مصطلحات الضرار والجناية على المصطلحات الشرعية

16 مايو 2022 21:44
د. بنكيران تعليقا على ندوة الحريات الفردية الممولة من طرف الاتحاد الأوروبي: قل لي من الممول أقول لك ماذا يحاك لك ويخطط لك

هوية بريس – د. رشيد بنكيران

تعد الأسماء والمصطلحات الشرعية ذات أهمية عظيمة لا تقل أهمية عن أحكامها الشرعية، بل يمكن القول إن الاسم الشرعي أو المصطلح الشرعي هو متقدم رتبة عن الحكم الشرعي الذي يتضمنه، لأنه يحمل الحقيقة الشرعية التي علق الشرع الأحكام بها، فلولا تلك الحقائق الشرعية لما وُجدت أحكام شرعية تناسبها، وأي خلل من شأنه أن يؤثر في الحقائق الشرعية تصورا وفهما واحترازا سيؤدي حتما إلى خلل في الأحكام الشرعية التي بنيت عليها.

وبناء عليه، فإن المصطلحات الشرعية أو الأسماء الشرعية تدخل في مفهوم حدود الله مثلها مثل الأحكام الشرعية التي لا يجوز العدوان عليها، كما لا يجوز هجرانها استعمالا وتداولا، لأن هجران تلك الأسماء مقدمة لنسيان مسمياتها أي حقائقها الشرعية، وكذلك نسيان حكمها ومحوه من الذاكرة.

نعيش منذ عقود حربا ضروسا تتعلق بالمصطلحات الشرعية، فالآخر المعادي للإسلام ولقيمه وأحكامه الذي يسعى إلى هيمنة النموذج الغربي وثقافته على الواقع، ويعمل على فرض قيمه ورؤيته في تفسير الإنسان والكون، وينطلق من منهج استئصالي يلغي فيه حضارة المسلم وقيمه…، قلت: فالآخر المعادي للإسلام لا يتوانى في إقصاء المصطلحات الإسلامية والأسماء الشرعية من الحياة العامة على تنوع فضاءاتها؛ في الإعلام، وفي التعليم، والسياسة، والاقتصاد…، وتقديم في مقابل ذلك مصطلحات بديلة ومضاهية للمصطلحات الشرعية؛ لكي يتوصل بذلك إلى تحريف المفاهيم الشرعية وإزالتها، ثم تغيير المبادئ المرتبطة بتلك المصطلحات الشرعية وصناعة أفكار ومفاهيم جديدة لدى المجتمعات الإسلامية.

وإذا كنا لا نستغرب من المعادي للإسلام وقيمه وحضارته أن يصنع ما يصنع لتهميش المصطلحات الشرعية فذاك دوره، فإننا نستغرب كل الاستغراب من المسلمين عموما وأصحاب الخطاب الشرعي خصوصا أن يشاركوا في هذا التهميش لتلك المصطلحات الشرعية والزهد فيها -ولو بغير قصد- وقبول بالمصطلحات البديلة والوقوع في مكرها، فتُوظف وتستعمل في مخاطبة المجتمعات الإسلامية على أساس أنها مجرد اختلاف في الألفاظ والمباني، وعليه، فلا ضير لدى هؤلاء المسلمين أو الدعاة في استعمالها ما دامت أنها قد تفيد المعاني الذي قصدها الشرع!؟

فمثلا حينما يعبر المسلم عن “الزنا” بعبارة بديلة مكرة كتسميتها بـ”علاقة خارج إطار الزواج”، والعلاقة بين رجل وامرأة أجنبيين عن بعضهما البعض خارج إطار الزواج طبعا ستكون علاقة غير شرعية تحتمل الوقوع في الزنا، فيظن القائل أنه حينما يصف ما بين تلك المرأة والرجل ب “علاقة خارج إطار الزواج” فقد وافق الشرع في مقصوده كأنه عبر باللفظ الشرعي “الزنا”، وهذا ليس صحيحا؛ فإن مصطلح الزنا قد استقر في ذاكرة المسلم وحفر في قلبه أنه حرام شرعا ومستبشع عرفا واجتماعيا ومعاقب عليه تشريعا، كما يرتبط به مصطلحات وأحكام شرعية أخرى تدور في فلكه عدّها الشرع مقدمات الزنا كالنظر المحرم أو زنا النظر وزنا الكلام وغيرها من الأمور…. فبمجرد إطلاق لفظ الزنا فإن هناك مجموعة من الآداب الشرعية المصاحبة لمقاصدها وأحكامها تحضر في ذهن المسلم ومحيطه التي يجب مراعاتها، بخلاف حينما نصف تلك الحقيقة الشرعية “الزنا” بعبارة “علاقة خارج إطار الزواج”، فإن هناك مجموعة من مقاصد شرعية وأحكامها يتم تغييبها أو القفز عليها.

فإذا جرى الحديث عن واقعة الزنا مثلا فإن نفس المصطلح (أي الزنا) يفرض على المتحدث به شروطا شرعية صارمة تتعلق بوسائل الإثبات لواقعة الزنا، فإن لم يأت بأربعة شهداء فهو في وضع قذف المحصن الذي تتعلق بها أحكام، أما التعبير ب “علاقة خارج إطار الزواج” فإنه تتلاشى فيه أحكام شرعية وتضيع فيه حقوق.

وما قررناه عن مصلح “الزنا” والعبارة البديلة عنه علاقة “خارج إطار الزواج”، يتوجه كذلك إلى مصطلح “الحامل من زنا” مع عبارة “الأم العازبة”، وكذلك مصطلح “الأب الزاني” بعبارة “الأب البيولوجي”، ومصطلح “ابن الزنا” بعبارة “الطفل الطبيعي” فهي عبارات يتم فيها تغييب حقائق شرعية وما يناسبها من أحكام، وأيضا ينتج عن استعمالها تهوين قبحها في نفوس مرتكبيها والمسؤولين عنها، والمخاطبين بها وعموم المجتمع.

وإذا انتقلنا إلى مصطلح آخر أو حقيقة شرعية أخرى في مجال المعاملات فإننا سنجد مصطلح “الربا” مثلا قد غُـيّـر بعبارة “الفائدة البنكية”، ولفظ “الفائدة” لا يحمل أي حكم شرعي لذاته أو معنى قدحي، فإن التجارة قائمة على جني الأرباح والفوائد، ومن الفوائد ما له وجه مشروع ومنها ما ليس له وجه غير مشروع، ولكن لفظ “الربا” فبمجرد إطلاقه فإن المسلم يستشعر قبحه ويستحضر حكم الشرعي فيه، بل يفرض حكم الربا نفسه على المسلم ويدفعه لتصور الوعيد الشديد في الدنيا والآخرة الذي نطق به الوحي، وهذه الأمور مقصودة شرعا حتى يفر المسلم من الربا ومن الوقوع فيه أو طلب الاستغفار والتوبة من الربا إذا وقع فيها.

ولهذا، لا نتردد في الجزم مرة أخرى أن تغيير أسماء لحقائق الشرعية وتغييبها يعد جناية على حدود الله والتعدي عليها، (وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ).

ونختار مثالا آخر يرتبط بمجال العقيدة: مصطلح “الردة” وهو مصطلح أصله من القرآن الكريم ويدل على أن المسلم كفر بالدين الإسلامي ووقع في ناقض من نواقض الإيمان، فقد استُبدل به عبارة “حرية المعتقد”، ومصطلح “الردة” تبناه الفقه الإسلامي على اختلاف مذاهبه وأضحى حقيقة شرعية يهتز لها كيان الأسرة المسلمة أو المجتمع الإسلامي عند سماع أن أحد أفراده قد ارتد عن دين الإسلام وأنه وقع في الردة، ويترتب على إطلاقه جملة من أحكام كبيرة مصيرية، فالتعبير عنه ب “حرية المعتقد” هو تمييع لحقيقته وتهوين من خطورة مآلاته وقطع مع الأحكام الشرعية المبثوثة في الفقه الإسلامي..

هذا، ونحن إذا مثلنا ببعض المصطلحات البديلة -وغيرها كثير-لبيان مدى الجناية على المصطلحات الشرعية فإن من يستعملها من المسلمين ويروج لها في الحياة العامة يكون حينئذ يدعم مشروع الحداثي والعلماني بقصد أو بغير قصد، ويقوي جبهة محاربه؛ فإن تلك المصطلحات البديلة إنما صنعت ليتوصل بها المناوئ للإسلام كان حداثيا أو علمانيا أو منافقا إلى مقاصد دنيئة، وحديث المسلم بها واستعمالها هو بمثابة عونه فيما يريد عدوه وتمكينه من بغيته. وقد جاء في القرآن الكريم ما يفيد النهي عن استعمال مصطلحات معينة وإن كانت لها وجه مقبول لغة إلا أنه لما كان عدو الدين يتوصل بها إلى إذاية رسول الإسلام ورسالته تأكد النهي عن استعمالها.
ففي قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [البقرة: 104]، تذكر كتب التفسير أن المسلمين كانوا يقولون حين خطابهم للرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ أثناء تعلمهم أمر الدين: {رَاعِنَا} أي: راع أحوالنا وارفق بنا، فيقصدون بها معنى صحيحا من الرعاية، وكان اليهود يريدون بها معنى فاسدا؛ يقال إن لفظ راعنا كانت سبة عندهم، فانتهزوها فرصة، وصاروا يخاطبون الرسول بذلك، ويقصدون المعنى الفاسد لينالوا منه ومن رسالته عليه الصلاة والسلام، فنهى الله عز وجل المؤمنين عن قول تلك الكلمة رغم أن لها وجها مقبولا من حيث اللغة؛ نهى عن ذلك سدا لذريعة أهل الزيغ والضلال حتى لا ينالوا من رسالة الإسلام وصحاب المقام الشريف.

ومن هذا الباب أيضا ما جاء في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ، حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ، فَجَمَّلُوهَا فَبَاعُوهَا»، فاليهود كانوا يجملون الشحوم أي يذيبونها لكي يغيرون شكلها الطبيعي، وبتغير شكلها سيتغير تبعا اسمها المعروف ويعطى لها اسما بديلا فتغيب حينئذ حقيقتها الشرعية للناس والتي علقت بها الأحكام الشرعية. ففي قول النبي عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ…» تنفير من صنيعهم وسيلة ومقصدا، والتحذير من الوقوع في مكايدهم ومكايد أهل الزيغ والضلال وفضح ألاعيبهم وطرقهم الدنيئة.

وبناء عليه، فإن الواجب على المسلمين عموما وأهل الدعوة والعلم خصوصا وزعماء الحركات الإسلامية وشبابها أن يهتموا بالمصطلحات الشرعية المعبرة عن حقائقها، ولا يكونوا عونا للمناوئين للإسلام بالترويج لمصطلحات الضرار التي هدفها تغييب الحقائق الشرعية ونسيان أحكامها وتعميق غربة الإسلام وأهله.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M