من ذكريات المنافي.. رسالة تاريخية موجهة إلى المسيو جاكينو من الزعيم القومي المجاهد الأستاذ محمد بن الحسن الوزاني

04 مارس 2019 18:36
من ذكريات المنافي.. رسالة تاريخية موجهة إلى المسيو جاكينو من الزعيم القومي المجاهد الأستاذ محمد بن الحسن الوزاني

هوية بريس – ذ. إدريس كرم

تقديم:

تطرح هذه الرسالة النظرة الميكيافيلية للغرب عموما والفرنسيين خصوصا، وهم المتبجحون بشعار الديموقراطية والحرية والمساواة، التي جعلتهم يرفعونها في الحربين العالميتين ضد من احتلوهم، ليحشدوا الشعوب المستعمرة من قبلهم لتحريرهم واستعادة كرامتهم، من غير أن يفكروا هم في رفع هيمنتهم واستعمارهم لتلك الشعوب التي اعتبروها مفارخ ومناتج لما يحتاجونه من مواد وطاقات وسواعد لرفاهية شعوبهم وتقدمها، تحقيقا للتقسيمات الفكرية اليونانية التي تعتبر الناس نوعين: سادة يحكمون وعبيد يخدمون، وتطبيقا لهذه النظرة أوردت مجلة bulltin de l institut colonial de nancy1922 التي أوردت بأن مجموع سكان المستعمرات الفرنسية غداة الحرب الأولى بلغ 54 مليون وخمس مئة ألف نسمة، قدمت 545 ألف محارب قتل منهم 115 ألفا في تلك الحرب، وكان عدد المغاربة بينهم حوالي 45 ألف، مات منهم أو جرح 12 ألف، وفي الحرب الثانية بلغ عدد المغاربة القتلى والجرحى 15 ألف من مجموع 50 ألف أرسلوا للجبهة وأحيانا دون تدريب، في الوقت الذي كان المغاربة وزعماؤهم يعانون من الظلم والإضطهاد في بلادهم لمطالبتهم بالحرية والإستقلال.

والرسالة التي نقدمها تدل على ما ذهبنا له:

نص الرسالة

ادزر في 11 يناير 1946

إلى سعادة المسيو جاكينو وزير الدولة بالرباط

حضرة الوزير، بعد تحيتكم بغاية الإحترام والترحيب بوفادتكم إلى المغرب، أتشرف بأن أعرض عليكم المسألة السياسية الآتية:

اعتقلت في ـكتوبر 1937، وذلك عقب مظاهرات سلمية قامت بفاس احتجاجا على الإعتقال الجائر الذي نال ثلاثة من أصدقائي، ثم أبعدت على سبيل الإقامة القهرية إلى عدة حصون بأقصى التخوم بالصحراء.

وفي أوائل يونيو 1941 حل بتاكنيت الكولونيل شميث رئيس مقاطعة ورزازات فأنهى إلي قرار نقلي إلى إدزر، ولم يحجم عن التنصيص لي بأن هذه البلدة تكون آخر مرحلة قبل عودتي نهائيا لفاس، وأني لن ألبث بها إلا قليلا جدا، وفي الواقع لم يتحقق شيء من هذا، ولم أشأ مدة سيطرة الطاغية نوجيس أن أحاول شيئا لإثارة مسألة التدابير البغيضة التي لا تزال مفروضة علي.

ولكن بعد تدهور المقيم السابق ووفود المسيو بيو ظننت من الواجب الإقلاع عن السكوت، وقد شجعني على هذا من جهة التصريحات الجمهورية الحرة التي جهر بها ممثل فرنسا الجديدة ومن جهة أخرى سياسة المودة التي أعلن هذا الأخير عزمه القوي على سلوكها تجاه الشعب المغربي، وبناء على هذا فقد اغتنمت فرصة مرور المسيو بيو بإدزر في 20 غشت 1943، فأبلغته بواسطة سلطة المراقبة رسالة أبيح لنفسي اقتطاف هذه الفقرات منها: (مما يسر الروح حقا ويسلي الفؤاد تسلية قوية سماعك تفوه بهذه التصريحات وتؤكدها تأكيدا… إننا لن نعيش اليوم في ظل نظام الحرية، هذا النظام الذي تلغى فيه التدابير الإستبدادية الجائرة، إن كلمة “حرية” قد استرجعت قيمتها كاملة، وحل التشريع الجمهوري محل الظلم والإستبداد، وأن بعث الحرية من مرقدها سيسير على أساس أشد الإحترام للعدالة).

(فالعدالة والحرية حسب هذا متضامنتان تساير إحداهما الأخرى، ولكن لا يسوغ بحال أن تبذلا لفريق من حيث يحرم منهما الفريق الآخر، بل من الواجب أن يتمتع بهما المغاربة والفرنسيون سواء، ذلك أنهما لازمتان للإنسان، بمعنى أنهما شرطان أساسيان في الحياة والرقي والنظام العام، قال أحد أقطاب الساسة الفرنسيين: إننا نلاحظ أمرا لا يقبل الضحد والإنكار، ذلك أنه توجد عند كل إنسان فكرة هي في نفس الوقت نظرية وشعور، لا مناص من أن يحدث إنكارها أو ضحدها في نفسه ألما وعذابا، ولهذا فإنه يأبى ألا تحترم احتراما مؤبدا).

وجوابا على هذه الرسالة فقد اتخذ المسيو بيو إذ ذاك قرار تمديد إقامتي القهرية، وبيان هذا أنه لم تمر بضعة أسابيع على تقديم تلك الرسالة حتى أبلغتني إدارته قرار نقلي إلى الجديدة.. وقد صرح لي أن هذه المدينة ستكون المرحلة الأخيرة الحقيقية قبل دخولي فاس، بل أريد إقناعي في هذه المرحلة أيضا بأن مقامي بالجديدة لن يتجاوز بضعة أشهر فقط..

ولكن حوادث الإستقلال في يناير 1944 أسعدتني بإبطالها لذلك القرار المقيمي السيء، وهكذا جعلتني أتلقى بارتياح مني ومن الناس جميعا هذا التدبير الجديد الذي كان يقضي بإبعادي والزج بي في محبسة أخرى، وبمجرد ما علمت نقض ذلك التدبير، جددت لدى المسيو بيو طلب حريتي وعودتي إلى بيتي بفاس، ففي الرسالة التي وجهتها إليه في 22 يناير 1944، صرحت بهذا خاصة:

(إن المغاربة نخبة وشعبا يجب أن لا يظلوا معاملين في بلادهم نفسها معاملة المسترابين والشريرين وأراذلة القوم المسلوبين فعلا من كل قيمة سياسية، وبعبارة أخرى إن سياسة التمييز العنصري التي تزن الناس بقسطاسين مختلفين فتبخس فريقا من حيث تنيل الفريق الآخر، والتي ما تزال تخصنا بالحرمان وتنهج معنا منهج السلب والنزع، وهذا ما ينكره مطلقا ما لكل دولة حديثة ديموقراطية كفرنسا من مثل أعلى في الرقي والمدنية، أقول أن تلك السياسة يجب أن تضمحل اضمحلالا كليا وأن تقبر إلى أبد الآبدين).

(إن المثل الفرنسي الذي يقوم على الحرية والعدالة والمساواة والإخاء الإنساني من جهة والتضحيات الدموية التي يبذلها الشعب المغربي في الحرب الحالية من جهة أخرى كلاهما يحتج بأبلغ برهان على تلك السياسة الضيقة القائمة على التمييز الجنسي، كما يبرر انتهاج سياسة جديدة ملهمة من المثل الإنساني الأعلى الذي يأخذ به النظام السياسي الفرنسي الحديث، ومن المصلحة الحقيقية في الحاضر والمستقبل للأمتين معا.

إنا لنعتبر من الخرف السياسي الكبير ومن الشقاوة حقا لمجتمعنا القومي أن يدأب المغاربة على بذل الأرواح كما هو شأنهم تجاه الأعداء في ساحة الوغى، وذلك من أجل أن تظفر شعوب أجنبية بتحرير أوطانها وتسترد حريتها وتصبح عليها آمنة مطمئنة، في حين أننا أنفسنا محرومون من مثل ذلك في عقر دارنا، وأن الأوربيين النازلين بأرضنا هم وحدهم الذين يتمتعون بالحرية في بلادنا بأمان واطمئنان..).

مضت بضعة أشهر على هذه الرسالة فجاء إلى إدزر اليوتنان كلونيل جورج الكاتب العام بناحية فاس، وقد صرح لي بمحضر ولاة المراقبة المحليين بأن عودتي إلى الحياة الإعتيادية ستقع عند انتهاء العمليات الحربية، وهكذا غلبتني القوة المسخرة في سبيل البغي والطغيان، فصبرت صبر المغلوب على أمره مرتقبا أن تضع الحرب أوزارها، ولما انتهت الحرب كتبت إلى المسيو بيو رسالة مؤرخة في 11 مايو 1945، ذكرت فيها بالوعد الصريح الذي أعطى لي سابقا بالعودة لفاس بمجرد انتهاء القتال، وفي تلك الرسالة قلت خاصة:

(حيث أن الحرب قد انتهت الآن وتوجت بانتصار الحلفاء الكبير، فإني أتقدم إليك يا حضرة السفير بهذه العريضة التي أجدد بها ذيك مطالبتي الصريحة بحرية نفسي وبأوبتي إلى بيتي بفاس، وأني لا أشك قط في أن شعور العدالة والحق وعزيمة الوفاء بالوعد سيلهمان السلطة المركزية ويحركانها للتعجيل بوضع الحد النهائي لأساري الطويل الذي لا تزال منذ أكتوبر 1937 سياسة الإستبداد والأضطهاد، تلك السياسة المسؤولة عن الأزمة الراهنة).

أما هذه الرسالة فقد بقيت بدون جواب، وهذا هو ما يجعلني اليوم أتشرف بالكتابة إليكم يا حضرة الوزير وذاك لأرفع إلى عدالتك ذلك الإصرار على الباطل وذلك الإمتناع عن الحق والعدالة، وإني إذ أقدم على هذا لا أجثو على ركبتي تضرعا وإلحافا، ولا ألتمس عطفكم ولطفكم، ولا أنشد عفوكم وصفحكم، ولا أسألكم منة وامتيازا، ذلك أني أعتقد أنني في غنى عن كل هذا ما دام الحق في جانبي، فإذا خاطبتكم الآن “يا حضرة الوزير” فلكي أحتج احتجاجا صارما على سياسة الحماية الإسترقاقية التي لا زلت ضحيتها منذ أكتوبر 1937، ولكن أعلن حقي في نيل الحرية وذلك بصفتي إنسانا ومغربيا معا، نعم أقول إني ضحية، وأشرح فكرتي هذه بتوضيح هذه الحقيقة، وهي أني لست متهما بجريمة ولا جناية يعاقب عليها القانون العادل، ومع هذا فمنذ أكثر من ثمانية أعوام والعقاب ينالني من جراء جريمة تحملني الحماية وزرها، وما هي إلا كوني وطنيا آخذ بآراء ومعتقدات غير التي تحب السلطة وتهوى، وبعبارة غيرها أن الحماية تأخذني بمجرد جريمة الرأي، وذلك بالرغم من كون المسيو بيو قد شنع جريمة الرأي على رؤوس الملإ تشنيعا، فقد صرح في ندوته الصحفية يوم 26 شتنبر 1943، بما يلي:

“ولكن ألا يستطيع كل واحد أن يحتفظ بأمل نصرة أفكاره دون اللجوء ضد مخالفيه في الرأي إلى المنفى والسجن.. ألا فلنحذر من إحياء جريمة الرأي السيئة الذكر”.

نعم “ياحضرة الوزير” إني ضحية ما عليه السلطة من روح التعصب وحب التشفي والإنتقام، وقد بين لنا الفيلسوف كوندرسي سبب هذا حيث قال: “كل إنسان يتخذ طريقته نشدان الحقيقة والجهر بها سيكون دائما مبغوضا من كل من يتقلد السلطة ويمارسها”.

ولكن إذا كان القانون يكبح جماح السلطة في جهات أخرى ففي المغرب تتصرف السلطة تصرفا مطلقا لا يحده غير شهوتها وهواها، ولا يوجد شيء مطلقا يستطيع أن يمنعها من التضرع باعتبار الدولة واللجوء إلى صكوك الأوامر الجائرة، لقهر المغاربة الذين هم عرضة لبطشها وكم أفواههم في ذلة وصغار.

إنه بالرغم من تضحياتنا مدة هذه الحرب وعن الوعود بإصلاح ما تأخذ به فرنسا من النظريات الإستعمارية العتيقة، ما تزال السياسة المتصرفة في المغرب، وذلك ما يخص الأهالي طبعا تقوم على جوهرها وأساسها على منع المغاربة من الإشتغال بما يعنيهم مثلا من نقد لتلك السياسة نفسها كلما وجدوها شرا وباطلا، ومن رفع عقيرتهم بالصراخ كلما تألموا من عذابها المستطير، ومن الصيحة بالوسائل المشروعة بأن كل في هذه البلاد المحمية عرفا ليس خيرا أو إصلاحا وإذا احتيج إلى تقديم البرهان على أن كل ما في المغرب ليس خيرا وصلاحا فإن مقامكم بيننا ياحضرة الوزير يقوم وحده على هذا برهانا ساطعا قاطعا.

إن المسألة السياسية التي أعرضها اليوم على سعادتكم تتعلق بخلاف بين السلطة وضحيتها، وإنكم لجديرون جدارة كبرى بالتحكم في أمر هذا الخلاف وحسم مادته حسما، وذلك طبق الحق والعدالة.

ومن أجل هذا أرى من الضروري أن أتولى الدفاع والمحاماة عن قضيتي وأمرها جلي، وخبرها يقين، والخصومة فيها مفصولة في حد ذاتها ومقطوعة من تلقاء نفسها.

وختاما لتسمحوا لي ياحضرة الوزير بالتعبير عنها من كل ما لدي من التصميم على مواجهة مراوغات واحتيالات السلطة، وذلك إن لجأت إليها إصرارا منها على إبقائي تحت نير العبودية، وما يملك منها كذلك زملائي السياسيون، قصد الدفاع عن نفسي لا في المجال المغربي فحسب بل في المجال البرلماني وحتى الدولي عند الإقتضاء.

ومن الآن قد اتخذت جميع الإستعدادات لكل هذه الطوارئ وقد لا يكون عبثا أن أصرح بهذا تصريحا، وأن يكون من يهمهم الأمر منه على بينة وبصيرة.

ومن التعبير لكم عن عرفاني لما ستصادفه هذه العريضة من عنايتكم، فإني ألتمس منكم يا حضرة الوزير قبول تقديري الكامل.

الإمضاء: محمد بن الحسن الوزاني

المقيم قهرا بادزر

الوحدة المغربية عدد رمضان 1365-22غشت1946″.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M