د. البشير عصام: خوض بعض العلماء والدعاة في المجال السياسي ظاهرة غير صحّية

24 سبتمبر 2016 22:12
فيديو.. د. البشير عصام يفضح تهافت مطلب العلمانيين بتغيير أحكام الإرث

هوية بريس – د. البشير عصام المراكشي*

هل كُتب علينا أن نلدغ من الجحر الواحد مرات عديدة، وأن نعيد اختراع العجلة التي اخترعها من سبقنا؟

إننا لا ننطلق في عملنا لدين الله في هذا العصر من فراغ، بل ننطلق من تجارب كثيرة، ممتدة على عقود طويلة. فهل حلّلنا هذه التجارب فاستخلصنا منها مواضع الخلل لنجتنب تكرارها، ومواطن القوة لنستمسكَ عليها؟

ليس من مقصودي في هذه الورقة الكلام عن المشاركة السياسية من حيث هي، وما يكتنفها من محاذير شرعية، وما يحيط بها من مصالح متوهمة أو متيقنة.

كما أنني لا أحب أن أصنَّف في خانة من يحرّم المشاركة السياسية من باب البدعية، أو لكون وسائل الدعوة توقيفية، فأنا لم أقل يوما بتحريم وسائل التدافع السلمي المتنوعة، ما دامت لا تقترن بمحذور شرعي.

ولا أحب أيضا ما أراه في مواقع التواصل من تجييش وشحن نفسي في مناقشة هذه الأمور، وأعتقد أن القضية من أسهل ما يكون! فالناس صنفان لا ثالث لهما: مقلد ومجتهد. فالأول حقه أن يستفتي عالما يثق بدينه وعلمه، وما أفتاه به في الموضوع هو حكم الله في حقه، وليس له أن يناقش الآخرين ويجادلهم، لأن ذلك لا يكون إلا بدليل، وليس هو أهلا للاستدلال. وأما الثاني، فحقه أن يجتهد في إيراد الأدلة، ومناقشة أدلة المخالف، ولا يتكثر بفتاوى العلماء الآخرين، فإن أقوال العلماء -ما لم تصل إلى مرتبة الإجماع- لا حجية فيها مطلقا، ولا فائدة من تكلف نقلها، إلا إن وُجد فيها استدلال حسن، فتراد حينئذ لهذا الاستدلال لا لذاتها.

وبعد ذكر هذه المقدمات، فإن مقصودي هو بحث دخول العلماء والدعاة إلى هذا المعترك السياسي.

وأبدأ أولا بتقرير الإشكاليات والمحاذير المترتبة على هذا الدخول، وألخصها في الآتي:

أولا: انحسار الدعوة والتربية، التي هي مهمة العالم/الداعية الأولى، وانشغاله في دوامة العمل السياسي الطاحنة للجهود والأعمار، من دون قيمة إضافية بالمقارنة مع عامة السياسيين المستقيمين.

يقول الشيخ فريد الأنصاري رحمه الله: ”انهار العمل التربوي والدعوي بصورة رهيبة، وضعفت مقاصد التعبد لدى أبنائه بسبب بروز المغانم السياسية وتطلع ضعيفي الإيمان منهم إلى إغراءاتها المادية ثم بسبب حماسة العمل السياسي وسرعته وثقل العمل التربوي على النفس بما يحمل من مغارم وتكاليف، وما يتطلب من إعداد روحي، ومجاهدة للنفس قبل مجاهدة الغير: (إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا)!”.

وإذا كان الشيخ الأنصاري ومن يوافقه من المصلحين، يستنكرون انهيار العمل التربوي والدعوي، بدخول عموم الحركة الإسلامية للعمل السياسي، فكيف يكون الأمر حين يكون الداخل خصوصا العالم/الداعية، الذي يترك موقعه لينافس في ما يمكن لأي سياسي متوسط الثقافة أن يضطلع به؟!

ثانيا: تكبيل لسان العالم/الداعية بقيود المداراة السياسية، واضطراره إلى هجر الخطاب الشرعي الواضح، واستبدال لغة الخشب السياسية به. وهذا الغبش في الخطاب، يثمر أمرين خطيرين:

أولهما: التلبيس على عامة الناس الذين يحتاجون إلى خطاب سهل وواضح، بعيد عن الحسابات “السياسوية” الضيقة،

والثاني: السير التدريجي نحو انحراف مفاهيمي خطير، يبدأ بالخطاب وينتهي بالمضمون.

ثالثا: تلطخ سمعة العالم/الداعية، لأن الممارسة السياسية تقتضي قدرا لا بأس به من النفاق والمداهنة وتقلب المواقف والتحالفات الحزبية المصلحية ونحو ذلك. وعامة الناس يقبلون من السياسي إجمالا أن يقع في مثل هذه التصرفات، لأنهم يعدّونها من صميم “تخصصه المهني”، لكن لا يمكنهم تقبلها من العالم/الداعية، الذي يعدّ في الوعي الجمعي للمجتمعات الإسلامية رمزا للوضوح والاستقامة والثبات على المبادئ.

وهنا قد يطرح بعض الناس سؤالا: أنتم تريدون للعالم/الداعية أن يبتعد عن الميدان السياسي. أليس هذا من العلمانية؟

والجواب: ومن قال إن السياسة هي السياسة الديمقراطية البرلمانية؟ إنني أزعم أن العالم/الداعية حين يمارس مهمته التربوية والدعوية والتعليمية، فإنه يرشد إلى الخير ويحذر من الشر، ويصنع الأجيال، ويكوّن النخب الفكرية، ويصلح علاقات الناس ببعضهم في المجتمع والأمة، ويربطهم بمرجعيتهم الشرعية. أليس هذا من صميم العمل السياسي؟!

أما إذا أضاف إلى ذلك الفتوى المحررة في النوازل السياسية، وإبداء الحكم الشرعي في تصرفات السياسيين دعما أو اعتراضا، فهو حينئذ يمارس السياسة بجلاء، لكن دون أن يتقيد بالتزاماتها المجحِفة بالوضوح المنهجي والانضباط الشرعي.

إن خوض بعض العلماء والدعاة في المجال السياسي ظاهرة غير صحّية، تَشِي بالتسرع في قطف ثمار الدعوة، وتُنذر بزيادة تغوّلِ العمل السياسي في التيار الإسلامي المعاصر، وغزوِه لمواقع لم يكن له فيها موطئ قدم من قبل، مما سيؤدي إلى مزاحمته العنيفة للبدائل الأخرى إلى درجة إنهاكها وإبطالها.

ومن هذه البدائل المهددة بالاندثار تحت وطأة سطوة الخيار السياسي -وهي بدائل متاحة في الواقع المعاصر-:

– البديلُ الإعلامي الذي قصّرت الحركة الإسلامية فيه عموما مع قدرتها على الإبداع فيه، فجنت شوك التقصير في بلاد كثيرة؛

– والبديلُ الجمعوي الثقافي والأدبي الذي تحتكره صالونات الحداثة ومنابر الليبرالية؛

– والبديلُ الخيري الذي يجمع بين معنى الإحسان الشرعي، وفوائد الإرشاد الدعوي؛

– والبديل العِلمي -بشقّيه الشرعي والفلسفي-، الذي يواجه الشبهات، ويدافع الانحرافات، ويوضح الملتبسات، ويدرأ الحيرة الفكرية التي يتخبط الناس فيها؛

– والبديل الاجتماعي الذي يعالج المشكلات المجتمعية التي ينتجها التناقض بين الثقافة العلمانية المهيمنة والمنظومة القيمية الإسلامية؛

– والبديل النقابي المؤطّر -فكريا لا نضاليا فقط- للتيار العمّالي الذي هو مكوّن أساسي في المجتمع؛

– والبديل المدني المشكّل للرأي العام، والضاغط على صانع القرار السياسي؛

– وأخيرا -مع أنه الأصل الأصيل- البديل الدعوي التربوي، الذي في حضنِه نمت الحركة الإسلامية وترعرعت، ومن لبنه تغذت وتقوّت، وفيه حياتها ورفعتها، وفي مفارقتِه هلاكُها واضمحلالُها!

وكأني بالشيخ الأنصاري رحمه الله -وقد وصلنا لهذا الموضع- يطلّ بابتسامته الهادئة ليقول:

”رسخت صورة العمل الإسلامي غير المتوازنة في أذهان كثير من الإسلاميين وتضخم التصور السياسي للدين! وضمر موقع العبادات من مساجد وصلوات! وصرت تسمع اتهام هذا المتكلم أو ذاك من الدعاة والعاملين للإسلام بأنه صاحب “خطاب وعظي” أو أنه “غارق في الفقهيات”! بل إن منهم من كان يدعو إلى ترك الأحكام الفقهية للمساجد، وأن الساحة إنما هي خالصة للخطاب السياسي والتحليل السوسيولوجي!”.

وفقنا الله لخدمة دينه، ونصرة شريعته.

ـــــــــــــــــــــــــــ

(*) باحث في القضايا الفكرية والشرعية.

آخر اﻷخبار
3 تعليقات
  1. اغلب هذه الافكار هي من بنات فكر الدكتور فريد رحمه الله في كتابه الفجور السياسي وقد ناقشه فيها ثلة من العلماء الا انه رحمه الله اصدر بعده كتابه الاخطاء الستة الذي بسط فيه الامراكثر وللدكتور فريد مبرارته فهو تلميذ الشيخ الشاهد البوشيخي الذي مازال يرفض الى يومنا هذا انخراط الحركات الاسلامية في العمل السياسي ةيناى بحركته عن ذلك ولكن صوابية هذا الراي؟ الجواب سيكون في الاعوام القادمة لان البناء ليس كالهدم

  2. معليكش
    وأخيرا مقال يرجع السلفيين لصوابهم ورشدهم ومنهجهم الذي كادوا ينسونه تائهين بين كفتي المصالح والمفاسد ( وإن كانت حصيلة 5 سنوات من المصالح التي بنوا عليها كتبهم عجفاء لا تسمن ) ورغم ذلك يعضون على السياسة والديموقراطية بالنواجد … مما يدفعني لاختراع هذا الشعار : لا لأخونة السلفية .

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M