سحر في الأقلام وعيّ في الكلام

29 نوفمبر 2015 02:17
اليربوع المنافق

عبد الحفيظ اربيحو

هوية بريس – الأحد 29 نونبر 2015

مما أفرزته ملاحظاتنا ومجالساتنا واحتكاكنا واستماعنا لغير واحد ممن أوتوا نصيبا من علوم الشريعة الإسلامية، بله من بلغوا من العلوم شأوها، وطٌوع لهم من علوم العربية أعتاها، فتلفيهم ينتقون من العبارات أنسبها، ومن الأساليب أليقها، ومن التشبيهات أبلغها، ومن المفردات أبدعها، ومن الأسجاع أغراها، ومن مزينات الكلام ومحسناته ما تشتهيه الأنفس وتلذه الأعين، فعندما تقرأ لهم مؤلفا أو رسالة أو مقالا تشعر وكأنك  تمتطي  سماء الأدب محاولا لمسها، تحس بشعور غريب يخالج قلبك، لا تقع عيناك على سطر حتى يستهويك آخر، ولا تقرأ فقرة حتى تجد نفسك ترددها علك تحفظها لتدرجها ضمن خزان أدبك، بل أحيانا تدفعك كتاباته للضحك – في ساعات الحزن-  عجبا مما تجود به قرائحة، وأحايين أخرى تجبرك أساليبه على الدعاء له بالتوفيق والسداد، وإن كان من أخصم الأعداء لك وألد، وهذا أمر جميل للغاية.

جميل أن يكون قلمك قلما سيالا، وأسلوبك أسلوبا ميالا، وأدبك أدبا في الفؤاد فعالا، لكن السؤال الذي يؤرقني ويقض مضجعي هو: لماذا لا يطابق لسان قلم هؤلاء لسان كلامهم؟ لماذا تلحظ لهم سحرا في القلم وعيا في الكلام؟ لماذا تزاحمهم العبارات عندما يمسكون بالقلم، وتخونهم عندما يشرعون في الكلام؟  فما هي العوامل التي أدت إلى هذا الانفصام النكد في التكوين ياترى؟ إخالك أيها القارئ أدركت فحوى الموضوع الذي أنا بصدده، وحتى تواكب معي هذه السطور جيدا، فهما وقراءة ، أنهي إلى علمك أنني لا أقصد هنا  المبتدئين من طلبة العلم، أو خريجي الجامعات والمؤسسات والمعاهد والمراكز، أو بعض مدرسيها وأساتذتها، فهؤلاء يشفع لهم أنهم لا قلم لهم ولا كلام، ويشهد الله أننا حين كنا نتربع في مجالس دروسهم ومحاضراتهم تنوبنا وعكة فكرية تكاد تجعلنا نقطع الصلة بالعلم وأهله، إذ كيف يبارك الله في علم دكتور أو أستاذ أو معلم بصفة عامة، ينصب الفاعل ويرفع المفعول؟ وقبح الله من روج ويروج لمثل هذا الكلام المبتذل، والافتراء المرتذل، “عليك بالفقه ولو رفعت المجرور، وخطأ مشهور خير من صواب مهجور”.

فإذا كان في الخطأ خير ، فليتأكد القارئ أن في الصواب شرا، فالألفاظ قوالب المعاني، ومتى كانت القوالب سليمة من كل عيب كانت المعاني أسلم ، ومن هنا ندرك سر التدرج في علوم العربية من السهل إلى الصعب في مناهج التدريس التليدة، حيث كان البدء بالآجرومية ثم ابن عقيل، ثم المكودي،..ثم…ثم… أمرا ضروريا لكل مبتدئ .

إن الذين يلومون خريجي الجامعات بكونهم لا يقوون على تركيب جملة عربية مفيدة، إنما يرمون بقوسهم هذا رمية لا ذنب لها، فإذا لم يكن لكم من اللوم بد فلوموا من نصبوا أنفسهم لتدريس العلوم، فثمة منهم من لا يجيد سرد بضعة أسطر سردا سليما، وهذه ليست مزايدة ولا دعوى عارية عن الدليل، فدليل كلامي زيارتكم للجامعات ومجالسة هؤلاء، والسماع لعظيم أخطائهم وشائن كلامهم.

إنني عزيزي القارئ، لا أعني بالعنوان أعلاه هؤلاء، فهم لا في العير ولا في النفير، فالحديث عنهم ضرب في الحديد البارد لا يجدي نفعا، وإنما أعني به علماء رست قواربهم على شاطئ العلم والمعرفة ، وتمكنوا من ناصية العربية وفنونها، كأبي محمد مكي بن أبي طالب حموش القيسي صاحب (الإبانة عن معاني القراءات) وغيره كثر، ذكر الإمام الشوكاني رحمه الله في كتابه “أدب الطلب ومنتهى الأرب” قال: (حكى عنه -أي عن أبي محمد مكي- أبو عبد الله الطرفي المقرئ قال: كان عندنا  بقرطبة رجل فيه بعض الحدة ، وكان له على الشيخ أبي محمد مكي تسلط، كان يدنو منه إذا خطب، فيغمزه ويحصي سقطاته، وكان الشيخ كثيرا ما يتلعثم ويتوقف..) انتهى محل الشاهد منه.

وذكر أبو حيان في البحر قولٌّه: (وكان بعض شيوخنا من له تحقق بالمعقول  وتصرف في كثير من المنقول، إذا أراد أن يكتب فقرا فصيحة أتى لبعض تلامذته  وكلفه أن ينشئها له) البحر المحيط / ج 1/ ص 8/ ط دار الفكر بيروت.

وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: الْعُلُومُ مَطَالِعُهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: قَلْبٌ مُفَكِّرُ، وَلِسَانٌ مُعَبِّرٌ، وَبَيَانٌ مُصَوِّرٌ. انظر كتاب الماوردي “أدب الدنيا والدين”.

وقال الجاحظ متعوذا بالله من هذه الآفة: “نَعُوذُ بِك اللهم مِنْ شَرِّ السَّلَاطَةِ وَالْهَذْرِ، كَمَا نَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّ الْعِيِّ وَالْحَصْرِ”. انظر التبيان.

ومما يحكى في بطون كتب العربية وقواعد النحو، أن سبب ضلوع سيبويه من النحو والعربية، لحنه الفاحش أثناء مناظرة غيره،  فكان ذلك دافعا له لإتقان هذا الفن وإحكامه.

ومن هؤلاء من جمع بين الحسنيين، فإذا كتب للمداد أسكب، وإذا تحدث في الكلام أسهب وأطنب، ومن هؤلاء على سبيل المثال لا الحصر، الدكتور المهيب، وحيد زمانه، سيدي فريد الأنصاري رحمة الله عليه، كان رحمه الله إذا تحدث جذب العقول جذبا، ألان الله له الأدب كما ألان الحديد لداود عليه السلام، وإذا كتب أرغم القلم على الإبداع والبيان، وأجبره على نسخ  ما يختلج في القلب ويمليه الجنان، دون حشو ولا نقصان.

ومن هؤلاء أيضا أستاذنا الأنف،  الدكتور سيدي عبد العزيز القاسح حفظه الله مدرس مادة البلاغة بمعهد الإمام مالك للتعليم العتيق بتطوان، كنت أجدني شاخصا ببصري نحوه وهو يسترسل في الكلام استرسالا، وكأن قواميس اللغة تتجلى له فيأخذ منها ما يتناسب ويدع، لا يعرف التلعثم والتوقف للسانه سبيلا،وإذا كتب أتى بما لم تأت به الأوائل شكلا ومضمونا.

ومن هؤلاء أيضا صاحب “النبأ العظيم” المحقق الأريب ، والطود الشامخ العجيب، سيدي عبد الله دراز، إذا قرأت أخي القارئ لهذا الأخير، زعمته يحرف القرآن تحريفا ، غير أنه سرعان ما يتبدد هذا الزعم، عندما توفق لإدراك صنيع الرجل ومنهجه، إنه يأتي لتراكيب القرآن الكريم فيستقي منها ما يبلغ به مراده، ويترجم به قصده.

هذا فيما يخص كتاباته، أما عن حديثه وكلامه فذاك عرس لم أشهده ويا لُلأسف.

والعجب العجاب أن بلاء العي والثلعثم  في الحديث، استشرى ودب في علماء

-حقيقة ومجازا- هذا العصر، فإذا كتبوا أبانوا وأدلوا، وإذا تحدثوا وتكلموا لحنوا وأخلوا.

ومما آسفني أشد الأسف، رد الدكتور (…) الذي كنت أتابع منشوراته عبر “الفايسبوك” بشغف ولهفة وإعجاب ، لما كسا الله به قلمه من بيان وأدب حسن، بعد أن استفهمته عن سر الفرق بين لغة قلمه ولغة كلامه، لأنني حقيقة حينما سمعت له مقطعا صوتيا على إحدى القنوات الفضائية الإماراتية نشره على صفحته، يتحدث فيه عن مقاصد الشريعة الإسلامية، وجدته لا يكاد يبين، وكأن سحر قلمه بلعه بفيه، وقتئذ ضعف إعجابي به ، حتى كدت أجزم أنه ليس هو هو، ووهن جلاله في عيني، -لا كشخص، بل كأديب مقتدر،  إنني أكن له كامل الاحترام والتقدير، والحق لا يحابي أحدا، فلا يعلو على الحق خلق.

رد علي فضيلة الدكتور بقوله: “غفر الله لنا ولك” ففهمت منها أن الرجل فهم من استفهامي تحقيرا له وتنقيصا، طبعا أنا لم أشق على قصده ونواياه، غير أن الذي أكد لي مراده بقوله: “غفر الله لنا ولك” منشوره الذي نشره عقب ذلك بقليل، يحذر فيه من مثبطي الهمم ومفتري العزائم، نسأل الله لي وله العفو والغفران .

وللموضوع بقية باقية.

ملحوظة: لنا عودة إلى هذا الموضوع بعنوان: “عي الكلام، الأسباب والحلول”.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M