من جهود علماء المغرب في مقاومة الاحتلال الفرنسي

22 نوفمبر 2015 23:45
هل الكوارث الطبيعية عقوبات إلهية؟

محمد ناصرالدين لحمادي
هوية بريس – الأحد 22 نونبر 2015
حقيق بنا أن نتذكر يوما عظيما من أيام الله، يوم الثامن عشر من نونبر، فنفخر به، ونفاخر به الأمم؛ فهو صفحة من صحائف تاريخنا الناصعة، سطر فيه آباؤنا وأجدادنا ملاحم البطولة والفداء في مواجهة احتلال إسباني فرنسي غاشم لم يرقب فيهم إلاًّ ولا ذِمَّةً؛ جثم على صدورهم، ونكَّـل بهم، ومزق بلدهم، ونهب خيراتِـهم… فأَبَـتْ عليهم عزتُـهم أن يخنعوا له أو يركعوا، أو يضعفوا أمامه أو يتضعضعوا؛ فتصدوا لـمكره، وتأهبوا لحربه مؤثرين الـمنيةَ على الدنية، وجاهدوه بإيمانهم وسلاحهم جهادا كبيرا، ثأرا لمن قتل من رجالهم وذراريهم، ولمن اغتصب من أزواجهم وبناتهم؛ لم تفت في عضدهم قلة عَددهم وعُددهم، وقُوتِـهم وقُوَّتهم، فأثخنوا فيه الجراح، وكبدوه الخسائر، وعلى الباغي تدور الدوائر. ألا رحمة الله عليهم، ضربوا لنا الأمثال ببسالتهم في ساح المعارك، وثباتهم في وجه المذابح، فما لانت لهم قناة، ولا خارت لهم عزيمة في محاربة المحتل الصائل، وإبطال سحره ورد مكره:
وإذا كـانـت الـنفـوس كبـارا***تـعـبت فـي مرادها الأجسام
وما زال أبطالنا الأشاوس، ورجالاتنا الأماجد، يسقون ثرى بلادهم المعطاء الندية، بدمائهم الطاهرة الزكية، إلى أن أورقت أشجار الاستقلال وأينعت ثمار الحرية، فأيقن المحتل الغشوم أنه لا قبل له بشعب غَيُورٍ غَضوبٍ، يأنف من الظلم، ولا ينام على الضيم، وأدرك المحتلون ألا مقام له بمغربنا فخرجوا يتجرعون خيباتهم، وانهيار كبريائهم. وقد صور أحد الشعراء المغاربة هذه المعاني الجلى أحسن تصوير، فقال:
وَثْبَةُ الشـعـب سـجـلـتْ كلَّ فخر***وأعادت للحـق خـصما عنيدا
صرخة الشعب أخرست كل صوت***وأعادت للشعب مجدا تليدا
إن لـلـظـلم صولةً ثـم يجْـثـو***بعدها صاغرا ذليـلا طريـدا
ثم للحـق سَقْطـةٌ يـتـهادى***بـعدها شـامـخا أبيّـاً صَمُودا
ولكن المغاربة لم يكتفوا في مقاومة المحتل الغاصب بالسلاح وحده، بل قعدوا له بكل صراط يصدون عدوانه وبغيه، ويفضحون خططه ومكره.. ومن ذلك توعية علماء المغرب ومفكره شعبهم حينها ببشاعة الاحتلال، فأدوا واجبهم تجاه ربهم ووطنهم وأمتهم، فألفوا في ذلك الكتب، وألقوا في المحافل الخطب. من هؤلاء الوطني الغيور محمد المكي الناصري، الذي آلى على نفسه أن يفضح حقيقة الاحتلال الذي كانت تسميه فرنسا “حماية”، ولم تكتف بتزوير الاسم حتى خلقت له منافع وفوائد ستعود على الشعب المغربي بالرفاه والسعادة، يقول المرحوم الناصري: “قبح الله الحماية، فهي جناية ما فوقها جناية، يضحكني والله ما يقوله المستعمرون المنافقون من مهاترة وسفسطة لا حد لهما عندما يأخذون في شرح فوائد الحماية، ومنافع الوصاية، وما جلبه هذا الاختراع العجيب للإنسانية من سعادة ورفاهية وتقدم منقطع النظير.. لاسيما بالنسبة إلى هذا المغرب البائس المنكوب!! وإني لأولي وجهي شطر الحقيقة باحثا منقبا هنا وهناك عن محاسن الحماية ومزايا الاستعمار، فلا أرى في الحماية إلا جناية ما فوقها جناية، ولا في الاستعمار إلا جريمة لا تعد لها جريمة على وجه الأرض”1. ثم يسترسل في بيان مخازي الاحتلال في أسلوب لا يخلو من أَنَـفَـةٍ شديدة ورفض قوي، فيؤكد أن فرنسا غَـزَتْـنَا ” بجيش من الصعاليك والمفاليك… جهلاء بكل معاني الجهل، شرهين جشعين… ومع ذلك وكلت إليهم قوة الحديد والنار ومصير شعب حر بأسره ومستقبل أمة عزيزة بأكملها…”2، فكانت النتيجة تفتيت المغرب، وتشريد أهله، وتفريق ما اجتمع منه دينيا واجتماعيا… بهذا الأسلوب المتين يفضح المرحوم المكي الناصري الاحتلال الفرنسي ويسخر منه، حين يدعي أنه جاء بالخير والرقي إلى المغرب “البائس المنكوب”، والحق أنه جاء بجيش شره جشع من الصعاليك، ليست له من حجة الإقناع سوى الحديد والنار. وقد ألف الشيخ إبان الاحتلال -كما في موسوعة ويكيبيديا- كتابين يتناولان الاستخراب الفرنسي للمغرب، هما: “فرنسا وسياستها البربرية في المغرب الأقصى”، و”موقف الأمة المغربية من الحماية الفرنسية”.
ولما كان العلم أحد سبل التحرر من نير الاحتلال، كانت الحاجة إلى محاضن تحارب الجهل والخرافة -وهما من أعز ما يطلب لدى الغزاة-، لذلك رأى علماء المغرب ومفكروه ضرورة إنشاء المدارس الوطنية والقيام عليها، وكانت تسمى حينها “المدارسَ الحرة”. ومن هؤلاء: العلامة الأديب عبد الله كنون، الذي أسس مدرسة تحمل اسمه، “عمل فيها على تدريس أبناء الشعب لغتهم العربية التي كانت فرنسا تحاول جاهدة محوها واجتثاثها. وكانت تتوفر على عشر حجرات دراسية وبعض المرافق التربوية والدينية”3، وقد كانت غاية المدارس الوطنية بث روح الدين وحب العربية والاعتزاز بالوطنية في النفوس، وبناء الشخصية المغربية العصية على التغريب والمسخ، المعتزة بهويتها الدينية ولغتها الوطنية. ومن أهم جهود الشيخ كنون في المقاومة الفكرية تأليفه كتابه القيم الشهير: “النبوغ المغربي في الأدب العربي”، وبغض الطرف عن قيمة الكتاب الأدبية التي تؤكد إسهام المغاربة في الأدب العربي، فإن له قيمة ثقافية وطنية كبرى، فهو يخلد مجد المغاربة الحضاري والفكري والأدبي، ذلك المجد الذي سعى الاحتلال إلى طمسه وتشوهيه وقطع صلة المغاربة به؛ لقد كان كتاب “النبوغ” صَدّاً لـ”التهجمات الاستعمارية على المغرب في الميدان الثقافي والعلمي والديني والافتراء والتزييف والأباطيل”4. ووعى الاحتلال الإسباني خطر الكتاب عليه، فمنع تداوله!
ومن تلك الثلة المباركة: العلامة محمد المختار السوسي، الذي جعل مراكش منتهى رحلته ومنطلق دعوته، لتاريخها الحضاري وأهمية موقعها الجغرافي، وكذا وطأة المحتل عليها، فقد كانت “تعاني من كبت أنفاسها من خلال سياسة استعمارية صارمة، معززة بسياسة عميلها الباشا الكلاوي الذي كان على قدر كبير من الدهاء السياسي ومن البطش بالـمواطنين إرضاء لأسياده الفرنسيين”5. في هذه الظروف العصيبة لم يتخل المختار السوسي عن واجب البيان وعدم الكتمان، فقد جعل من زاوية والده بحي الرميلة مدرسة، غايتها تحفيظ أبناء المغاربة القرآن وتعليمهم العربية، وتلقينهم التاريخ ومبادئ الوطنية، صونا لهويتهم وحماية لهم من التغريب، وإعدادا لهم لمقارعة الاحتلال والعمل لنيل الاستقلال. وإلى جانب ذلك ألقى دروسا في المساجد المراكشية، لم يكتف فيها بالتوعية الدينية، بل تعداها إلى التوعية الفكرية والسياسية. وما أعظم ما كان يرومه المختار، الذي كان يفضل الموت على جهل يترك الشعب مستَعْـبَدا ضاق عليه الخناق وساءت أحوال معيشته، يقول:
حـتى مـتى شـعـبـي يـعـبـده الجـهـل***كأن لم يكن قطبَ السيادة من قبل
فلتسقط على الأرض السماوات ولتقم***قـيامةُ شعـبي، فالهلاك ولا الجهل
لـقـد ضـاق بالشـعـب الجهول خناقه***وقـد سـاء محـياه وقـد طفح الكيل
وما كان المـحتلون ليذروا المختار على ما هو عليه، يُدرس ويحاضر وينشر الوعي، فقد تنبهوا إلى خطر مدرسة الرميلة وصاحبها على مشاريعهم الاستخرابية، فما كان منهم إلا أن قرروا نفي المختار السوسي إلى إِلْغ في أعماق السوس، وإجباره على اعتزال الناس. وهناك تفرغ الشيخ إلى التأليف، فصنف طائفة من الكتب في التاريخ والتراجم، فأسدى بذلك إلى الثقافة والحضارة المغربية يدا بيضاء، وأبطل كثيرا من الدعاوى الزائفة التي رامت تشويه الحقبة الإسلامية للمغرب، وتمجيد العهد الروماني…
وبعد، فهذه وقفات مختصرة، جد مختصرة، مع جانب يسير من جهود علماء المغرب ومفكريه، أملتها مناسبة عيد الاستقلال المجيد الذي نخلد ذكراه العظيمة هذه الأيام. ورغم أن حديثا كهذا يتطلب الإسهاب والتوسع لأهميته وشدة الحاجة إليه، فقد اكتفيت بهذه اللمحات عن ثلاث شخصيات علمية كبرى، كان لها نصيب في مقاومة الاحتلال ومقارعة مشاريعه التغريبية بالقلم والفكر والخطابة. وغايتنا من هذه الوقفات التذكير ببعض الأعلام الذين لهم علينا فضل كبير وحق عظيم… مع العلم أن ثمة شخصيات أخرى، تحتاج من الجيل الصاعد أن يلتفت إليها، ويهتم بها، ويقبل على تراثها حفاظا على هوتنا المغربية، وتحصينا لها من كل ما قد يتهددها من مخاطر، وكل عام وذكرى الاستقلال تعود على شعبنا المغربي بخير ودعة ورخاء.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- مجلة “دعوة الحق”؛ ع:333؛ من مقال لإدريس خليفة.
2- نفسه.
3- مجلة “دعوة الحق”؛ ع:210.
4- مجلة “دعوة الحق”؛ ع:54.
5- مجلة “جامعة القرويين”؛ ع:12.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M