من تساؤلات القارئ المتدبر لسورة الفاتحة (6)

14 مايو 2019 15:01
من تساؤلات القارئ المتدبر لسورة الفاتحة (19)

هوية بريس – سفيان أبو زيد

الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، الجانب الذي سنتكلم عنه في هاتين الصفتين في سورة الفاتحة، هما تساؤلان اثنان:

التساؤل 7: لماذا تم اختيار هاتين الصفتين في أوائل هذه السورة؟ أو لماذا جاءت الرحمن الرحيم بعد الحمد لله رب العالمين؟

والتساؤل 8: لماذا جاءت كلا الصفتين مشتقتين من الرحمة ؟

فبالنسبة للسؤال الأول:

من قواعد القرآن الأساسية، قاعدة الترغيب والترهيب، فسبق أن تحدثنا بأن قوله تعالى {رب العالمين} يفهم منه ترهيب لأننا نحمد هذا الرب، على عميم إحسانه، وعلى كمال صفاته، هذا الرب، هو رب العالمين، فلا يمكن أن يوصف شيء بهذا العموم المطلق غير الله سبحانه وتعالى، حتى الذين ادعوا الربوبية كذبا وبهتانا لم يقولوا أنهم أرباب العالمين، ففرعون قال (أنا ربكم الأعلى) وقال (ما علمت لكم من إله غيري) فقيد ربوبيته الموهومة وألوهيته المزعومة بـ (كم ولكم) وهذا اعترافا منهن بأنه لا يمكن أن يستوعب وهمه الأحمق وادعاؤه الأخرق كل العالمين.

فالله عز وجل هو رب ومالك وسيد ومهيمن ومتصرف، ومدبر لكل ذرات هذا الكون، وأنت جزء من هذا الكون، إذن فهو ربك وسيدك ومالكك وملكك، وبالتالي فأنت مملوك من كل جانب ولا فرار لك منه، وهذا المعنى قد يشعر قارئه وسامعه ومتدبره، بشيء من الرهبة، بل بعميق الرهبة، فتأتي هاتان الصفتان بسحائب الرحمة والطمأنة لتنقذ الموقف، ولتقول لك صراحة وبكل وضوح، هذا الرب الذي يملكك ويملك ما حولك وما فوقك وما تحتك وما بين يديك وما خلفك، أول صفاته أنه رحمن رحيم.

الله عز وجل هذا الذي أثنينا عليه:

هو رب لكل شيء.

هو يملك كل شيء.

هو سيد لكل شيء.

هو المتصرف في كل شيء.

هو الخالق لكل شيء.

الرازق لكل شيء.

المهيمن على كل شيء.

وهذه المعاني كلها متضمنة في قوله (رب)، والربوبية هنا عامة بعموم الخلق بل تتجاوز الخلق ، فالله تعالى خالق ولا مخلوق، الله عز وجل لا يكتسب صفته من فعله، وهذه قاعدة أساسية في العقيدة..

فالله عز وجل خالق ولا مخلوق، ورازق ولا مرزوق، ومتصرف في كل شيء.

هذا الاتساع في الربوبية يضع الانسان في مقام العبودية مقيدا بها.

فجاء قوله تعالى (الرحمن الرحيم) ترغيبا وتخفيفا، فالله تعالى يريد أن يقول لنا: هذا الرب السيد الخالق المهيمن المسيطر، أجل صفاته وأولاها هي أنه رحمان رحيم.

وبالنسبة للسؤال الثاني: لماذا تم اصطفاء هاتين الصفتين دون غيرهما من الصفات؟

فالرحمن صفة ذات وقلنا الرحيم صفة فعل.

اختلف العلماء في هاتين الصفتين:

ذهب الإمام ابن القيم إلى أن صفة الرحمن تدل على الصفة الأزلية، التي اتصف الله تعالى بها والتي تليق بجلاله سبحانه وتعالى.

وصفة الرحيم، هي صفة الفعل أي أنه يرحم من شاء من خلقه ومتى شاء وكيف شاء.

هذا مضمون كلام الإمام ابن القيم رحمه الله.

قال رحمه الله: وأما الجمع بين الرحمن والرحيم ففيه معنى بديع، وهو أن الرحمن دال على الصفة القائمة به سبحانه، والرحيم دال على تعلقها بالمرحوم، وكأن الأول الوصف والثاني الفعل، فالأول دال على أن الرحمة صفته أي صفة ذات له سبحانه، والثاني دال على أنه يرحم خلقه برحمته، أي صفة فعل له سبحانه، فإذا أردت فهم هذا فتأمل قوله تعالى: (وكان بالمؤمنين رحيما) ، (إنه بهم رءوف رحيم) ولم يجيء قط رحمن بهم، فعلمت أن رحمن هو الموصوف بالرحمة. ورحيم هو الراحم برحمته. قال رحمه الله تعالى: هذه النكتة لا تكاد تجدها في كتاب، وإن تنفست عندها مرآة قلبك لم تنجل لك صورتها.

وقال: وكرر أذانا (أي إعلاما) بثبوت الوصف وحصول أثره وتعلقه بمتعلقاته، فالرحمن: الذي الرحمة وصفه، والرحيم: الراحم لعباده، ولهذا يقول تعالى: (وكان بالمؤمنين رحيما) . (إنه بهم رءوف رحيم) ولم يجيء رحمن بعباده ولا رحمن بالمؤمنين، مع ما في اسم الرحمن الذي هو على وزن (فعلان) من سعة هذا الوصف وثبوت جميع معناه للموصوف به، ألا ترى أنهم يقولون: غضبان للممتلئ غضبا، وندمان وحيران وسكران ولهفان لمن ملئ بذلك، فبناء فعلان للسعة والشمول المراد منه. اهـ.

وذهب الشيخ محمد عبدو رحمه الله، إلى عكس ما قاله الإمام ابن القيم، قال بأن صفة الرحمن هي صفة الفعل، لأن رحمته وسعت كل شيء فالاتساع الموجود في صفة الرحمن هو أليق باتساع رحمته سبحانه وتعالى لخلقه.

وصفة الرحيم هي صفة الذات.

قال رحمه الله: والذي أقول: إن لفظ «رحمن» وصف فعليّ فيه معنى المبالغة- كفعّال- ويدل في استعمال اللغة على الصفات العارضة- كعطشان وغرثان وغضبان- وأما لفظ «رحيم» فإنه يدل في الاستعمال على المعاني الثابتة كالأخلاق والسجايا في الناس- كعليم وحكيم وحليم وجميل- والقرآن لا يخرج عن الأسلوب العربيّ البليغ في الحكاية عن صفات الله عز وجل التي تعلو عن مماثله صفات المخلوقين، فلفظ الرَّحْمنِ يدل على من تصدر عنه آثار الرحمة بالفعل وهي إفاضة النعم والإحسان، ولفظ الرَّحِيمِ يدل على منشأ هذه الرحمة والإحسان، وعلى أنها من الصفات الثابتة الواجبة، وبهذا المعنى لا يستغنى بأحد الوصفين عن الآخر، ولا يكون الثاني مؤكّدا للأول.

قلت: لذلك يقول علماء الأصول، أن الأصل في الألفاظ التأسيس ولا التأكيد، لأن الإتيان باللفظ لا يكون أصالة إلا للتأسيس لمعنى خاص، فإن تعذر ذلك لمانع من الموانع انتقل إلى التأكيد.

ولكن لم نجب بعد على السؤال: لماذا هاتان الصفتان في هذا الموضع؟

نحن نعلم بأن سورة الفاتحة أساسها هو الهداية -كما سيأتي معنا -والهداية حقيقتها الجمع بين العلم والعمل، قال تعالى{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)}

الذين أنعمت عليهم : الذي جمعوا بين العلم والعمل.

غير المغضوب عليهم: الذين علموا ولم يعملوا.

ولا الضالين: الذين عملوا بدون علم.

هذا المحور الذي تدور في فلكه سورة الفاتحة، أعطانا الله عز وجل عنه المثال والقدوة من صفاته سبحانه وتعالى، لذلك قال{الرحمن} الذي اتصف بالصفة الذاتية، والرحيم الذي اتصف بالصفة الفعلية، وهو سبحانه علمه وصفته غير مكتسبين، ولكن نستفيد من الجمع بين هاتين الصفتين، أن الله عز وجل يريد أن يعطينا مثالا للجمع بين العلم والعمل، أن الانسان إذا تعلم شيئا لابد أن يكون له نسبة وحظ من العمل به، وخصوصا إذا كان أمرا يتعلق بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.

وبالتالي يرجح قول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى، أن الرحمن هي صفة الذات وهذا قال به جماهير أهل العلم، وأن الرحيم هي صفة الفعل.[1]

[1] – جمعت مادة هذا الجواب من :

[شرح العقيدة الطحاوية لصدر الدين محمد بن علاء الدين عليّ بن محمد ابن أبي العز الحنفي، الأذرعي الصالحي الدمشقي (المتوفى: 792هـ) (136)تحقيق: جماعة من العلماء، تخريج: ناصر الدين الألباني دار السلام للطباعة والنشر التوزيع والترجمة (عن مطبوعة المكتب الإسلامي) الطبعة المصرية الأولى، 1426هـ – 2005م/ معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد بن علي الحكمي (المتوفى : 1377هـ) (1/140)المحقق : عمر بن محمود أبو عمر دار ابن القيم – الدمام الطبعة : الأولى ، 1410 هـ – 1990 م/ مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين لمحمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية (المتوفى: 751هـ) (1/56) المحقق: محمد المعتصم بالله البغدادي دار الكتاب العربي – بيروت الطبعة: الثالثة، 1416 هـ – 1996م/ بدائع الفوائد لمحمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية (المتوفى: 751هـ) (1/24) دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان/ تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار) لمحمد رشيد بن علي رضا بن محمد شمس الدين بن محمد بهاء الدين بن منلا علي خليفة القلموني الحسيني (المتوفى: 1354هـ) (1/40) الهيئة المصرية العامة للكتاب سنة النشر: 1990 م/التحرير والتنوير (1/173)/ محاسن التفسير (1/225)]

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M