دة. صفية الودغيري تكتب: النموذج المعرفي للقراءة

10 أكتوبر 2018 16:10
دة. صفية الودغيري تكتب: النموذج المعرفي للقراءة

هوية بريس – صفية الودغيري

القارئ الذي لم يتخذ القرآن العظيم هو كتابه الأول هو قارئ أمي، والقارئ الذي لم يأخذ معارفه وعلومه الأولى من القرآن المجيد، ويجعله مصدره ومنطلق بدايته ومنتهاه في العلم والمعرفة هو قارئ أمي..
والقارئ الأمي ليس هو من لا يقرأ ويكتب فحسب، وإنما هو من يقرأ ويكتب ولكنه ضلَّ سواء السبيل في سلوكه طريق القراءة والكتابة على غير هدى وبصيرة، وغفل عما وعاه وحواه صدره، وما تلقَّاه وحصَّله من فحوى الخطاب والكتاب، ونسي ما قرأه وتعلَّمه للعِظة والاعتبار، ولم يتدبَّر ويحسن النظر في النصوص، ويأخذ منها الدروس للتعلُّم والانتفاع، ويُغذِّي قريحته وينتج الفهم القائم على إدراك السُّنن الإلهية والقوانين الكونية، ومعرفة الظواهر الإنسانية والاجتماعية ..
والقارئ الأمي هو من يقرأ ولا ينتفع بثمرة ما يقرؤه ويكتبه، ويكتفى بالقشر والنواة، ويصدُّ عن تحصيل لبِّها واللُّباب، ويخفق في الجدِّ والمثابرة، وينبذ الإقبال على الغايات العظيمة والطموح إلى بلوغ أسنى المراتب العليا، ويعرض عن إمساك كتابه بيمينه بقوة، جحودا وكفرانا وإنكارا للحق والإذعان لقياده..
إذ استبان طريق القراءة ومضى فيه، وعبِّدت له مسالكها وشعابها واستقامت له، ولكن بصيرته أظلمت وغشيته نومة أهل الكهف، ولكن شتان بين نومة من اهتدى واستنارت بصيرته وثبت على الحق والعمل به، وبين نومة من تكاسل وتقاعس عن أداء الواجب، وضلَّ وغوى، وفتن في دينه ودنياه وما اهتدى، وأغراه طول أمله وأحلامه العِجاف، فتغافل وتناسى، وأعرض وأدبر، ولم يغتنم الوقت النفيس فيما ينفع من جليل وعظيم، وأظلمت في وجهه الطرق وأوصِدَت أبوابه، وحُجِبت عنه أنوار قناديله، وطُمِست حوله السُّبل، وغرق في لُجَج الجهل لاستصغاره العلم استهانة بشأنه، وتوهُّمه الباطل حقًّا يُتَّبَع، واستبداله التوحيد شِركًا واليقين شكًّا، وابتداعه أشياء ما أذن بها الله، من أشباه الحقائق وشطَط الخيال، وإغراقه في أوهام المتوهِّمين، واتِّباعه لأباطيل المبطلين المفسدين، وذلك شأن أهل الغواية من بدَّلوا الأصول بالفروع، ونبذوا كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ونبذوا كُتُب أسلافهم الحُذَّاق، واستبدلوها بكُتُب من دونهم في العلم والمقام، بل من لا يستوون بأثرهم في اللغة والبيان، ولا في استقامة المنهج والاعتقاد وسلامته من الاعوجاج، فأضلوهم وانحرفوا بهم إلى منعرج الخضوع لكل قول مهجور مهمل، فتاهوا عن الركُّون إلى من تقدَّموهم، وكفروا بعلومهم ومعارفهم وتراثهم، وحرفوه وغيروه وأولوه، واسنهجنوا لغتهم وأساليبهم، وحاربوا أفكارهم، وتحصَّنوا بسياج من هم رخْووا الزِّناد والعتاد في فنون القراءة والكتابة والبيان..
والقارئ الأمي هو من يقرأ بكل لغات العالم ويفهم فنونها، ويجيد الكتابة بها بإتقان، ويحفظ قواعدها وينضبط بضوابطها، ويخضع لأصولها وشروطها، ولكنه جاهل بلغته الأصلية، غير متقن لقواعدها وفنونها، ولا يقرأ ولا يكتب بها إلا اضطرارا وقسرا، وعاجز عن ربط حروفها وضمِّ أركان كلماتها، أو تركيب جملها وتراكيبها باتِّساق وانسجام، غير مدرك لخطورة هذا العجز والضعف في الإحكام، والعي والإجحاف وعجمة الللسان، وهذا التكلف والغرابة في الذوق والتعبير، والخروج عن المألوف والعادات، والانحراف عن اتباع الطريقة المثلى في الانتساب والاقتداء بالأسلاف والأجداد..
ولا يمكن للقارئ أن ينفك عن أميته وجهالته إلا إذا ارتبط بالعلم والقلم، وجعل مصدره الأول في العلم هو الله سبحانه وتعالى، فهو لا يعلم إلا بما علَّمه الله ووفقه للعلم به، وسخر أسبابه إليه، لهذا بعث سبحانه وتعالى محمدا صلوات الله وسلامه عليه بشرع عظيم كامل شامل لجميع الخلق، فيه هدايتهم وبيان لجميع ما يحتاجون إليه من أمر معاشهم ومعادهم، ودعوتهم إلى ما يقربهم إلى الجنة ورضا الله عنهم، ونهيهم عما يقربهم إلى النار وسخط الله، والوقوع في الشكوك والشبهات، والريب في الأصول والفروع والأحكام..
وعُلِّموا بذاك كلِّه كيف يؤسسون لارتباط متلازم بين القراءة والعلم، الذي يبني الإطار المرجعي والنموذج المعرفي، وعُلِّموا كذلك كيف يتعاملون مع “النموذج المعرفي للقراءة”، والارتباط بالهدف الأساس للقراءة في بناء العقل العلمي المعرفي، وتوثيق صلتهم بالإطار المرجعي الصحيح المهيمن على الكل، وإقبالهم عليه بكليتهم، واتِّخاذه مصدرهم ومحور علومهم وأفكارهم واجتهاداتهم الأولى، قبل الاقتران بمصادر ومراجع أخرى للبحث والمعرفة، وتوليد ما يحتاجون إليه من علوم عن طريق الاجتهاد الشرعي مقرونا بالاجتهاد والإبداع المعرفي..
وفي هذا الموضوع يتحدث الدكتور طه جابر العلواني في تقديمه لكتاب “العلم / للإمام أحمد بن شعيب النسائي” عن هذا الترابط المتلازم، ومفهوم العلم والقراءة، وارتباط العلوم الإسلامية بالنص، فيقول: “القراءة المأمور بها قراءة باسم الله تعالى ثم بمعيته تسير حتى توصل إلى علم يمكن أن يدون بالأقلام، فتنقل إلى السطور وتشاع بين البشر . ولكي تكون القراءة ـ بهذه المثابة ـ فلابد أن تُفْهَم على أنها تعبير يتَّسِع ليشمل المسطور في السُّطور والمنثور في الوجود، فلابدَّ أن تكون قراءة تعود على الإنسان بفكرة كلِّية عن الكون والحياة والإنسان، وعلاقة كلٍّ منها بالآخر ودور الإنسان في هذا الوجود، كما تتَّسِع لمعرفة الأشياء وفحصها واختبارها وملاحظتها . فالأثر يُقْرَأ، كما أن السُّوَر تُقْرَأ، والطُّرُق ومسالكها تُقْرَأ، والسَّحاب يُقْرَأ لمعرفة الممطر من غيره، والنُّجوم ومواقعها تُقْرَأ، وهكذا يكون الأمر بالقراءة متعَلِّقًا بالوحي النَّازِل والوجود المبثوث، لتلازُم القراءتان تلازُمًا تنتج عنه علوم ومعارف وخبرات وتجارب يقام عليها العمران، وتنبثق منها حضارة الإيمان. تلك هي القراءة التامَّة وهي الموصلة للعلم النَّافع والمعرفة الضَّرورية، فإذا اختلَّت القراءة أو نقصت فقدت فاعِليَّتها المعرفية وآثارها العلمية. ولقد فهمت القراءة في عصر النبوة وعصر القراء من الصحابة الذي امتدَّ إلى نهاية فترة الخلافة الرَّاشدة بهذا المعنى فتمكَّن المسلمون من “النَّموذج المعرفي” القائم عليها، وبدأت تتولَّد لديهم المعارف المتنوعة التي واجهوا بها مختلف شؤون وشجون الحياة” مقدمة كتاب العلم للإمام أحمد بن شعيب النسائي؛ ص:10-11.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M