عبور الإسلام الحرب الأولى

11 فبراير 2021 20:19
عبور الإسلام الحرب الأولى

هوية بريس – ذ.إدريس كرم

تقديم

نقدم للقراء هذا المقال للعميل قدور بن غبريط الذي خدم المخطط الاستعماري البارد في المغرب والذي انتهى به المطاف كمسؤول عن أحباس الحرمين بالمغرب وقيما لمسجد باريز الذي بناه المغاربة بأموال الأحباس تخليدا لذكرى الجنود المغاربة خصوصا والمغاربيين والمسلمين عموما في تحرير فرنسا وبقية بلدان أوربا من الغزو الألماني.

والمقال يتطرق لتحسين صورة فرنسا وتبيان فضلها على الإسلام والمغاربة وأن اشتراكهم في الحرب بجانب الحلفاء جنّب المسلمين تدمير مقدساتهم ونقل جزء منها لمتحف اللوفر، ناهيك عن مغالطات تاريخية من قبيل أن فرنسا اضطرت لغزو المغرب بسبب مزاعم ألمانيا في تدمير الإمبراطورية الشريفة.

نص المقال:

امتدت الحرب لتشمل القارات الخمس حيث وضعت السلاح في يد العرب والمسيحيين في وقت كان المجتمع الإسلامي ما يزال منطويا على نفسه، بعيدا وغير مكترث بما تدبره القوى الغربية الكبرى في العالم بشأن مصيره وتنظيماته.

الإسلام سيأخذ فجأة مكانة مهمة، كعامل في النظام الجديد، الذي سيؤسس للسلام العالمي المقبل -الذي كنا نفكر فيه وفي سياسته- مما جعل (مجلة فرنسا-المغرب) تدعوني للحديث عن المشاكل الكبرى التي يطرحها هذا النظام بفعالية، مستفيدا من خمسة وعشرين سنة من التجوال، في البعثات والمفاوضات التي كانت تجري بين إخواني المسلمين والدول الكبرى طيلة تلك هذه المدة لغاية نهاية سنة 1892 وهي السنة التي غادرت فيها القضاء الجزائري في بداية التحاقي به، مبحرا نحو الغرب، في طريقي للمغرب، للعمل في الدبلوماسية، نعم الدبلوماسية مع مبالغة؟

لأني دعيت لمفوضية طنجة لأتولى المهام التي كانت مناسبة لسني، وأكرس نفسي للرعاية المتواضعة المتمثلة في:

العمل مع السلطات المحلية على تسوية الخلافات التي تنشأ بينها وبين المعمرين الفرنسيين، الذين لم يكونوا يتطلعون إلا لفرض ما يحققون به تطلعاتهم المستقبلية، حيث لم يكن يزد عددهم عن ثلاثة أو أربعة دور فرنسية، كان هذا كل شيء، وكان ذلك كافيا كما سيتضح لاحقا للاطلاع على مفاوضات سيئة، تغذي الحياة الاقتصادية بالمغرب، في حين أن السياسة الخاصة كانت تتلخص في رفض قوي للدول الأوربية الهجوم على السيادة المعنوية للسلطان بالمغرب، وقد أيدت إنجلترا وفرنسا وإسبانيا وإيطاليا بشكل خاص هذه النظرة السلبية، ما عدا ألمانيا التي لم تهتم بالمغرب.

بمعزل عن هذه السياسة، كان السلطان يشل بسهولة المحاولات المتقطعة من قبل إنجلترا أو فرنسا المسجلة للهيمنة على بعض الأهداف، وبقي الأمر كذلك إلى اليوم، حيث سقط فيه المخزن الذي كان يدافع عنه بقوة السلطان مولاي الحسن ثم وزيره ابا احماد في بداية عهد المولى عبد العزيز فوقع المغرب فريسة لفوضى شديدة، زادها تفاقما إفلاس خزانة الدولة نتيجة للمصاريف المجنونة لهذا السلطان، مما جعله يركن للاقتراض من الدول الطامعة في الهيمنة عليه.

وهكذا أصبح المغرب الذي لم يكن لغاية العهد الأول من تولي المولى عبد العزيز لا يعرف الدين العام، فقد كان يتمتع بامتياز نادر متمثلا في تجاهل شيء يسمى الدين العام للدولة، وهكذا فتح الباب أمام المقرضين الأوربيين لإرضاء حاجات المخزن المدمرة، والتي كانت شبيهة بما وقع لتوركيا وتونس.

في المغرب لم يكن للانجذاب الطفولي المفرط للابتكارات الأوربية أثر على زعزعة النظام المالي فقط، بل أضر بشكل كبير بالشأن العام، لأنه أدخل في قلب الإمبراطورية عادات جديدة، أثارت استياء الرعية من تباطئ العرش في القيام بما يلزم لمكافحته وتطهير البلاد من دواعيه، وكان هو نفس رأي أحد أكثر الوزراء استنارة في ذلك الوقت.

الوزير بن سليمان الذي لاحظ أن من شأن هذا التطور السريع أن يؤدي حتما بالدول الأوربية للتدخل في البلاد، وقد شاطرناه نحن نفس المخاوف وذلك سنة 1903.

أعرف أن فرنسا لم يكن لها أي طموح للغزو وأن نصيحتها كانت صادقة، بل كانت تهدف من ذلك حماية الإمبراطورية، والمساعدة على استتباب الأمن فيها، لأنها جارة الجزائر التي تشكو باستمرار، من الاضطرابات التي تنقل لها من المغرب عبر حدودها.

لكن المسار الخطأ الذي نسير فيه (يعتبر نفسه مغربيا) سينتهي به الأمر لوضع استقلالنا موضع تساؤل.

قد لا تكونوا تستشعرون الأمر بأنفسكم، لكني أعلم ذلك، وعلى حسابنا ستتوصل فرنسا يوما ما، لتفاهم مع إنجلترا لتسوية المسألة المغربية، وكذلك كان، فبعد أقل من عام على تصريحات بن سليمان، تم الاتفاق الفرنسي الإنجليزي حول المغرب.

عند تقديم هذا الاتفاق لم تكن فرنسا تميل إلى إساءة استخدامه، وأتذكر دائما تعليمات الحكومة التي استبعدت صراحة أية فكرة عن الحماية أو الاستيلاء على المغرب، بدت سياسة التعاون ممكنة، كان مرغوبا في 1902 وأدرج في اتفاقيات ريفويل التي نظمت وضعنا على الحدود المغربية الجزائرية.

سعت فرنسا لضمان نفوذ سري وكاف في فاس لحماية الإمبراطورية الشريفة من الإغراءات الأجنبية، لا سيما تلك التي أكدتها ألمانيا للتوِّ ببراعة في طنجة لضمان السلام على حدودنا والتجارة الحرة بين البلدين .

هذا البرنامج المدروس وهذه الرغبات المشروعة لفرنسا، لم تفهم للأسف في فاس وهي سياسة ألمانية من خلال مفارقة يظهر التاريخ اليوم حقيقتها، وهي أن على فرنسا أن تتركها تنخرط بشكل كامل بالمغرب وتنشطه، في مواجهة رافضيه في طنجة، مقر السلك الدبلوماسي.

كانت تدور معركة يومية من العنف غير المسبوق حول المغرب، وكان العالم الإسلامي يتابع تلك المغامرات باهتمام كبير، تهدف جر الشرق نحو الغرب، بواسطة وعود ألمانية كانت تسوقها كمدافع عن الإسلام.

لم تكن هذه السياسة الغادرة تفتقر للمهارة كان من الممكن أن تخدم ألمانيا بشكل مثير للإعجاب لو لم تكن الأخيرة قد خيبت آمال المغاربة بقسوة بسبب (التخلي) عنها في 1909 والذي تكرس سنة 1911 بانحيازها للحماية الفرنسية بإبرام اتفاق مع الأخيرة.

لكن لحد ذلك كم من المراحل والصعوبات والتنبيهات كان على فرنسا توجيهها للتنظيمات المعادية التي كانت تنشر موارد قوية من العداء تخصب المعاداة والمؤامرات التي كشفتها الحرب الأوربية، والتي لم يكن من السهل على ممثل فرنسا في طنجة، صد تلك الضربات الرهيبة بالأسلحة الضعيفة التي سمحت بها سياستنا.

في مراكش كما في سوريا، كانت الدعاية الألمانية العمياء الناتجة عن كراهية شديدة لوحدة الإمبراطورية الشريفة قد ذهبت بعيدا، من ذلك مع الأسف قام العميل الألماني هلامان، أثار المشاعر الشعبية بمراكش، محرضا على اغتيال الدكتور موشان، ليجعل فرنسا تلجأ لسلاح الانتقام، فاحتلت مدينة من مدن الإمبراطورية: وهي وجدة، كضمان إقليمي، وهو الإقليم الأول الذي استولت عليه واستقرت به في المغرب، كان احتلالا مؤقتا فقط، وكان من الممكن أن يبقى كذلك كما يتضح من الكتاب الأصفر، إذا ما المخزن قبل بهدوء وطواعية تقديم الضمانات الأمنية الكافية لفرنسا بالتعويض، لكن التعليمات الأكثر سرية ووضوحا للحكومة الفرنسية كانت بخلاف ذلك.

في الدار البيضاء تولت بعثة فرنسية للأشغال والإنشاء بأمر من السلطان ولحسابه تهييء الميناء وتطويره، وبينما هم يعملون في هدوء وسلام، إذ تعرض عمالها لهجوم القبائل التي تم تحريضها عليهم من قبل الأخوة منسمان.

المجزرة التي أسفر عنها الهجوم أجبرت فرنسا مرة أخرى على الظهور في المغرب ودخوله بشكل مسلح، فاستولت على الدار البيضاء والشاوية، مما أدى لإشعال ثورة شعبية عامة نتيجة لهذا الهجوم المسلح الذي أفقد السلطان مولاي عبد العزيز العرش الذي انتقل ليد أخيه المولى عبد الحفيظ هذا الأخير أعلن الحرب المقدسة على فرنسا في تحد بين لمخططها بالمغرب، مما جعلها تبتعد عن مبدأ سياسة الضم الذي جاء قواتها لتحقيقها.

لقد أدت الأخطاء الألمانية الفادحة لردود أفعال فرنسية بالمغرب قادتها لاحتلال أراضي مغربية توسعت شيئا فشيئا، مما أثار أعمال شغب تحولت لثورات.

جاءت فرنسا من غير قصد ودون إرادة، ودون تخطيط للسير لفاس وإعلان الحماية مستقبلا.

هذا ما يجب على الإسلام لألمانيا، وهذا ما يجب له على فرنسا، ألمانيا عملت جيدا لعدوها، تذكروا أن المسلمين المتنورين يدركون هذا اليوم.

هذه الأحداث المؤرخة بالأمس أو قريبا منه عايش الشرفاء سياستها المهتزة، المقري والتازي، وبن جلون، والغراريط (اولاد بن غبريط) وغيرهم كثير، موجودون دائما لتأكيد شهادتنا، وليقولوا ويذيعوا في جماعات المسلمين هذه الحقائق العظيمة والبسيطة في نفس الوقت، التي تظهر أن فرنسا لم تكن غازية، ولكن تم استفزازها وجرها بالعنف الألماني عبر الخداع والاستخفاف بالإسلام الحق، والنصيحة السيئة.

بعد توقيع رينولت بفاس على معاهدة الحماية، قام ليوطي بإنقاذ المغرب من الفوضى، وهيأ لفرنسا به أحسن مجال استعماري.

الإمبراطورية الشريفة لم تكن أكثر من واجهة لا سند لها بخلاف ما كان يتخيله الدبلوماسيون الأوربيون، سلطان، مخزن، جيش، مالية، لا شيء من هذه المقومات موجودا، إنه الفراغ الذي ترمز له إيماءات مولاي حفيظ، كسر المظلة الحمراء الدالة على السيادة الشريفة، وألقى بها في نهر بورقراق، حيث رسب حطامها غداة تنازله عن العرش، لقد غادر البلاد، ولم يعد يريد أن يكون سلطانا، فلم تجد فرنسا أمامها سوى الحطام.

من أجل الإنقاذ والبناء كان هناك نظريتان متاحتان: غزو وحشي يؤدي لإخفاء بقايا الماضي الذي كان رائعا والذي بدا في 1912 بغيضا، أو سياسة إصلاحية توقظ المؤسسات الأهلية المحافظة بأطرها التقليدية وقادتها، سياسة تربط بين الشرف ومتطلبات الحماية والمحميين.

هذا هو المهم، فالقاعدة الهامة هي إقامة العدل والعناية، الجنرال ليوطي سبق له العيش مدة قرب العرب ففهمهم وأحبهم، الأهالي لحسن الحظ فهموه، بهذا التعلق لعب دور المقيم العام بجانب السلطان والأعيان والسكان، وهو ما أعطاه مكانة سهلت عليه مهامه في بسط سلطته وتنفيد مشاريعه في التحكم وإدارة البلاد، وهو ما أقلق الألمان من الولاء المغاربي خلال الحرب.

اليوم فرنسا وجدت في المغرب مساجد تغطي الفوضى المالية للمخزن قبل أن يتركها ساقطة محطمة.

في فاس تستعيد جامعة القرويين مكانتها المرموقة في تاريخ الإسلام، حيث وجدت تألقها.

المدينة الميتة بعثت من جديد، وفتحت الكوليجات لتعليم الشباب المغربي وإعدادهم للمهام الإدارية المستدعون لها دون إغفال العمل الرائع الذي تم إنجازه في المغرب لتعزيز محميتنا.

أشير فقط لما هو مجيد وصالح للمصالح المشتركة للسياسة الحسنة المتبعة من قبل الجنرال ليوطي تجاه الأهالي.

لقد اختبر هؤلاء فائدة في مؤسسة عزيزة عليهم بشكل خاص وهي مؤسسة الأحباس، العائدات الضخمة الناجمة الواردة من مؤسسات متهالكة، كانت سنة 1912 منطلق التحول والقطع مع التبذير.

وزير خاص بالأحباس أعطى الأمر لهذه الإدارة بتطبيق مهام مساعدة تعليمية وإحسانية فارتفعت الموارد الجديدة من هذا المجال وهو ما جلب قلوب المسلمين أفضل من الخطب الطويلة.

الجغرافية لا تضع بين المغرب والجزائر أي حاجز طبيعي، فالمعبر الخط الدبلوماسي الذي ميزته الجمارك بين المحمية والمستعمرة الكبرى.

الإسلام الجزائري أول من انضم للجزائر مكونا نظاما مختلفا سيبينه التاريخ ويشرحه.

عندما احتلت القوات الفرنسية الجزائر سنة 1830 وجدت نفسها في مواجهة السكان الخاضعين لنير أجنبي لا بد من تحطيمه.

فرنسا في تونس مع الباي الذي لم يطلب سوى معاهدة، بالمغرب كان هناك سلطان.

في الجزائر على العكس المسيطرون لم يكن لهم ما يجمعهم بالأهالي الذين كانوا محكومين من قبل الأتراك الذين هم في نفس الوقت أعداؤهم وأعداؤنا، ولما أرادوا إقامة سيادة، وفي غياب الكفاءة للقيام بذلك تكلفت به فرنسا من ذلك الوقت، في إدارة مباشرة تمثل حتما درجة أقل لبرالية مما يجري في المحمية.

اليوم نحن معنيون بتحسين مصير الجزائريين، حيث كشفت الحرب عن كثير من الحقائق المتجاهلة من خلال إعطاء السكان الأهالي الفرصة للتعبير عن حاجاتهم السريعة لحركة إصلاحية خاصة بهم أو على الأقل نعبر لهم عن رغبتنا في ذلك.

إذا كانت قد ارتكبت أخطاء أحيانا فإن المسلمين المستنيرين لا ينكرون العمل العظيم الذي أنجزته فرنسا في الجزائر، وتضاعف عدد السكان الأهليين منذ خضوعهم للقانون الفرنسي بين بجلاء الظروف العامة للحياة، والأمن مصون في ظل العلم الفرنسي الذي سمح للعرق الجزائري بتطور هام، أحسن من سعي الأتراك في ضغطهم عليهم.

فقد أخبرنا آباؤنا قبل اختفائهم عن عنف تعليمات نظام الترك، وفي أحاديث عائلية في طفولتي كانوا يتحدثون عن عنف الاختراق الفرنسي للجزائر الذي لا ينسى.

إذا كان الاحتلال الفرنسي للجزائر جاء مؤلما نتيجة الغزو العسكري، فلم يكن لحسن الحظ كذلك في تونس، هنا العقلية الشعبية أقل قتالية، والإدارة الأهلية متداعية، لكنها مقاومة تسمح بابتكار شكل من الحماية تحمد عليه كل يوم.

في سفر حديث لتونس أول ما أقنعني في عرض مؤسسة للتعليم، للمساعدة، العدالة التي تجعل المجتمع الأهلي شيئا فشيئا يضم اليوم رجالا متعلمين وأناس متعاونين مع الممثلين الفرنسيين، وبذلك سيمحى للأبد كل ميل أو نزعة، تكون أحيانا أكثر سياسية منها صادقة، بتونس الحضارة التركية ميالة للتأثير الغربي.

الروح اللبرالية التي تنشط الإقامة العامة ستنجح بفضل الوداعة والإقناع، هذا التطور ضروري من إيصال فهمه يوما ما أيضا لمساجد تونس، الصلاة تقام باسم السلطان العثماني بإسطنبول، وهي مفارقة نفضل تجاهلها، والتي لحسن الحظ تتعارض مع السلوك الطيب للشعب التونسي المشارك لباقي الأعراق في الحرب بدون هوادة.

تظاهرة أخيرة لهذه اللبرالية الذكية لفرنسا جاءت لإنعاش قلب الإسلام بمكة وقد أحضرت معي شهادة بعثة كلفتني بها الحكومة الفرنسية لحضرة الشريف الكبير الذي صار ملك الحجاز.

هنا لا مصلحة ترى لفرنسا قريبة ولا بعيدة، ولا تجذب الأماكن المقدسة الإسلامية هذه انتباهها، إلا بسبب تعاطفها الشديد مع الشريف حليفها، وأيضا بسبب حج الرعايا الفرنسيين المسلمين بإفريقيا الذي من أجله حصلت حكومة الجمهورية على معاملة تفضيلية؛ بسبب الأهمية السياسية لمكة حيث يتم تثبيت أسس الإسلام سنويا من خلال المؤمنين الذين يأتونها من كل أطراف الأرض.

فرنسا أكبر قوة إسلامية لذلك لا يمكن أن تكون غير مبالية بالرأي العام الجماعي الذي يقوم بمكة في لقاء الحجاج الأجانب لتبادل الآراء في أمان.

لقد تم الترحيب بشكل خاص بالوفد الفرنسي المسلم المسؤول عن تقديم تهنئة رئيس الجمهورية لشريف مكة باستقلال الحجاز، عند مدخل المدينة المقدسة وتحت ظل عظيم كان ينتظرنا الشرفاء والأعيان والمسؤولون في حشد كبير مختلط من الرجال والنساء والأطفال، مشكلين موكبا عظيما، وأطلقت المدافع عدة طلقات ترحيبية بنا، لقد رأيت في حياتي عددا من التظاهرات الرسمية المهيبة لكن قلما شاهدت مثيلها عبر العالم، ما عدا في فاس، ومع ذلك لم أشعر في أي مكان بهذا الانطباع العميق كما هو الحال عندما اكتشفت التقشف والفخامة في مكة، كل معتقدنا وكل تاريخنا يوجد هناك بصراحة، بداية الخطاب الموجه لنا من قبل الشيخ عبد الله الخطيب انتهى بـ(عاش سيدنا المحبوب الشريف الحسين بن علي، عاش الشعب العربي الحر المستقل، عاش وفاؤنا المرتبط بمجد فرنسا وبريطانيا العظمى).

جاءت هذه الكلمات على لسان عربي حقيقي من الحجاز تتحدث عن نفسها.

الشريف الكبير سيدي الحسين بن علي بن عون الذي استقبلني بمجرد وصولي يظهر أنه في السادسة والخمسين من عمره وهو مسؤول منذ 1909 يقيم في اسطنبول منذ 27 سنة ولم يكن له عداء مع النظام التركي القديم إلا أن لديه كراهة شديدة لتركيا الفتاة، كان ذا طبيعة حيوية، وكان يميل بالطبع لقيادة الحركة العربية التي كانت تعمل على تحرير نفسها من استبداد القسطنطينية.

لقد أخذ الاضطهاد الذي تعرضوا له مع اشتعال الحرب شكلا جديا من العنف.

تركيا وألمانيا انتقمتا من الشريف الكبير والعرب لخيبة أملهما من فشل الدعوة للجهاد ربع الذي كان من المقرر أن ينطلق من مكة ضد الحلفاء، والذي قام الشريف بدور كبير في كبح جماح المتعصبين الذين كانوا ينادون به، و تسخير سلطتها لتحقيق ذلك الهدف، وهي الخدمة التي لن تنساها فرنسا له.

أثار موقف الشريف الكبير بإعلان استقلال الحجاز والانفصال عن القسطنطينية للتعامل مع القوى الغربية بعض المفاجأة في العالم الإسلامي، لقد أتيحت لي الفرصة لشرح ذلك له، وعلمت أنه بعد استشارة الحكومة الشابة التركية في بداية الحرب بشأن استصواب تبني الشجار الألماني ضد الحلفاء حول الجدوى المتعلقة بالخلاف الألماني مع الحلفاء، في تلك السياسة، ونصح بالامتناع عن الموافقة عليها، تمشيا مع حقيقة الإسلام، واعتبر أن تركيا في الواقع لا تستطيع -دون أن تتعرض لخطر جسيم- مواجهة مع الدول الأوربية التي يمتد سلطانها على ملايين المسلمين الذين سيوجدون بلدانهم ممزقة ومقسمة، والأماكن المقدسة -وهي الجامع العام للمجتمعات الإسلامية بأسرها- معرضة للخطر بدخول تركيا الحرب، إذ يجعلها ذلك موضعا للحرب، يهددها المتحاربون بالتدمير والاحتلال، فكان على الشريف أن يجعلها في منآى من ذلك فرفض الانجرار وراء توجه القسطنطينية للانخراط في الحرب، مما أعطاه فرصة لأخذ السلاح والدفاع عن الشعب العربي وبذلك صار حليفا لفرنسا وبريطانيا.

أتاح تجمع الحجاج في مكة من شمال إفريقيا ومصر ولحباش وسوريا والهند والشرق الأقصى معرفة المشاعر التي تحيي الإسلام عموما فيما يتعلق بفرنسا.

لقد لاحظنا أن لها تأثيرا كبيرا في مواجهة المؤامرات الألمانية التركية بالطبع، هكذا رأينا احتجاجات العرب على الحرب المشنة على فرنسا بالخصوص والتي ستكلفها غاليا: كتدمير الأماكن المقدسة الإسلامية، ونقل الحجر الأسود ورماد النبي لمتحف اللوفر، هذه الرواية الغبية في ذلك الوقت أنتجت انطباعا غريبا فريدا في أذهان السكان البسطاء المستعدين لتقبل كل الشائعات، شرط أن تكون غير قابلة للتحقيق.

لقد ساعد نهج الحكومة الفرنسية في الصداقة مع الشريف الكبير بشكل مفيد على تبديد ما قد بقي من عدم الثقة في هذا الصدد، وأعطاني فرصة مناسبة لتبديد العديد من الخرافات

المصلحة التي تربط بين الفرنسيين وحلفاؤهم في السياسة الإسلامية ستؤكد نفسها اليوم في الشرق ويمكننا إلقاء نظرة على مسرح الحرب للوثوق من ذلك.

هذه الرحلة العامة في واقع الإسلام تسلط الضوء على مكانة الشرف التي تحتلها فرنسا في هذا العالم الإسلامي والتي دعت إليها الحرب بمعنى متناقض لكنها تميل بوضوح نحوها، بينما تركيا كقوة إسلامية باسطة هيمنتها على الحجاز والشعب العربي، فهم ينتفضون ويقاتلون مع حلفاءهم، مسلمو إفريقيا رعايا فرنسا منخرطون في هذا النزاع ويقاتلون باستماتة دفاعا عن وطنهم الثاني، هذا التقارب يسمح لنا باستنتاج.

أستدعى شهادة العرب الصادقين في الشرق والغرب، ليقولوا بأن فرنسا توقر ديننا، ولها الحق في إخلاصنا وحبنا لها.

كل مسلم متنور يهتم لأمرها لأنه وفقا لكلام الرسول المقدس: (الإنسان يذهب عند الذي يحسن له).

قدور بنغبريط ص:1-8 في مجلة france -maroc15/6/1917.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M