حكم الاجتهاد عند ابن حزم من  نقد الانطباع إلى تحرير محل النزاع

08 مايو 2020 14:40

هوية بريس – محمد بن عمر أقسقوس

مقدمة:

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيد الخلق أجمعين، محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-  وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين،  أما بعد:

في إطار العناية بالدلالة المصطلحية لما لها من دور بارز في تحرير محل النزاعات، والتقليص من حدة الخلاف الذي طالما أدى إلى التفرق والتشرذم، تأتي هذه الورقة لتناقش إحدى المفاهيم الرئيسية عند أحد أعلام المسلمين، وهو (مفهوم الاجتهاد في نظر ابن حزم)

من هذا المنطلق ناقشت هذا المفهوم من زاوية الإشكال الواقع في انطباع كثير من الناس مفاده:  أن ابن حزم يرى وجوب الاجتهاد على عامة الناس، ولهذا حاولت تحرير هذا المفهوم في نظر ابن حزم لإزالة هذا الإشكال منطلقا في ذلك من الخلفية التاريخية التي كان لها أثرها السيء – بوجه عام – في طمس بعض معالم المنهج الفكري عند ابن حزم، مما نتج عنه في الأخير قصور في تحرير بعض هذه المفاهيم الرئيسية كمفهوم الاجتهاد ومن هنا اخترت أن أتناوله من خلال المطالب التالية :

– ترجمة الفقيه العلامة ابن حزم.

– مفهوم الاجتهاد لغة واصطلاحا.

– أثر الخلفية التاريخية لتشكيل الطابع الإقصائي للمشروع الاجتهادي عند ابن حزم.

– مفهوم الاجتهاد بين نظر ابن حزم وانطباع الناس.

– معنى وجوب الاجتهاد في نظر ابن حزم.

و لهذا سميته ( وجوب الاجتهاد عند ابن حزم من نقد الانطباع إلى تحرير محل النزاع)

المطلب الأول: ترجمة الفقيه العلامة ابن حزم رحمه الله.

هو علي بن أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب بن صالح بن خلف بن معدان بن سفيان بن يزيد الفارسي الأصل، الأندلسي القرطبي اليزيدي مولى الأمير يزيد بن أبي سفيان بن حرب الأموي المعروف بيزيد الخير، نائب أمير المؤمنين أبي حفص عمر على دمشق، الفقيه الحافظ المتكلم الأديب، الوزير الظاهري، صاحب التصانيف، ولد بقرطبة في سنة أربع وثمانين وثلاثمائة للهجرة (384ه)، تتلمذ على مجموعة من علماء الأندلس، كيحيى بن مسعود بن وجه الجنة صاحب قاسم بن أصبغ، وهو أعلى شيخ عنده، وأبي عمر أحمد بن محمد الجسور، ويونس بن عبد الله بن مغيث القاضي وغيرهم.

له مصنفات كثيرة في مختلف الفنون، أشهرها (الإحكام في أصول الأحكام) في أصول الفقه و(المحلى بالآثار) في الفقه الظاهري وغيرهما كثير، مما يدل على نبوغه وبلوغه مرتبة الاجتهاد على حد تعبيره حيث قال: أنا أتبع الحق وأجتهد ولا أتقيد بمذهب.

توفي عشية يوم الأحد لليلتين بقيتا من شعبان، سنة ست وخمسين وأربعمائة (456ه)، وسنه إحدى وسبعون سنة وأشهر -رحمه الله.

المطلب الثاني: مفهوم الاجتهاد لغة واصطلاحا

الاجتهاد لغة: بذل غاية الجهد والطاقة في تحقيق أمر يستلزم كلفة ومشقة. قال أبو حامد الغزالي – رحمه الله – : ولا يستعمل إلا فيما فيه كلفة وجهد فيقال: اجتهد في حمل حجر الرحى ولا يقال: اجتهد في حمل خردلة، لكن صار اللفظ في عرف العلماء مخصوصا ببذل المجهود في طلب العلم بأحكام الشريعة.

أما معناه الاصطلاحي الأصولي فقد اتفقت تعاريف كبار الأصوليين على اعتبار بذل الجهد والطاقة واستفراغ الوسع في سبيل طلب الحكم الشرعي عنصرا أساسيا في بنية الاجتهاد. فقال جامع علم أصول الفقه في بحره المحيط بدر الدين الزركشي: وفي الاصطلاح بذل الوسع في نيل حكم شرعي عملي بطريق الاستنباط. فقولنا: بذل أي: بحيث يحس من نفسه العجز عن مزيد طلب حتى لا يقع لوم في التقصير.

ومن خلال التأمل في تعاريف هؤلاء الكبار لاحظنا أن العملية الاجتهادية متوقفة على عنصرين أساسيين هما:

1-  ضرورة استفراغ الوسع والطاقة بحيث يحس المجتهد من نفسه العجز عن مزيد طلب في البحث عن الحكم، فلا يعتبر اجتهاد المقصر. قال العلامة الأصولي ابن الساعاتي- رحمه الله- : وفي الاستفراغ إشارة إلى إلى خروج اجتهاد المقصر.

2- تقييد عملية الاستفراغ في العملية الاجتهادية بالفقيه، فلا يعتبر اجتهاد غير الفقيه. قال العلامة الأصولي عضد الدين الإيجي – رحمه الله – : وقولنا: الفقيه احتراز عن استفراغ غير الفقيه.

فالاجتهاد الفقهي الأصولي -إذن – صناعة فكرية ومجهود فقهي في أعلى مستوياته، بحيث لا يحده إلا الإحساس التام بالمسؤولية، والشعور العميق بالعجز عن مزيد طلب في البحث عن الحكم الشرعي في خبايا النصوص أو تنزيلها على النوازل المستجدة إذا اقتضى الحال ذلك، الأمر الذي جعل الفقهاء يتساءلون : هل فلان بلغ مرتبة الاجتهاد؟ وهل هو مجتهد مقيد أم مجتهد مطلق ؟ وغير هذه من التساؤلات التي تبين إلى أي حد كان هؤلاء الفقهاء يحسون بالمسؤولية في تولي ممارسة الاجتهاد.

غير أن هذا الإحساس قد يتأثر بالخلفية التاريخية في تقويم مشاريع الرجال فكيف – إذن – أثرت الخلفية التاريخية في تقويم المشروع الفقهي لدى الفقيه ابن حزم – رحمه الله- ؟

المطلب الثالث: الخلفية التاريخية لتشكيل الطابع الإقصائي للمشروع الاجتهادي عند ابن حزم.

فالإنسان ابن بيئته – كما يقال-، والفقيه ابن حزم كان ابن البيئة الأندلسية، في الوقت الذي طالما سادها ذلك التصادم الفكري، واندلعت فيها تلك الصراعات السياسية المتنازعة على الحكم، بالتزامن مع الدفاع عن التوجه الفقه المالكي الحاكم.

في ظل هذا التجاذب الفكري السياسي ظل الفقيه ابن حزم وفيا لانتمائه للبيت الأموي، حتى ولو كان هذا الولاء قد يؤدى إلى نفيه وطرده.

فلم يكن هذا الفقيه الكبير يبالي بما قد يترتب عن تفانيه في الدفاع عن انتمائه السياسي، والانتصار لمنهاجه الفقه الظاهري بذلك الأسلوب القاسي الشامل لانتقاد بعض الأنظمة السياسية والمذاهب الفقهية لاسيما للمذهب المالكي، على اعتبار أنه كان هو المذهب الفقهي الرسمي للمجتمع الأندلسي بامتياز، الأمر الذي دفع بأهل الأندلس إلى أن يوسعوا مذهبه استهجانا، ومنهاجه استنكارا واستبعادا.

وقد كان رحمه الله يشن الغارات على الأمراء، كما كان ينتقد الفقهاء، ويحرص على الكشف عن كل دسيسة أو استبداد فكري يمكن أن يمس سمعة انتمائه السياسي، أو منهاجه الفقهي، كما صرح بالكشف عن اختلاق المعتضد بن عباد لدعوى استمداد السلطة من هشام بن الحكم المؤيد الأموي لكونه – في زعمه – ما زال حيا، مع أنه كان قد مات سنة 322 هجرية فقال ابن حزم: أخلوقة لم يقع في التاريخ مثلها.

وكما أصر على انتقاد المذاهب الفقهية -لاسيما مذهب مالك- كما فعل في تأليف كتابه الذي اعترض فيه على مالك في الأحاديث التي رواها ولم يعمل بها مما جعل الفقيه ابن أبي زيد القيرواني يؤلف كتابه ينقض فيه ما ادعاه ابن حزم في الرد على مالك.

وكما صنف ابن زرقون كتابه (المعلى في الرد على المحلى) لابن حزم

ومع هذا كله لم يكن ابن حزم ليتنازل عن انتقاد آراء المذهب المالكي مقابل الانتصار لمذهبه الفقهي الظاهري الذي كان لا يعتمد على الرأي والقياس في ظنه.

وقد ساعده على هذا النهج أن كانت بلاد الأندلس خالية من علم الجدل والمناظرة لولا أن أبا الوليد الباجي رحل إلى المشرق، فأتى بعلم الجدل، وبدأ يناظره في تلك المجالس التي كانت تعقد للمناظرة من طرف الجهة الحاكمة، وهو الأمر الذي شكل بداية الاتهامات الخشنة، والنكايات البشعة، التي سيكون لها أثرها السيء على سمعة المذهب الحزمي وإقصائه من الساحة الأندلسية والمغربية فيما بعد.

وعلى أي فاستماتة الفقيه ابن حزم في الدفاع عن انتمائه السياسي ومشروعه الفكري بهذا الأسلوب الحاد أثار – بلا شك – غضب الفقهاء، مما جعل المعتضد ابن عباد، أحد أمراء الأندلس، يغتنم الفرصة ليوظف دعوى الانتصار للفقهاء  في تبرير النكاية العظمى التي ألحقها بابن حزم في إحراق كتبه انتقاما لما كان منه في السابق من تزييف تلك الفرية التي اختلقها لإطفاء الطابع الشرعي على توليه السلطة والإمارة.

وهكذا دفعت هذه الحدة بابن حزم إلى تتابع الاتهامات والنكايات، كما لخصها ابن خلكان متحدثا عن ابن حزم قائلا: وكان كثير الوقوع في العلماء المتقدمين، لا يكاد يسلم منه أحد، فنفرت منه القلوب، واستهدف لفقهاء وقته، فتمالؤوا على بغضه، وردوا قوله، وأجمعوا على تضليله، وشنعوا عليه، وحذروا سلاطينهم من فتنته، ونهوا عوامهم عن الدنو إليه والأخذ عنه، فأقصته الملوك وشردته عن بلاده حتى انتهى إلى لبلة (اسم مكان) فتوفي بها.

انتهت حياة ابن حزم – إذن – بالإجماع على تضليله والتشنيع عليه، واعتبار مذهبه بدعة يجب التحذير منها، ومنكرا يلزم إبعاده، فكان أن دون ذلك كله في الصحف، وظل على مر الزمان يشكل انطباعا سلبيا في نفوس الناس وعقولهم تجاه شخصه ومشروعه الفكري، حتى إن الأمير يعقوب، أحد ملوك الموحدين لما اقترح حمل الناس على مذهبه عارضه فقهاء وقته وجمعوا له المسائل المنتقدة على ابن حزم، ولما قرأها جعل يقول: أعوذ بالله أن أحمل أمة محمد – صلى الله عليه وسلم – على هذا.

وعلى هذا فمن الطبيعي – إذن – في ظل هذه الخلفية التاريخية أن يكتنف انطباع الناس في فهم هذا المشروع الفكري الحزمي نوع من الغموض إن على مستوى المفاهيم أو على مستوى الأحكام، وإن من المفاهيم التي لم يتحرر فيها محل النزاع في أذهان كثير من الناس بسبب هذا الانطباع الناتج عن هذه الخلفية مفهوم الاجتهاد في نظر  ابن حزم  – إذن – فما معنى الاجتهاد في نظر ابن حزم؟ وكيف معناه في انطباع كثير الناس؟

المطلب الرابع: مفهوم الاجتهاد بين نظر ابن حزم وانطباع الناس.

كان من الطبيعي -إذن – أن يشكل أثر هذه الخلفية التاريخية انطباعا خاطئا في مشاعر كثير من الناس في شان تحديد مفهوم الاجتهاد في سياق المنهج الاجتهادي لدى الفقيه ابن حزم، وقبل الإشارة إلى مثار غلط هذا الانطباع أنقل نصا عن ابن حزم من كتابه الأصولي ( الإحكام في أصول الأحكام ) يلخص فيه نظريته في تحديد مفهوم الاجتهاد يقول فيه: والاجتهاد الذي نأمر به ونصوب من فعله، وهو طلب الحكم في المسألة من نص القرآن، وصحيح الحديث، وطلب الناسخ من المنسوخ، وبناء الحديث بعضه مع بعض ومع القرآن، وبناء الآي بعضها مع بعض – على ما بينا فيما سلف من كتابنا هذا – ليس عليه غير هذا البتة.

فالاجتهاد  في نظر ابن حزم – إذن – اجتهاد نصي يتحقق بالاعتماد على ظواهر النصوص مع الاستعانة  في ذلك بمعرفة طرق الجمع بين هذه النصوص، ولا مجال في ذلك كله للقياس ولا لآراء الرجال، إذ مصدر أقوال الرجال هي الأخرى يجب أن يكون مصدرها النص الشرعي، وإلا فهي مردودة، وفي تقرير هذا المعنى يقول: وإن لم يجد شيئا مما بلغه منها  (أقوال العلماء)  في نص القرآن ولا في نص السنة لم يحل له أن يأخذ بشيء منها، بل عليه أن يأخذ بالنص وإن لم يبلغه أن قائلا قال به.

يتبين من خلال هذا النص كيف أن  الاجتهاد في نظر ابن حزم عملية فكرية، تعتمد على استثمار النص بالنص مع الإبعاد التام للجانب التأويلي القياسي،  وإلى هذا الحد فالأمر متفق عليه بين الناس، إذ أن إنكار ابن حزم للقياس أشهر من أن يذكر، لكن الإشكال هو فيما انطبع في مشاعر كثير من الناس، وشاع على ألسنتهم من أن ابن حزم يوجب الاجتهاد ويحرم التقليد على عامة الناس.

في هذا الصدد نجد الأستاذ عبد السلام بلاجي يجعل من سمات المذهب الظاهري رفض التقليد ووجوب الاجتهاد على عامة المكلفين، فيقول في معرض استعراضه لهذه السمات : التقليد مرفوض وعلى المكلفين أن يجتهدوا في البحث عن الحكم الصحيح.

كما نجد – أيضا – وفي نفس السياق- الأستاذ محمود أحمد بكير يقول: ابن حزم لا يقبل التقليد إطلاقا حتى الفقير الطاقة، والضعيف الرأي لا يعذر بفقره، ولا يضعف رأيه، فعليه أن يكون قويا عالما ذا رأي سديد مجتهدا وإلا فالويل له.

وهكذا ترسخ هذا الانطباع ليس فقط في أوساط عامة الناس بل حتى في أذهان صفوف النخبة المثقفة، وعليه، فنتساءل الآن عن معنى الاجتهاد الذي ترسخ في ذاكرة الناس هل نفس معنى الاجتهاد الذي تقرر عند الفقيه ابن حزم في أطار منهاجه الفكري؟

لعل الناظر المستقرئ لنصوص الفقيه ابن حزم – لاسيما من كتابه الأصولي ( الإحكام في أصول الأحكام)- سيدرك  – بلا شك – أن ابن حزم عندما يطلق عبارة (وجوب الاجتهاد) في حق عامة الناس لا يقصد الاجتهاد بمعناه الأصولي الفقهي العالي، وإنما يقصد وجوب الاجتهاد في حدود ما يتناسب مع طاقات هذه الفئة من الناس إذ الاجتهاد – في نظره – مفهوم شامل للمعنى الخاص للاجتهاد الذي يعني: المعنى الفقهي الأصولي، كما هو شامل للمعنى العام الذي يعنى: المعنى التقليدي كما هو عند عامة  الناس، فهذا كله مندرج -حسب نظره- في مفهوم الاجتهاد، وفي تقرير هذا المعنى يقول: وقد بينا أن الاجتهاد هو افتعال  من الجهد، وهو في الدين: إجهاد المرء نفسه في طلب ما تعبده الله تعالى في القرآن وفيما صح عن النبي – صلى الله عليه وسلم – لأنه لا دين غيرهما.

ويقول أيضا: ففرض على كل واحد طلب ما يلزمه على حسب ما يقدر عليه من الاجتهاد لنفسه في تعرف ما ألزمه الله تعالى إياه.

فمفهوم الاجتهاد – إذن – من منظور الفقيه ابن حزم – مفهوم شامل لهذا المعنى العام الذي يعني: إجهاد النفس في طلب التفقه في الدين، مما يؤكد أن عبارة ابن حزم ( الاجتهاد واجب أو التقليد حرام ) ليس على إطلاقها.

صحيح أن الفقيه ابن حزم قد يطلق العبارات – كما هو عادة كبار العلماء نظرا لسعة الاطلاع، لكن هذا لا يعفي الباحث من مسؤولية استقراء النصوص وجمعها – إذن – فما معنى وجوب الاجتهاد في نظر ابن حزم؟

المطلب الخامس: معنى وجوب الاجتهاد في نظر ابن حزم.

لعله قد تبين محل الإشكال الواقع في انطباع الناس حول نسبة القول بوجوب الاجتهاد إلى ابن حزم بأنه عدم تحرير مفهوم الاجتهاد في المنظومة الفكرية عند ابن حزم نفسه، وإذ قد تحرر مقصود ابن حزم بالاجتهاد بكونه عبارة عما يشمل المعنى الخاص للاجتهاد الذي هو الاجتهاد الفقهي، كما يشمل المعنى العام الذي يعني: سؤال العامي للفقيه، فإن ذلك يستلزم أن يقسم الفقيه ابن حزم وجوب الاجتهاد حسب قدرة المكلفين وأهليتهم لفهم النصوص الشرعية إلى ثلاثة مراتب هي:

1- وجوب الاجتهاد على الفقهاء المتصدرين للفتوى والحكم.

و مقدار الوجوب الاجتهاد في حق هذا الصنف من المكلفين الإلمام بأدوات ممارسة الاجتهاد كعلوم اللغة، وعلوم القرآن، وعلم الأسانيد، وعلم الخلاف وغير ذلك مما يشترط في ممارسة الاجتهاد الفقهي العالي. وفي هذا المعنى يقول الفقيه: وأما المنتصبون لطلب الفقه، وهم النافرون للتفقه، الحاملون لفرض النفار عن جماعتهم، المتأهبون لنذارة قومهم، ولتعلم المتعلم وفتيا المستفتي، وربما للحكم بين الناس ففرض عليهم تقصي علوم الديانة على حسب طاقتهم ومن أحكام القرآن وحديث النبي- صلى الله عليه وسلم – ورتب النقل وصفات النقلة ومعرفة السند  الصحيح مما عداه من مرسل وضعيف، هذا فرضه اللازم له فإن زاد إلى ذلك معرفة الإجماع والاختلاف، ومن أين قال كل قائل، وكيف يرد أقاويل المختلفين المتنازعين إلى الكتاب والسنة فحسن، وفرض عليه تعلم كيفية البراهين التي يتميز بها الحق من الباطل، وكيف يعمل فيما ظاهره التعارض من النصوص، وكل هذا منصوص في القرآن.

وقال – أيضا – : ففرض على الفقيه أن يكون عالما بلسان العرب ليفهم عن الله – عز وجل – وعن النبي – صلى الله عليه  سلم – ويكون عالما بالنحو الذي هو ترتيب العرب لكلامهم الذي به نزل القرآن، و به يفهم معاني الكلام التي تعبر عنها باختلاف الحركات وبناء الألفاظ، فمن جهل اللغة وهي الألفاظ الواقعة على المسميات، وجهل النحو الذي هو علم اختلاف الحركات الواقعة لاختلاف المعاني فلم يعرف اللسان الذي به خاطبنا الله تعالى ونبيه – صلى الله عليه وسلم – ومن لم يعرف ذلك اللسان لم يحل له الفتيا فيه لأنه يفتي بما لا يدري.

2- وجوب الاجتهاد على الطبقة الوسطى، وهم صنف من عامة الناس.

و مقدار وجوب الاجتهاد في حق هذا الصنف أن يسأل الفقيه عن الحكم وعن مصدر الحكم ليفهم حسب طاقته. وفي هذا الصنف يقول الفقيه ابن حزم: ويلزم هذا إذا سأل الفقيه فأفتاه أن يقول له: من أين قلت هذا ؟ فيتعلم من ذلك مقدار ما انتهت طاقته وبلغه فهمه.

3- وجوب الاجتهاد على الطبقة الدنيا من عامة الناس.

ومقدار وجوب الاجتهاد في حق هذا الصنف أن يبحث عن أعلم أهل بلده بالدين ليسأله فإذا أفتاه قال له : هكذا قال الله ورسوله؟ فإذا قال : نعم أخذ بقوله وعمل به أبدا وفي هذا الصنف يقول الفقيه ابن حزم : ففرض عليه إن كان أجهل البرية أن يسأل عن أعلم أهل موضعه بالدين الذي جاء به رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فإذا دل عليه سأله فإذا أفتاه قال له هكذا قال الله عز وجل ورسوله؟ فإن قال له نعم أخذ بذلك وعمل به أبدا.

وعلى هذا ندرك أن وجوب الاجتهاد – في نظر ابن حزم – ليس في مرتبة واحدة بل هو على حسب قدرة الناس على الفهم، فوجوب الاجتهاد على الفقيه يعني الاجتهاد بمعنى :استنباط الأحكام الشرعية من النصوص اعتمادا على أدوات الفهم، كما يعني وجوب الاجتهاد على العامي : مجرد سؤال العامي للفقيه مع السؤال عن مصدر الحكم.

وفي الحقيقة هذا المعنى للاجتهاد في حق العامي – في نظر ابن حزم-  لا يبعد كثيرا عن معنى التقليد عند الجمهور في جانبه الإيجابي، إذ مطالبة العامي للفقيه بأصل الدليل لا يخرجه عن معنى التقليد لأنه لا يفيده بشيء – كما رأى الفقيه الشاطبي – رحمه الله – إذ أن وجود الدليل وعدمه بالنسبة له سيان،  ولو أن ابن حزم يسميه اجتهادا ولا يسميه تقليدا نظرا لخلفية إنكار القياس، مما قد يوحي إلى أن المقصود بالتقليد المحرم -في نظر ابن حزم- قد يكون تقليد العامي الفقيه في الحكم الذي استنبطه هذا الأخير  بالرأي والقياس

الخاتمة

نستنتج من خلال هذا العرض أن ما ترسخ في أذهان كثير من الناس من ان الفقيه  ابن حزم يرى وجوب الاجتهاد على عامة الناس ليس إلا مجرد انطباع نتج عن عدم تحرير مفهوم الاجتهاد في المنظومة الفكرية لدى ابن حزم، إذ ابن حزم نفسه يرى أن الاجتهاد مفهوم عام وشامل لمجرد سؤال العامي للفقيه،  وبذلك اتضح أن مقصود ابن حزم بوجوب الاجتهاد بالنسبة لعامة الناس ليس الاجتهاد بمعناه الفقهي الأصولي، الذي يحتاج فيه إلى أهلية علمية تمكن صاحبها من استنباط الحكم الشرعي، وإنما مقصوده بوجوب الاجتهاد في حق هذه الفئة مجرد حرصهم على البحث عن العلماء واستفتائهم عن أحكام الدين، وهو – في حقيقة الأمر -نفس معنى التقليد عند جمهور العلماء في جانبه الإيجابي، إذ أن ما اشترطه ابن حزم من مطالبة العامي للفقيه بالدليل لايخرجه عن معنى التقليد إذ لا يفيده بشيء لأن وجود الدليل وعدمه بالنسبة إليه سواء – كما رأى فقيهنا المقاصدي الإمام الشاطبي – رحمه الله-

وصل اللهم على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين وصحابته أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين

المراجع:

– المستصفى لأبي حامد الغزالي

– الإحكام في أصول الأحكام.

– شرح العضد على مختصر ابن الحاجب في الأصول

– البحر المحيط في الأصول للزركشي

– البديع في أصول الفقه لابن الساعاتي

تطور علم أصول الفقه وتجدده لعبد السلام بلاجي

– النص والاجتهاد في الفكر الأصولي لبثينة الجلاصي

– تعظيم المالكي السالك لمحمد المختار بن عابدين الشنقيطي  -تاريخ المذاهب الإسلامية للأستاذ أبي زهرة

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M