تلميذ سابق لأبي حفص يروي شهادته عن السلفية الجهادية بفاس (2): الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

09 يوليو 2018 16:50
تلميذ سابق لأبي حفص يروي شهادته عن السلفية الجهادية بفاس (5): الموقف من العلماء

هوية بريس – ذ. الحسن شهبار

المسألة الثانية: مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

قبل مجيء أبي حفص إلى فاس كانت مسألة تغيير المنكر باليد منتشرة عند فئة من الشباب، وكان يُعارض هذه المسألة كل الدعاة الذين يُحسبون على (السلفية الجهادية)، ومن هؤلاء الدعاة الشيخ محمد الرميش والشيخ عبد العزيز لحمامصي والشيخ محمد بالحبيب، وبعد استقرار الشيخ بمدينة فاس تطورت هذه المسألة تطورا خطيرا بسبب مساندته القوية لوجوب تغيير المنكر باليد؛ فما أن استقر الشيخ والتف حوله الشباب حتى بدأ في إلقاء مجموعة من الدروس التي تؤصل لفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. ومن هذه الدروس درس بعنوان: (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، وآخر شرح فيه حديث السفينة ألقاه بجمعية أسد الله حمزة بحي بنسليمان؛ حيث بيّن من خلال هذا الحديث وجوب الأخذ على يد المفسد حتى لا يعم البلاء وتغرق السفينة.. وقد تأثر الشباب بكلامه غاية التأثر، ووافق ذلك هواهم ومبتغاهم، وتمردوا على شيوخهم التقليديين بعدما وجدوا بُغيتهم عند الشيخ الشاب..

وهكذا تطورت عمليات النهي عن المنكر باليد في الشارع العام، وأخذت أبعادا خطيرة جدا؛ خصوصا بأحياء لابيطا ظهر الخميس. وانضم إلى قافلة الشباب الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر مجموعة من الفتيان الذين لا تتجاوز أعمارهم ثلاث عشرة سنة، والذين كوّنوا مجموعات خاصة بهم؛ فكانوا يخرجون للشارع العام فإذا وجدوا فتاة متبرجة رموها بالحجارة عن بعد بواسطة ما يسمى (الجباد)، أو رشوها بالماء القاطع؛ بل وصل الأمر ببعض هؤلاء الفتية أن أحدهم كان يرمي بجهاز التلفاز من نافذة بيتهم بدعوى أن أمه وأخواته يستعملونه في مشاهدة المنكرات، وهذا كله بفضل فتاوى الشيخ في هذا الباب دون مراعاة للمصالح والمفاسد، ودون مراعاة للضوابط الشرعية؛ فنتج عن ذلك مفاسد كبيرة تتجاوز أحيانا المنكر الذي كانت تنهى عنه.. فقد عرفت مجموعة من الشباب والفتيان كانوا يقومون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بشوارع فاس وبالأماكن العامة، وكان بعضهم يقوم بسرقة أموال من يجدونه في وضعيات لا أخلاقية، كما يسرقون ذهب الفتيات اللاتي يعاكسن الأولاد في الخلوات والأماكن المشبوهة بدعوى أن هؤلاء يستعملن هذا المال في الحرام، فيؤخذ منهم حتى لا يستعينوا به على معصية الله تعالى!!

لقد كانت عمليات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تتم تحت أعين رجال السلطة؛ بل وفي كثير من الأحيان بإذنهم وبتنسيق معهم؛ فكانوا حينما يعجزون عن الإمساك بمجرم خطير يستعينون ببعض الإخوة الذين كانوا لا يترددون في مد يد المساعدة للسلطات الأمنية في هذا الباب، ثم شُكلت بعد ذلك بمباركة من السلطات المحلية وداديات الأحياء، فأصبح لكل حي ودادية خاصة به، وكان من مهام هذه الوداديات حفظ الأمن داخل الحي ليلا ونهارا، وهكذا شكلت كل ودادية مجموعات من الشباب الأقوياء الذين يتناوبون على حفظ أمن الحي وحراسته كل ليلة مقابل مبلغ شهري يتراوح بين 1000 و1200 درهم في الشهر، ويُجمع هذا المبلغ من طرف سكان الحي الذين كانوا يدفعون مبلغ 20 درهم للأسرة الواحدة، وقد لقيت هذه المبادرة ترحيبا كبيرا من طرف الجميع ونعمت تلك الأحياء بأمن وسلام لا عهد لها به، وأصبحت المرأة تسير ليلا إلى حيث تشاء لا تخاف على نفسها ذئبا ولا خنزيرا ولا مجرما ولا صعلوكا، وكان أفراد مجموعة الحراسة في غاية الأدب وقمة الأخلاق، أذلة على الضعفاء والمساكين أعزة على المعتدين والمجرمين، يُسارعون في مساعدة الناس وقضاء حوائجهم؛ فكسبوا بذلك قلوب الجميع، ولم يرق هذا الوضع صنفا واحدا من الناس، وهم المجرمون المروجون للخمور والمخدرات؛ فقد كانوا هم أكبر ضحية لهذا التوافق والتعاون الحاصل بين الإخوة والسلطات الأمنية، وضُيق الخناق عليهم، فدخل كثير منهم في دين السلفية الجهادية، وأعلنوا توبتهم، وغيروا ملابسهم، وأطلقوا لحاهم، وصرنا أمام نوع جديد من الشباب، يمكن أن نسميهم (حديثو عهد بالالتزام)، أفلحنا في تغيير ظاهرهم ولما يدخل التغيير قلوبهم، شباب ملتزم ظاهريا ومنتكس باطنيا، شباب فاشل في دراسته وفي علاقاته مع أهله وأقربائه، إن هؤلاء (الملتزمون الجدد) كان لهم أثر سيء جدا في انحراف مسيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن مسارها الذي بدأت به على يد جيل من الإخوة العقلاء والحكماء، وأصبح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسيلة للتسلية والتكسب بالنسبة لشباب تائه ضائع، تغذيه فتاوى ودروس أبي حفص الذي كانوا يحرصون كل الحرص على حضور دروسه بكل من سيدي بوجيدة ولابيطا الدكارات، هذه الدروس التي تحولت فجأة من دروس تعليم الطهارة والصلاة إلى الحديث عن الجهاد في سبيل الله كما سيأتي بيان ذلك في موضعه من هذه السلسلة، وهكذا أصبح هؤلاء الشباب الجدد يعتبرون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بابا عظيما من أبواب الجهاد في سبيل الله تعالى، مما خلف استياء كبيرا عند كثير من الإخوة والدعاة وطلبة العلم، وقد زرت يوما هؤلاء الشباب رفقة صديق لي، وكانوا يبيتون مجتمعين بأحد المنازل المهجورة، بعد شروق الشمس، فوجدناهم لا زالوا نائمين، فقلت لهم موبخا: كيف تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وأنتم تُفرطون في صلاة الفجر؟ أليس هذا منكرا وكبيرة من الكبائر؟

لقد كان لأبي حفص دور كبير في انحراف خرجات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن مبادئها وأهدافها التي خُططت لها من قبل قدماء الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، واختلط الحابل بالنابل، ولا زلت أذكر في ليلة من الليالي وقد اجتمع كثير من الشيوخ بمنزل أحد الإخوة بحي السعادة بفاس بمناسبة حفل زفافه، وكان من بين الحضور الشيخ محمد الفزازي الابن والشيخ أبو حفص، وكان الحضور كبيرا جدا؛ فتكلم الشيخ الفزازي عن مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وذكر أنه لا يجب بتاتا أن تكون باليد، لأن ذلك من اختصاص السلطات، وتكلم كلاما علميا مضبوطا ومقنعا؛ وقد كان هذا هو مذهب الفزازي من يوم عرفته وقرأت له، وكان يذكر ذلك في مقالاته وردوده ومحاضراته ودروسه، فتمتم كثير من الحاضرين ولم يُعجبهم كلام الشيخ الفزازي؛ فأخذ الكلمة الشيخ أبو حفص ورد ردا عنيفا على كلام الشيخ الفزازي مذكرا الحاضرين بقياسه الذي يذكره دائما في هذه المسألة، وهو أنه لو كنت تمشي في الطريق ومعك أمك أو زوجك أو أختك أو إحدى قريباتك وتعرضت لسوء أو تحرش أو اعتُدي عليها وأنت تنظر فهل ستسكت أم أنك ستُدافع عن عرضك وأهلك وكرامتك ولو اقتضى الأمر أن تُضحي بنفسك؟؟ ثم يُردف قائلا: فكيف بك وأنت تسمع سب الله والرسول والدين، فأيهما أحب إليك.. أمك وزوجك وأختك أم الله ورسوله والدين!! ثم قال بالحرف: هذه الأعمال التي يقوم بها هؤلاء الشباب بُطولات يجب أن تُكتب بماء الذهب.. فاهتز حينها سطح البيت بالتكبير والتهليل..

بل لقد صرح أبو حفص من داخل سجنه الأول في أول تصرح صحفي حينها لصحيفة (الصحيفة) في عددها 68 بتاريخ 31ماي/6 يونيو 2002م، في رده على سؤال: ما علاقتك بالشباب المتابعين في قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ فقال بالحرف: “غالب هؤلاء الشباب لا أعرفه معرفة شخصية، ولكن قد يكونون من المداومين على حضور دروسي ومحاضراتي. لكن بغض النظر عن إصابة هؤلاء أو خطئهم فيما فعلوه، وبغض النظر عن الكيفية والطريقة، الذي أستغرب له: هل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصبح جريمة يُعاقب عليها القانون؟ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سهم من سهام الإسلام، وفريضة دينية، وهو مهمة الرسل والأنبياء، والمصلحين والعلماء، وبه قوام الأمة، ومتى تخلفت عنه أصابها الذل والهوان..“، ثم يواصل قوله: “تزعم السلطة أن لها الحق وحدها في ممارسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيا ليتها قامت بذلك… لو فعلت ذلك لا أعتقد أن هؤلاء الشباب سيقومون بما قاموا به“.

هذه الفتاوى الطائشة من أبي حفص الموجبة والمدعمة لعمليات النهي عن المنكر باليد أعطت لهذه العمليات بُعدا خطيرا، وجعلت القائمين بها بحي لابيطا ظهر الخميس يُكثفون منها ويوسعون نطاقها حتى وصل الأمر إلى وقوع صراعات مسلحة -استعملت فيها السكاكين و(المساطر) والهراوات- بين الإخوة وبين بعض أباطرة المخدرات، وقد نتج عن تلك المواجهات قطع يد أحد أكبر مروجي المخدرات حينها، وهو ما سيُحاكم بسببه كل المعتقلين بحي لابيطا ظهر الخميس سواء قبل أحداث 16 ماي أو بعدها، وتوزع عليهم عشرات السنوات من السجن.. وسرعان ما انقلبت أجهزة الأمن على هؤلاء الشباب، وبدأت تعتقلهم بتهم الضرب والجرح، وانتحال وظيفة نظمها القانون، وتنكرت لأولئك الذين مدوا لها يد المساعدة في القبض على كثير من أباطرة الإجرام والمخدرات؛ بل نهجت السلطات أسلوب وضع الفخاخ لاصطياد هؤلاء الشباب، فكانت تشجع بعض المنحرفين على إعلان سُكرهم وعربدتهم لاستفزاز أولئك الشباب واستدراجهم إلى المصيدة ليُلقى عليهم القبض وهم مُتلبسون بجريمة النهي عن المنكر!! وهكذا أصبحت السلطات الأمنية تُناصر السكارى والحشاشين وتعتقل كل من سولت له نفسه الوقوف في طريقهم.. وقد حدث هذا عند اقتراب وقوع أحداث 16 ماي الإرهابية بشهور قليلة فقط..

واليوم يؤكد أبو حفص في كل مناسبة على مظلوميته، ويُصرح بملء فيه أنه لم يكن يوما يؤمن بمنهج التكفير والتفجير، وأنه بسبب مراجعاته الجريئة تعرض لانتقادات شديدة من أصدقاء الأمس بلغت حد تكفيره، وأنه لم يكن يوما ما حرا مختارا في تقلباته وتحولاته، وإنما كان ضحية سياسات عمومية وبيئة أسرية جعلت منه شيخا سلفيا دون رضاه، وأن التحول الوحيد الذي قام به في حياته هو التحرر من كل القوالب التي تربى في وسطها، وانطلاقه نحو فكر حر غير مقيد بأي أيديولوجية معينة!! ولو كان يملك الشجاعة والجرأة لاعتذر لأتباعه القدامى عن تلك الفتاوى التي أذكت حماسهم وزجت بهم في غياهب السجون، وكان عليه أن يبذل كل ما يستطيع لإقناعهم بخطإ ما كانوا عليه كما أقنعهم من قبل بصوابه ووجوبه، بدل أن يتنصل من كل المسؤولية في مراجعاته ويرمي بها هؤلاء الأتباع والأصحاب الذين مارسوا عليه الإكراه والإرهاب..

إن التاريخ يشهد أن أبا حفص كان مسؤولا عن كل التجاوزات التي حصلت في مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنه كان بالغا عاقلا وحرا في كل أقواله وأفعاله، وأنه مسؤول عنها أمام الله وأمام الناس، وأما تعرضه للانتقاد الآن فليس بسبب مراجعاته وتراجعه عن أخطائه وهفواته كما يُوهم، وإنما هو بسبب أفكاره الجديدة التي يطعن فيها في قطعيات الشريعة الإسلامية، مثل مسائل الإرث وعذاب القبر والدفاع عن الحريات الفردية… فهذا لا علاقة له بالمراجعات؛ وهو ليس خاصا بالسلفية الجهادية، ولذلك ناقشه فيها كل علماء الأمة بمن فيهم بعض رؤساء المجالس العلمية المحلية ببلادنا.. فمتى يُدرك أبو حفص أن تدليساته وتلبيساته لا يُمكن أن تنطلي إلا على من لا يعرف تاريخه ومسار تحولاته التي لا تنتهي، ومتى يعلم أن الخلاف معه ليس بسبب مراجعاته وتراجعاته، ومتى يمتلك الشجاعة للاعتراف بأخطائه وزلاته دون مراوغة ولا دوران.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M