فلسفة الشُّكر

17 أغسطس 2022 19:44

هوية بريس – أيوب بولعيون 

إن ما يُوحِّد البشر شعوبا و أمما و قبائل و جماعات تحت راية العيش المشترك، هو إحساسهم بالحاجة و الفقر(يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله و الله هو الغني الحميد )-سورة فاطر-، فكل إنسان على وجه المعمورة يشعر ذاتيا بالنقص، و هذا لا يتمخض أبدا إلا بمصارحة الذات و التصالح مع طبيعتها و حقيقتها الأصيلة، و هو ما يقتضي بدهيا التعبير الصادق عن الشكر و الامتنان بمنطلق الفطرة السوية، إزاء كل معروف و فضل من “الآخر”، سواءا كان واجبا إنسانيا أو تطوعا و إحسانا، فالواجب أيضا يُشكر عليه، عكس الثقافة السائدة التي نخرت عقولنا ، المختزلة في عبارة “لا شكر على واجب”! الجاهزة، المُعلقة على الألسُن، كآية منزلة من السماء، أما آدعاء الاستغناء و التغني بكمال زائف ، فهو وهم كبير يعشش العقول ، و تعبير صريح عن الجهل و حالة من اللاوعي و العمى، تؤول إلى حداد مع الذات و الدخول معها في خصام و صراع نفسي، ما يمنع من تحصيل” نضج انفعالي” و شخصية متوازنة، دون إغفال الانعكاسات على الجانب الاجتماعي و الحياة اليومية للفرد من سلوكات شاذة و هيمنة الاعتبارات الأنانية على التعاون الاجتماعي.

إن لتقديم الشكر دور في توطيد أواصر المحبة و الأخوة بين الناس جميعا، باختلاف مذاهبهم و توجهاتهم و مراتبهم و جغرافيتهم (البادية / الحاضرة و الخدمة المتبادلة بلغة المتنبي الشعرية) ، فهو جسر لاستمرار التواصل و العطاء و تمتين للعلاقات الاجتماعية الحقيقية، و بناء مجتمع متماسك متعاون بين أفراده، فالشكر إذن أسلوب من أساليب التواصل السليم و الفعال مع الآخرين، و علامة من علامات “الذكاء الإجتماعي”عند الفرد، شرط أن يكون بكيفية تحفظ جوهره؛ أي دون ابتذاله، و ممارسته بشكل روتيني آلي مُفرغ من معناه، فالشكر أصبح عندنا مجرد “عنوان” فقط و شعار ، و عبارة “شكرا” محفوظة ، نرددها كنشيد دون الوقوف على “محتوى” الشكر و الامتنان و فضل” الآخر “و كرمه، إنما الشكر الحقيقي و المطلوب بين بني آدم، هو شكرٌ واعٍ بالهدية، بجمالية النعمة و العطية ، و إظهار الشاكر لمشاعر السعادة و الفرح، المبثوثة في القلب، ما يثير إحساسا بالراحة و الاطمئنان عند المشكور، فالشكر بهذا المعنى ممارسة واعية و ذو طابع ” فردي” خالص يعطي للأشياء و الأشخاص قيمتهم الحقيقية.

بالعودة إلى دين الإسلام الحنيف، كمرجع للأخلاق و مصدر للتشريع الرباني، نجد للشكر حضور قوي و أهمية بالغة جدا، فَيُروى عن النبي محمد عليه الصلاة والسلام حديث صحيح يؤسس به هذا الُخلق الكريم و الطبع السليم، قوله عليه السلام (من لا يشكر الناس لا يشكر الله)، حديث كباقي أحاديث النبي قليل الكلمات، عميق المعنى و كثير الدلالات ، و هو المبعوث بجوامع الكلم. استنادا للحديث يتبين جليا أن نعم الله موسوطة، بما فيها نعمة الحياة كأعظم النعم، و شكر الناس هو طريق لشكر الله تعالى، أما الكفر بالإنسان هو كفر بخالقه، فالكثير منا يكتفي بشكر الله و الإعراض عن الناس، و هو ما يعكس “جهلا مكدسا” و إيمانا مزيفا و مفارقة عجيبة يعيشها الإنسان في دائرة مغلقة على نفسه، يقول رب العزة في كتابه المبين (و إن تعدوا نعمة الله لا تحصوها، إن الإنسان لظلوم كفار) – سورة إبراهيم-.
إن الكفور الجَحود، الضيق الأفق، ليس بمقدوره أن يغير مسار الكواكب و لا حركة الشمس و النهار ، فهو المغترب بنسيان نفسه ، مصداقا لقوله جل علاه (نسوا الله فأنساهم أنفسهم) -سورة الحشر- ، و هو الظالم لحقيقة نفسه، الميالة بفطرتها للامتنان لمعروف الآخرين ( و ما ظلمونا و لكن كانوا أنفسهم يظلمون)-سورة البقرة-. وفي سورة العاديات ( إن الإنسان لربه لكنود)

في جوف الشاكر تسكن روح الفيلسوف، الباحث عن نفسه في الآخرين، الملتفت دوما دون ملل و كلل إلى تجليات الوجود الإنساني ،و ما يرتبط به من قيم و أخلاق و سلوكيات و مواقف نبيلة حميدة تستدعي الاعتراف بصيغته الفريدة، دون ابتذاله بعقلية “المألوف و المعتاد” العقيمة، الفيلسوف الذي يسعى باستمرار لمعرفة نفسه ( و من يشكر فإنما يشكر لنفسه)-سورة لقمان – ، و موقعه بالنسبة للآخر و للعالم، بعين متفحصة ثاقبة، تستشف المعاني و تستقطر الحكم، و ترفع ستار الجهل بإعادة التفكير و طرح السؤال. فهو إذن إنسان بإيمان حقيقي، يجلب له الرضا و الراحة و السكينة، أما الجاحد المتعجرف، ضحية “الأنا”/الذات الوهمية ، فهو الحزين الساخط دائما ، المتكبر على الآخرين بادعاءات فارغة يحاول إقناع نفسه بها ، الشقي الحائر الذي آثر الخسران على الربح و الغنى، لقوله تعالى ( لئن شكرتم لأزيدنكم). – سورة إبراهيم.-

لا شك أن للتربية الأولى التي يتلقاها الإنسان في صغره دور كبير في ترسيخ الطباع ، خصوصا داخل مؤسسة الأسرة، باعتبارها الحضن و النبع الأول للأطفال، و لها الدور المحوري في تشكيل الشخصية ككل متكامل في تعاملها مع الآخرين و الحياة عموما ، فالطريقة التي يتلقى بها الطفل مشاعر الامتنان من والديه في بواكير حياته، تنعكس عليه و على أسلوبه و تواصله مع ذاته بدرجة أولى، ثم مع الوسط الخارجي ، فهو بهذه الفلسفة يشعر دائما بالامتلاء و الرضا ، يعبر بتلقائية دون تصنع عن الشكر مقابل الإحسان و الأيادي السخية البيضاء كسبيل لعيش حياة هنيئة صحية بشكل أفقي مع الناس جميعا ، و هو ما يُعين الإنسان كذلك على تحقيق الذات بالتكيف النفسي و التوافق الاجتماعي و تقدير الحياة بكل نعمها الظاهرة و الباطنة.
يجب على الأسرة قبل أي مؤسسة أخرى، أن تعي جيدا أهميتها بالنسبة للنشء، أن تسعى لغرس القيم النبيلة والطباع السليمة عبر التربية بالقدوة و النموذج، و لنا في الدين الإسلامي المرجع و الكتاب و السيرة النبوية الشريفة.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M