ذة. حليمة الشويكة تكتب: رخويات سياسية..

21 نوفمبر 2019 23:24
التعويذة السحرية

هوية بريس – حليمة الشويكة

ارتبط ميلاد الأحزاب السياسية في المغرب بالصراع ضد الاستعمار، وهذا ما جعل الأحزاب الوطنية بمعية النظام والشعب تشارك في معركة التحرير وتقودها سياسيا بعدما تحقق الوعي بأهمية النضال السياسي في مقاومة المستعمر. هكذا كانت نشأة الأحزاب الوطنية كنتيجة لمقاومة المستعمر مرتبطة في البداية بالرهان على تأطير المواطنين ورفع العرائض المطالبة بالإصلاحات، لكنها انتقلت بعد ذلك إلى المطالبة بالاستقلال والتحرر من الاستعمار عبر تقديم وثيقة 11 يناير 1944.

إن ارتباط الظاهرة الحزبية في المغرب بهذا السياق التاريخي، جعلها فيما بعد حبيسة قاموس سياسي تغلب عليه لغة التوافق والإجماع و الوحدة مما أدى إلى بروز ثنائيات حدية عرقلت ميلاد تجربة حزبية سياسية بالمعنى الحقيقي، حيث تم اعتبار أي طرح سياسي مغاير يطالب بالدمقرطة واستقلالية القرار خروجا عن التوافق وعن الإجماع الوطني.

وقد انعكس هذا الوضع على مسارات التجربة الحزبية بالمغرب منذ الاستقلال إلى اليوم، حيث مرت في سنوات الستينات وبداية السبعينات بالصراع مع السلطة وهو الصراع الذي حكمه الرهان الديمقراطي والرهان الإيديولوجي بعد نشأة الأحزاب اليسارية. لتدخل التجربة الحزبية بعدها إلى مرحلة التوافق التي كرست النزعة الإصلاحية لدى الأحزاب السياسية. لكن هذا التحول سيؤدي على مستوى البيت الداخلي للأحزاب إلى انفجار التناقضات الشيء الذي تجسد في الانشقاقات المتتالية التي عرفتها الأحزاب في تلك المرحلة.

النتيجة التي انتهى إليها هذا المسار التاريخي، هي أن الدولة دخلت مرحلة ضبط وتقنين المشهد الحزبي، خاصة بعد نهاية مرحلة التكتلات، وتفكك الأحزاب الوطنية الكبرى التي قامت بانقلابات فكرية وإيديولوجية كان لها صدى سيئا لدى الشارع المغربي الذي كان يراهن على نضالات هذه الأحزاب وسقف طموحاتها العالية. غير أن الوضع السياسي انقلب رأسا على عقب بعدما تم تليين الخطاب السياسي للأحزاب الوطنية وبعدما وجهت لها الدولة انتقادات لاذعة وطالبتها بإصلاح ذاتها.

اليوم إذا جاز لنا وصف المشهد الحزبي يمكن القول بأنه يعيش حالة من العطالة والضعف في الاجتهاد الفكري والإيديولوجي، مقابل طغيان لغة الأرقام وثقافة الصورة والنفحة التقنوية التي تسللت إلى الأحزاب السياسية التي كانت إلى عهد قريب تؤسس مبرر وجودها على حمولة سياسية وفكرية تنهل من قاموس الديمقراطية والحرية ومحاربة الفساد. و نتج عن هذا الوضع، دخول الأحزاب السياسية في حالة انتظارية وفراغ تنظيري في المجال السياسي، حيث أن أكثرها حضورا يكتفي بتلقف الإشارت من أجل القيام بالمتعين، بينما أصبح جلها مرتعا للبراجماتية والانتهازية والصراع على المواقع. الشيء الذي أفضى بها إلى التآكل والضمور.

للإنصاف فإن مسلسل الإضعاف الذي دخلته الأحزاب السياسية لا يمكن أن نحمل مسؤوليته للأحزاب فقط، فمنذ أن اختارت الدولة سنة 1962 التعددية الحزبية لم يواكب هذا الاختيار دمقرطة فعلية للمشهد السياسي، بقدر ما تم تفريخ عدد من الأحزاب وتأتيت الحياة السياسية بأحزاب ذات وظائف انتخابوية بهدف تفادي بروز حزب قوي. لأن الدولة تتوخى من هذه التعددية رسم خريطة حزبية تتوافق مع تصورها للشرعية الانتخابية كواحدة من بين شرعيات متعددة. بل حتى إن مفهوم الحزب في النظام السياسي المغربي ظل غامضا وفاقدا للمعنى السياسي إذ كان يدخل ضمن التصور العام للجمعيات إلى حدود 2011 حيث سيعرف القانون التنظيمي للأحزاب 92.11 الحزب السياسي بكونه تنظيما سياسيا يعمل على تأطير المواطنات والمواطنين ويعزز انخراطهم في تدبير الشأن العام، كما أشار هذا القانون إلى أن الحزب السياسي يساهم في التعبير عن إرادة الناخبين ويشارك في ممارسة السلطة على أساس التعددية والتناوب بالوسائل الديمقراطية وفي نطاق المؤسسات الدستورية.

غير أن الواقع الحزبي لم يجسد إلى اليوم ممارسة حزبية تعبر فعليا عن إرادة الناخبين، أو تشارك في ممارسة السلطة حقيقة. إذ لا يكفي أن تتواجد هياكل حزبية في تشكيلات وتحالفات هجينة للحديث عن مشاركة حقيقية في ممارسة السلطة، لأن جوهر الممارسة الحزبية وفقا للنظرية السياسية الحديثة يقتضي ربط السلطة بالإرادة الشعبية، وقدرة الأحزاب على ممارسة هامش من السلطة المعبر عن هذه الإرادة بناء على تنافس سياسي ينظم الاختلاف بين التيارات الفكرية والإيديولوجية داخل المجتمع. ولكن عندما لا تتوفر لها الشروط الملائمة لممارسة السلطة تشريعيا وتنفيذيا، تفقد التنظيمات الحزبية مسوغ وجودها.

إن المفهوم الديمقراطي الحديث لممارسة السلطة يتأسس على تمثيل الإرادة الشعبية عبر الانتخابات. بل هناك من المنظرين من يذهب بعيدا في الإعلاء من قيمة الإرادة الشعبية بجعل “هيئة الناخبين” سلطة تنضاف إلى السلط الثلاث وهي التي يسميها عالم الاجتماع الفرنسي موريس هوريو “سلطة الاقتراع”. وهذا ما لا يمكن أن يتحقق في واقع سياسي مكون مجموعة هياكل متعددة بدون تعددية سياسية تعكس تعدد المشاريع والإيديولوجيات.

هذا المشهد السياسي الرخو لا يرجع فقط إلى ضعف الأحزاب السياسية، بقدر ما يعبر عن التوجس الذي تبديه السلطة من أي فعل حزبي جاد وقوي يتجاوز السقف المرسوم للأحزاب، وهو السقف الذي يتوقف عند تفويض بعض السلطات التشريعية والتنفيذية ولا يصل إلى الإشراك الفعلي في صناعة القرار. وقد أدى قبول الأحزاب بهذا التسقيف الذي حصرها في قبول التفويض لبعض السلطات بدل المشاركة في ممارسة السلطة، إلى تحول الأحزاب القوية المطالبة بدمقرطة الحياة السياسية إلى رخويات سياسية تتهافت على التفويضات لتنفيذ المشاريع والبرامج التي خططها التقنوقراط.

خلاصة الأمر، ستظل التجرية السياسية المغربية معاقة في غياب أفق ديمقراطي حقيقي يربط الممارسة للسلطة بالإرادة الشعبية ولو بهامش مقدر ينسجم مع طبيعة النظام السياسي المغربي. وسيظل من غير الممكن بلورة مشروع سياسي ديمقراطي في ظل وجود أحزاب رخوة تقبل القيام بأدوار هامشية في إطار تفويض لبعض الصلاحيات المحددة سلفا. ومن المؤكد أن هذا الواقع لا يؤثر على الأحزاب وحدها، بل ينعكس أيضا على الدولة التي تستمد الثقة في مؤسساتها من وجود أحزاب قوية قادرة على القيام بأدوار الوساطة والتأطير والتعبير عن إرادة الناخبين. ومن المؤكد أيضا أن المقومات التاريخية للدولة على أهميتها، تحتاج لمقومات المشروعية الديمقراطية والامتداد الشعبي لمواجهة التحولات المتسارعة التي تفرضها عولمة النموذج السياسي الليبرالي.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M