علماءُ وأدباءُ لقيتهم

04 مارس 2017 16:55
تلكَ عشرةٌ كاملة

هوية بريس – ربيع السملالي

إنّ لقاء الأدباء والعلماء على أرض الواقع -بعد التّشبع بكتبهم وأفكارهم، والتّزود من علمهم- نعمةٌ لا يعرفُ قيمتَها إلاّ من كان يعيشُ أكثر حياته بين الكتب والمُصنّفات، ويمنّي النّفسَ بلقاء مؤلّفيها الذين أثّروا فيه وكانوا سببا في تغيير بعض مفاهيمه وتوجهاته..

والمعارض الدّولية للكتاب من الفرص الرائعة التي تجعل هذه النّعمة تتحقّق…

وإنّي أخبر عن حالي فمن اللّحظاتِ الجميلة في الدورة 23 للمعرض الدّولي للكتاب بمدينة الدّار البيضاء تلك التي كانت مساء الجمعة 17 فبراير 2017، حيثُ حضرتُ مناقشة كتاب للأديبة أمينة عاشور بعنوان (كيليطو.. موضع أسئلة / حوارات) صدر حديثًا عن دار توبقال للنّشر، كتبَتْهُ باللغة الفرنسية وقام بترجمته عبد السلام بنعبد العالي، فكان الثّلاثةُ حاضرين في تلك المناقشة، فأخذت الكلمة أمينةُ ثمّ عبد السّلام، ثمّ كيليطو، ثم كان النّقاش مع الجمهور الذي أنا واحد منه.. وما لفت انتباهي في الأستاذ كيليطو أنّه قد بدأ يشيخ وقد غزاه الشيبُ وكاد يسرعُ إليه الهرم، كان يتفرّس في الحاضرين بعينين متعبتين يعلمُ الله كم قرأتا من كتاب، وكم تصفّحتا من وجوه منذ زيارته لهذه الدّنيا قبل سبعين سنة ونيّف.. ومن يراه منكمشا غارقًا في ذلك الكرسي الوثير، لا يظنّ أنّ هذا الرّجل من كبار مثقفينا في العالم العربي..

أمّا كلامه فكان لا يخرج إلا بمشقة، وفي بعض الأحيان يريد أن يقول شيئا فيهجم عليه النّسيان فيظلّ متفكّرا، إلى أن تخلّص من كلّ ذلك وأعطى الكلمة للجمهور، وقال إنّه ليس من عادته أن يستبدّ بالكلام في مثل هذه الجلسات، وأنّ النّقاش هو ما يثريها، وقد كان النّقاش عاديًا، وكان هناك بعض التّلاميذ، فقامت من بينهم صبيّة لا تعرف شيئا عن الأدب، فسألته بوقاحة من لا يعرف للنّاس أقدارها، فأزعجت الحضور بقلّة أدبها، إذ سألته لماذا لا تكتب باللّهجة العامية ونحن نتحدّث بها، فقال: ومن سيشتري كتبي إذا كتبت بها؟ فقالت بخبث: إذًا أنت لا تكتب إلا من أجل البيع، فنهرها عبد السلام بنعبد العالي قائلا: ولماذا أنت الآن تتكلّمين باللّغة العربية، تكلّمي بالعامية، فشعرت بتناقضها، واحمرّت وجنتاها وجحظت عيناها، وقالت بغضب: نحن جيل المستقبل ونحن من سيقود المغرب وينبغي أن نتحدّث بلهجة البلد.. فقلت في نفسي: (ستقودونه إلى الهاوية).. ثمّ بعد انطفاء هذه الصّبية التي تردّد كلام أسيادها المتفرنسين وأهل الاستلاب، كان النّقاشُ أفضلَ، إذ سألته بعض النّساء عن قوله في (الأدبُ والارتياب ص:10): إذا كان الناسُ كلُّهم أعداء الكاتب، فهل الكاتبُ من جهته عدوُّ الناس كافّة؟ على الأقل يعرف أنّه محلُّ ريبة لمجرّد أنّه يكتب، فكأنّه مقترف لذنب يجب التّكفير عنه؛ ولذلك تراه يتودّد إلى القرّاء ويفاوضهم سعيًا منه إلى استمالتهم وإضعاف شوكتهم وإبطال كراهيتهم. ولا أعرف مؤلِّفًا اهتمّ بالقارئ العدوّ كما فعل الجاحظ، فهو يشركه في مشاريعه ويدعو له (حفظك الله…) (أكرمك الله…)، وفي كلّ لحظة يلتفت إليه ليتأكّد من انتباهه ويذكي اهتمامه. إذا سلّمنا بأنَّ القارئ عدوٌّ، فالنّتيجة الحتمية أنَّ كلَّ كاتب في وضعية شهرزاد، وكل قارئ في وضعية شهريار..

وأنا بدوري سألته سؤالين مُفادهما: قلتَ في كتابك أستاذَنا الكريم (الأدبُ والارتياب ص:7): الكتابة نشاط رجولي، وحسب علمي ليس في الثّقافة العربية كتاب من تأليف امرأة أو منسوب إليها.. أكيد كانت هناك نساء مُتعلّمات، شاعرات، غير أنّ إنتاجهنّ كانَ في أغلبِ الأحيانِ مقصورًا على الشّفوي.

وها أنت ترى أنّ امرأة قد ألّفت كتابًا عنك، وهي أمينة عاشور؟ فضحك وصفّق الجمهور، وهي مشاغبة محبّ فقط، لذلك قال لي: ذلك كان قديمًا وليس في العصر الحديث حيث شاعت الكتابة النّسوية..

والسّؤال الثّاني قلت فيه: قلتَ في كتابك مسار (ص:126.127): لا ينبغي التّسرعُ في الكتابة، أقولُ هذا، وأنا أعرفُ أنّه حدثَ أن كتبتُ أشياءَ لم تكن مهمّة في نظري، وإذا بالقارئ يجدها ذاتَ معنى وفائدة.

وفي كتابك (الأدبُ والغرابة ص:86): كم من معانٍ يُقدّمها الكاتبُ بنبرةٍ جادّة، ولا تمرُّ مُدّة وجيزة حتّى تبدو خاطئة أو ساذجةً مضحكة.

فكيف نجمع بين القولين؟

فأجابني جوابًا مختصرا لا أذكره.. لكنّه كان ذكيّا كما عهدته.

انتهت المناقشة، فذهبت إليه وسلّمت عليه بحرارة وشكرته على كتاباته وكتبه التي قرأتها كلّها، فاستحسن ذلك بهزّة من رأسه الأشيب، ثمّ استأذنته في التقاط صورٍ تذكارية فرحبّ بذلك بارك الله فيه.. وقد كان لقاء هذا الأديب العبقري حلمًا وقد تحقّق بحمد الله..

ومن الأدباء الكبار الذين حضروا هذا اللقاء: القاصُّ المغربيُّ المعروف، أحمد بوزفور، كان حاضرًا بتواضعه وسط الجمهور، وابتسامته التي تملأ وجهه حيوية وألقًا، وقد عانقته وأخبرته عن إعجابي بقصصه القصيرة، وكتاباته المميزة.. فشكرني ثمّ انصرف مع رفاقه من الأدباء بعد أن التقطتُ معه صورًا للذّكرى.. وكان آخر كتاب قرأته له عبارة عن حوارات عنوانه (الخيول لا تموت تحت السقف) فكان رائعا جدا، وأنا من المغرمين بهذه الحوارات التي تكون مع الأدباء والعلماء والمفكرين، فهي أشبه بالسير الذّاتية، ومن خلالها نطّلع على تجارب الآخرين..

وكذلك الكاتب الشّاب الواعد محمد آيت حنا صاحب كتاب (مكتباتهم) فقد كان حاضرًا ومرافقًا لأحمد بوزفور، وحين رآني قال لي: أنت ربيع السملالي؟ فقلت: نعم.. فقال هل عرفتني؟ فنظرت فيه مليّا فتذكرته لأنّه صديق معي على موقع تويتر، فقلت ألست صاحب كتاب (مكتباتهم) فقال بلى، ثم تعانقنا وكان لقاء ودّيا رائعا..

وفي صبيحة اليوم الموالي التقيتُ بالشّيخ الدّكتور عصام البشير المراكشي، فبشّ في وجهي وعانقني وعانقته بحرارة، فقد عرفته قديمًا من خلال بعض مؤلّفاته، وكذلك بعد أن أصبحنا أصدقاء على موقع فيس بوك من سنوات، فسألته بعض الأسئلة عن كتابيه (العلمنة من الدّاخل) و (الملكة اللّغوية) اللذين قرأتهما، وسجلت بعض الملاحظات عليهما فكانت الفرصة مواتيةً للسّؤال والاستفسار والمناقشة، ثمّ طلبت إليه أن يقول لي رأيه بصراحة في كتاباتي فوجدته قد قرأ كلّ ما كنت أنشره على صفحتي (الفيسبوكية)، فقال: قلمك متين في اتّجاهه الصّحيح وهو كأقلام الرّعيل الأوّل من السّلف، فقلت له: شهادتك هذه أعتزّ بها وتعني لي الكثير.. فقال: لم أقل إلاّ الحقيقة.. فشكرته على لطفه..

وبما أنّه قد ردّ في فصل من فصول كتابه (العلمنة من الدّاخل) على المدعو طارق رمضان، فقد أعربت له عن رغبتي في الرّد عليه من خلال كتاب مستقلّ حتّى لا يغترّ به الشّباب لاسيما في أوربا، وقد أضلّ الكثيرين منهم كما فعل الضّلالُ بنُ سَبهَلَل (عدنان إبراهيم).. فاستحسن الفكرة، وأخبرني عن طوام هذا الرّجل المبثوثة في كتبه المكتوبة بالفرنسية..

ومما أثار إعجابي في الشيخ البشير أنّه أخبرني بعدما أطلعته على نسختي (صبح الأعشى) التي اقتنيتُ (طبعة قديمة استحسنَها جدا)، أنّه قرأه كلّه وهو في ستة عشر جزءًا، وقرأ (نهاية الأرب للنويري)، و(الأغاني للأصفهاني)، وغير ذلك من دواوين الأدب الكبار، فلله درّ همّته العالية، وقد قلت له: ولعلّ هذا هو السّر في جمال أسلوبك، وجودة لغتك وفصاحتك..

ومن الأساتذة الفحول الذين تشرّفت بلقائهم للمرّة الثانية، أستاذنا الدّكتور ناجي لمين صاحب المؤلّفات الناّفعة (وقد أهداني أكثرها حين زرته في بيته ومكتبته العامرة بمدينة سلا قبل شهور)، وحين رآني عانقني وقال مازحا: اعتقدتك ستكون محاطًا بجيش من الشّباب كما هو مشاهد في صفحتك على (الفيسبوك) فابتسمت ضاحكا من قوله، ثمّ سألني عن ابني أسامة كيف حاله، إذ كان يعلم أنّه مريض وكانت هناك عملية فأجِّلت.. فلله درّه ما أروعه وما أطيب اهتمامه بتفاصيل تلامذته الصغيرة والكبيرة..

وكذلك التقيت بالأديب الرّوائي مُقدّم برنامج مشارف عدنان ياسين، وكان طويل القامة بشوشًا، انحنى على قامتي القصيرة وضمّني إليه بعدما أخبرته باسمي، وقال أهلا أهلا، قرأت كتابك الثّاني ونصحت به بعض الأصدقاء.. ثمّ التقطنا صورة، وانصرفنا..

و كذلك التقيت بالأستاذين الفاضلين إبراهيم الطّالب صاحب جريدة السبيل، وكاتب المقالات الافتتاحية القوية، وصديقه الإعلامي الرائع نبيل غزال، كانا مستعجلين فرحبا بي بحرارة وشكراني على ما أكتبه في الجريدة، وقال لي الأستاذ إبراهيم كنّا ننسق للجلوس معك لكن الفرصة لم تأت بعد، أو كلام هذا معناه..

أما الشيخ عمر الحدّوشي فقد رأيته وسلّمت عليه، فهو لا يعرفني ولا أعرفه معرفة شخصية التقطت صورة معه لأنّني كنت بمعية الشيخ البشير، قرأت له قديما ما كان يكتبه في بعض الجرائد من داخل السجن، وكذلك بعض كتبه في الرّد على امرأة هجت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.. لا أذكر اسمها قبّح الله سعيها.. والشيخ الحدّوشي معروف بغزارة إنتاجه، وهو من المكثرين في تأليف الكتب، فبعضها مطبوع وبعضها ما يزال مخطوطا، لم ير النّور بعد..

وهكذا قضيت هذه الرّحلة متنقّلا بين الكتب والعلماء والأدباء وطلبة العلم إلى أن استوفيت حظّي من ذلك، وعدت إلى مدينتي مملوءا بالسعادة، ولساني يردّد ما قاله الشاعر عبد اللطيف اللّعبي:

 لا تَبْقَ سجين محيطك. اخرجْ، غادرْ، ابتعدْ. لا تأبه بالحدود ولا تخف من الضياع، فالأرض كلّها وطنك، والبشرية كلّها شعبك.

الأرض- الأم التي أنجبتك- سُلالتك الإنسانية

وحتى لو أصبحت شيخا، لا تُفَرِّطْ في الطفل الذي كُنتَهُ، وفي أحلام الشباب.

https://www.facebook.com/rabia.essamlali

آخر اﻷخبار
2 تعليقان
  1. بارك الله فيك ربيع الادب لقد عرفتنا بزاوية مهمة من زوايا المعرض الا و إن في معرض الكتاب كتّاب!

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M