخلاصات كذلك هو أن الإقبال المتزايد شعبيا على التدين يقابله تزايد في الجرأة نخبويا على قطعيات الدين وحرمات التدين في صورة ازدراء شعائر أو مجاهرة بانتهاك مقدس أو دعوة إلى رفع الطابع الجرمي على محرم ديني وغيره.

-ومن الخلاصات أيضا هو تسجيل حالة من الانتقال من صورة كانت تتسم بالوحدة والنمطية حول شكل ومضمون المتدين بسبب وحدة مصدر إنتاج مظاهر التدين إلى صور أكثر تنوع وتعدد حول المتدين والتدين وأشكاله، بسبب تعدد في مصادر إنتاج الخطاب الديني وتعميمه من قبيل الإعلام الديني التقليدي والجديد وأثر ظاهرة الدعاة الجدد وحالة التمايز بين المدارس الدعوية فيما بينها وبين توجهات داخلية في كل مدرسة منها على حدة، ففي المدرسة السلفية هناك تباين بين سلفية علمية وأخرى مدخلية وثالثة جهادية، وفي المدرسة الصوفية العرفانية سجل الاختلاف بين سند مشرقي وسند مغربي وبين توجهات غنوصية بدعية واتجاهات روحية خلقية سنية، وفي المدرسة الوسطية الحركية هناك تباين بين توجه المشاركة المؤسساتية وتوجه المغالبة والمقاطعة.

– ومن الخلاصات كذلك هو أن المغرب تصدر الشعوب العربية في مؤشر الشعوب الأكثر تدينا والأقل علمانية في رصد مدى تجاوبه مع الطروحات العلمانية، فمقاربة سؤال الدين بين الحياة الفردية والحياة العامة أو الموقف من وجود أحزاب بمرجعية دينية أو في القبول بهاته الأخيرة في الحكومة كان المستجوبين المغاربة أكثر ميولا للتدين وأقل انجذابا للعلمانية وهو ما يظهر من خلال أغلب الدراسات المسحية والرصدية أو استطلاعات الرأي الدولية الموجهة إلى الشباب عربيا أو دوليا التي اعتمد عليها تقرير الحالة الدينية الصادر في يوليوز 2018.

– من الخلاصات أيضا ان هنالك حالة من الاستقرار في النموذج المغربي في التدين باختياراته العقدية والمذهبية والسلوكية وحصول شبه إجماع على احترام هاته الاختيارات والالتزام بها مؤسساتيا حيث أصبح هذا الالتزام مطردا وسجل ارتفاع في الطلب الخارجي عليه أوربيا وإفريقيا وعربيا بوصفه إجابة وسطية على الجمع على المستوى النظري بين مقتضيات مجال ديني من مظانه أن يظل موحدا وموحدا وجامعا وبين مقتضيات مجال مدني من مظانه التنوع والاختلاف والتدافع والتنافس والجمع كذلك على المستوى العملي بين متطلبات حرية المنبر وضرورات المسؤولية إزاء الأمن الروحي في نطاق الثوابت الدينية والوطنية.

وفي نفس الخلاصة تم تسحيل نوع من الاكتمال في معالم النموذج المغربي في التدين الوسطي السمح في اختياراته الثابتة وخطابه الجامع بشكل يجعل المسجد جامعا والخطاب الدعوي الإرشادي مجمعا لا يفرق، ذي منزع تأليفي لا خلافي مرحميا لا اتهاميا في جوهره، محببا لا منفرا في مسلكياته، تنضبط فيه الفتوى بضوابط أصول المذهب المعتمد مع تمييز في جانب بين عام متروك للمجلس العلمي الذي قد يصدر رأيا في مسألة ويغيرها تحت الضغط الحقوقي كما في رأيه بخصوص حكم الردة، الذي أصدر فيها رأيان.

وفي الجانب الآخر بين الشأن الخاص الذي يتسم بالتنوع ويبقى دائر بين منهج التيسير ومنهج التحوط وبين الرخصة والعزيمة دون أن تختفي بعض المظاهر الشاردة في بعض المواقع ومنصات التواصل الاجتماعي وبعض الخرجات المنفعلة أحيانا، ومع استمرار وجود حالات شاردة لا تمثل التوجه العام.

– ومن الخلاصات أيضا على مستوى الفاعلين الدينيين غير الرسميين من مختلف المشارب هو ما يسجل من تحولات بعضها مهيكل في الخطاب والممارسة معا في اتجاه مزيد من الانخراط في النموذج المغربي للتدين وفي اتجاه مراجعات نوعية لبعض المسلمات المغتربة في التاريخ أو في الجغرافيا، والتي كانت تشكل في أوقات معينة أساسا لبعض مظاهر الغلو في الدين والفهم الضيق للسعة والرحمة التي جاءت الشريعة بها.

-من الخلاصات كذلك هو وجود مفارقة بين الصورة النمطية المروجة بكثافة على المستوى الإعلامي وبين حقيقتها في الدراسات المسحية والعلمية واستطلاعات الرأي والبحوث الميدانية من قبيل موضوعة الإلحاد التي يروج على أنه ظاهرة قادمة تعكس حالة ما بعد الإسلام السياسي أو تترجم واقع الإحباط في صفوف قواعد الإسلاميين لما بعد الربيع العربي، وبين مستوى حضور هذه القضية في واقع الرصد العلمي والبحثي حيث لم تتجاوز نسبة من يعلمون بوجود ملحد بين الأقارب أو الأصدقاء نسبة واحد في المائة فقط، ولا أحد من المستجوبين أعلن أنه ملحد، ونفس الأمر بخصوص المنصرين أو المتشيعيين الذين تنقل تقارير الخارجية الأمريكية أو القصاصات الإعلامية أرقاما مضغمة عنهم، بينما لا يشكلون إلا صورا إعلامية منفوخ فيها أو يتم استدعاؤها ضمن مماحكاة أو مساجلات بين الفاعلين أو ضمن خرجات إعلامية مثيرة للجدل لبعض الأشخاص لأجندات معينة وفي مناسبات مدروسة.

– وعلى صعيد حالة التدين لدى مغاربة العالم رغم المجهودات المعتبرة مؤسساتيا وفي التاطير والتكوين والعناية بهذه الجوانب المتعلقة بالهوية والثقافة والتأطير الديني، فثمة تحدي كبير يتعين التغلب عليه ويتمثل في أن المغاربة ما زالوا يتصدرون مؤشرات الإجرام ويحتلون رتب متقدمة في لوائح المسجونين على ذمة قضايا جنائية مقارنة مع الجاليات العربية في أوربا، وما زالوا يحتلون مواقع متقدمة في صوف من تستدرجهم المشاريع العنيفة في بؤر التوتر الإقليمية ويحتلون مواقع قيادية في التنظيمات المسلحة.

ثانيا: أما بخصوص الجانب التدبيري فثمة بعض حالات عزل الأئمة التي يتداخل فيها التبريري بالجوهري، فكما أنه لم يعد هنالك من يقبل بتجاوز دليل الإمام واختيارات التدين وثوابته، ولا أن ينزاح المنبر والخطيب عن وظيفته الجامعة وأدواره التوجيهية، تظل بعض قرارات المتسرعة بعزل بعض الأئمة والخطباء تثير ردود فعل في النقاش العمومي، إذ ليس كل تفاعل مع قضايا وطنية أو نقاشات عمومية إذا لم تسقط في التعيين أو التشخيص أو لم تجنح إلى استهداف هيئات بعينها سيكون فيها الحل الأنجع هو العزل، خاصة إذا تعلق الأمر بعلماء رسميين وأعضاء في مجالس علمية. وليس العزل وحده هو السبيل الأنجع للتعامل مع بعض التجاوزات غير الممنهجة وليس مقبولا إن تظل بعض الصيغ في تحديد المخالفات الموجبة للعزل فضفاضة وتقبل التوسع في التأويل ولا توجد ضمانات كافية للدعوة إلى مراجعتها أو التظلم ضدها في مستوى أعلى من مستويات اتخاذها.

كما أن الضغط على المنبر وعلى الحرية والاستقلالية المفترضة في من ينوب عن أمير المؤمنين فيها هو الحل خاصة في مجتمع مفتوح وفي ظل تشوف أكبر للحرية والتنوع والديموقراطية لا يمكن أن يظل المنبر وحدة ينثني إلى لحظة تاريخة مضت أو إلى سياسة تدبيرية قائمة على التحكم والضبط فقط، بل إن افتراض الخطأ مع حسن النية يبقى هو الأصل إذا أردنا فاعلية أكبر للخطاب الديني في الوقاية من التطرف والحماية من الانحراف والتحصين ضد الاختراق العقدي أو للمذهبي أو الفكري وتثمين خطاب المغربة ضد التشريق والتغريب معا.

وأخيرا فأن سؤال التأهيل الفكري والعلمي للموارد البشرية العاملة في الحقل الديني تفكيرا تنظيرا وتدبيرا، تبقى حاجة ملحة واستحقاق مرحلي لمزيد من رفع القدرات التنافسية للخطاب الديني في أجواء مفتوحة وفي عالم مفتوح.

وفي الختام فان كل هاته الخلاصات تصب في خلاصة مركزية تراكمت على مدى عشرية كاملة من الرصد والتتبع والمواكبة لهذا الورش وهاته الخلاصة هي الحاجة إلى “إصلاح الإصلاح” وإعطاء نفس جديد يعزز المكتسبات ويثمن المنجزات ويتخطى التحديات ويبوأ الخطاب الديني مكانة الصدارة في النموذج الإصلاح العام المطلوب تعزيزه، وإطلاق دينامية جديدة متجددة فيه لمواجهة حالة اللايقين التي تجتاح عالم اليوم وتدفعه في اتجاهات شعبوية أو لا أدرية أو في تغذية نوازع صدام الحضارات عوض تكاملها وتجنح نحو اتجاهات تدابر الشعوب عوض تعارفها وتنمي نزعة الفردانية بدل قيم التضامنية و قيم الإباحية ضد قيم الفطرة والمسؤولية.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M