هجوم نيس وانقلاب تركيا والحرب العالمية الجديدة

16 يوليو 2016 13:42
هجوم نيس وانقلاب تركيا والحرب العالمية الجديدة

هوية بريس – شريف عبد العزيز

في صبيحة أحد الأيام الصائفة الحارة من شهر أغسطس سنة 1572 تدق أجراس كنيسة سانت جيرمان في قلب باريس، في غير المواعيد المعروفة لدق الأجراس، معلنة البدء في واحدة من أسوأ وأبشع المجازر الدينية في أوروبا، مذبحة القديس بارثولوميو ضد المسيحيين البروتستانت، لتشهد شوارع المدينة صرخات مدوية جراء ذبح الكاثوليك للآلاف من البروتستانت في واحدة من أسوا المذابح الدينية في تاريخ أوروبا، وهي حرب دينية استمرت حين انتفضت العُصبة المقدسة كما عُرفَت أنذاك في باريس الكاثوليكية ضد الملك هنري الثالث المتسامح دينيًا، والذي قتل على يد أحدهم قبل أن يتولى الملك هنري الرابع البروتستانتي في الأصل، ويتحول للكاثوليكية ليضع نهاية لتلك الحروب.

مذبحة بارثولوميو تلك هي التي أرست بذور العنف والإرهاب في الثقافة الفرنسية ورسخت الإيمان بالفكرة الأساسية لدى العقلية الكاثوليكية الدموية لدى الفرنسيين، فتحقيق الأهداف لا يتم إلا بإسالة أكبر قدر ممكن من الدماء سواء كانت فرنسية أم عربية، مسيحية أو مسلمة، لا فارق مادامت الأهداف ستتحقق. لذلك لم تكن هذه المذبحة الوحشية سوى فاتحة عهد طويل من الإرهاب الفرنسي والدموية في التعامل مع الملفات والقضايا الداخلية والخارجية.

فبعد ثلاث سنوات من الثورة الفرنسية الشهيرة، عادت الدماء مجددًا بالقرب من اللوفر حين واجهت مجموعة سان كولوت ـ عديمي الملابس كناية عن الفقر ـ حرس الملك لويس السادس عشر في معركة سقط فيها أكثر من ألف قتيل، انتهت بالقبض على الملك وإلغاء الملكية لوقت قصير، وهي معركة تبعتها بأسابيع حادثة دموية جديدة، حيث قامت نفس المجموعة باقتحام السجون وتصفية 1300 من أعداء الثورة تخوفًا من تعاونهم مع الألمان.

وفي عام 1871 قامت القوات الجمهورية المحافظة بقمع حكومة “كوميون” الشيوعية الراديكالية وتعدم كل المسئولين، وهي الحكومة التي شيدت كنيسة ساكريكور الكاثوليكية تكفيرًا” عن ذنوبها بعد إعدام الراديكاليين لرئيس الأساقفة بالمدينة، في إشارة واضحة على رسوخ السلطة الرجعية الكاثوليكية حتى ذلك الوقت.

وفي أواخر القرن التاسع عشر تنتشر عمليات الاناركيين التي تستهدف طبقة الأثرياء بدعوى الحفاظ على مبادئ الثورة الفرنسية، مثل التفجير الذي قام بها إيميل هنري بإحدى مقاهي باريس. فقد نظر هنري إلى المقهى باعتباره تجسيدًا للمجتمع البرجوازي، وكان يهدف إلى قتل أكبر عدد ممكن من الناس حين وضع قنبلة في مقهى ترمينو عام 1894، وعندما سُئل في المحكمة عن سبب إيقاع الضرر بمجموعة كبيرة من الأبرياء، قال ببساطة أنه لا يعتقد بأن هناك أي أبرياء بين البرجوازيين، لتقرر المحكمة إعدامه خلال أشهر، وهو إعدام أطلق فيه هنري آخر كلماته، “تعيش الأناركية”.

 وقد سبقه أوجست فايان بوضع قنبلة عام 1893 عند مجلس النواب الفرنسي، ورُغم ضعف قنبلته التي صنعها بالمنزل ولم تُحدث سوى جروحًا طفيفة لعشرين نائبًا، إلا أن الحادث أنذاك كان كالقشة التي قصمت ظهر البعير، ودفع الحكومة الفرنسية بعد حوادث مشابهة قام بها أناركيون لتمرير مجموعة قوانين عُرفت بالقوانين الخسيسة، تضمنت تقييد حرية الصحافة، ومنع أي شخص أو جريدة من استخدام الدعايا الأناركية.

هذه مشاهد وصور قليلة من دفتر أحوال فرنسا الداخلي وطريقة تعامل الفرنسيين مع بعضهم البعض في تحقيق أهدافهم وسياساتهم. دموية ووحشية وإرهاب ومسارعة بسفك الدماء وإزهاق الأرواح. ناهيك عن الوحشية والدموية في التعامل مع الغير، وأرواح ودماء الملايين من المسلمين في الجزائر والمغرب ومالي والسنغال وغريب أفريقيا تشهد على وحشية الفرنسيين المفرطة، وعقليتهم الكاثوليكية الدموية. وهو ما تميز به الفرنسيون عن باقي الأوروبيين مثل الانجليز أو الألمان الذين كانوا يعتمدون الأساليب الهادئة البطيئة والفعالة في تحقيق سياساتهم الداخلية والخارجية.

يوم الخميس كان يوما مميزا عند الفرنسيين فهو يوم الاحتفال باقتحام الباستيل رمز الاستبداد الملكي، وبدء شرارة الثورة الفرنسية التي انتهت بإسقاط الملكية وقيام الجمهورية، غير أن ثمة تحركات مريبة تأتي في سياق التحضير أو الاستعداد لعمل كبير من نوعية ما سيقع في آخر اليوم ذاته، خاصة وأن احتفال هذه السنة يأتي فيظل مجموعة من الأزمات السياسية الداخلية والخارجية، أو فلنقل الملفات ذات التأثير على الدولة والمجتمع بشكل عام، ومن بينها أزمة قانون العمل الجديد الذي أدى إلى إضرابات ومظاهرات واسعة، وأزمة الانقسام داخل اليسار الفرنسي الحاكم، قبل عام من الانتخابات الرئاسية.

ظهرا وقف الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند، خطيبا في جمهور محتشد، في ميدان الشانزليزيه متحدثا عن الكثير من التحدي للأزمات التي تواجهها بلاده؛ معلنًا تصعيدًا عسكريًّا خارج بلاده، وخصوصًا في الشرق الأوسط، بنشر المزيد من القوات والمستشارين العسكريين في المنطقة، وأن مجموعة القتال التي تشمل حاملة الطائرات “شارل ديجول” سوف تعود إلى المشاركة مرة أخرى في عملية “الشمال”، وهو اسم العملية التي تشنها فرنسا ضد تنظيم “داعش” في سوريا والعراق.ثم جاء المساء حاملاً له وللفرنسيين مفاجأة بالرغم من أنها محزنة؛ إلا أنها اتسقت مع السياق العام الذي تعيشه فرنسا منذ يناير 2015م، وحتى الآن.

ولقد بدا المظهر جليًّا وواضحًا في ميدان الشانزلزيه قبل الحادث بساعات بدا وكأنه بالفعل ترتيبات حرب، فقد انتشر 13 ألف جندي من القوات المسلحة والقوات الخاصة الفرنسية في شوارع هذه الدولة العظمى، لحفظ الأمن، حيث إنهم جزء من حالة تعبئة شاملة أعلنتها الدولة الفرنسية باعتبار أنها في حالة حرب -رسميًّا- شملت تجنيد 25 ألف شاب في القوات الفرنسية، تطوعوا للخدمة، لأن فرنسا ألغت الخدمة العسكرية الإجبارية في عهد الرئيس الأسبق جاك شيراك، عام 1997م.ثم جاء حدث نيس لكي يثبتها، وكأن فرنسا كانت تتنبأ بما سوف يحدث لها في المساء!

الأعجب من ذلك هذا الربط العجيب بين إعلان فرنسا باليوم ذاته عن إغلاق جميع مؤسساتها الدبلوماسية في تركيا بدعوى وجود تهديد أمني خطير، ثم تقع محاولة الانقلاب العسكري في تركيا اليوم الجمعة وهو الانقلاب الفاشل بكل المقاييس.

هذا الإجراء لم تأخذه فرنسا في بلدان أخرى يمكن أن تواجه فيه مصالحها الدبلوماسية، من سفارات وقنصليات، تهديدات مماثلة، مثل مصر أو السعودية أو حتى مالي التي يوجد فيها جماعات مسلحة ناشطة تهدد الدولة والمصالح الفرنسية كافة هناك.

الإجراء الفرنسي بحق تركيا يفتح المجال واسعًا حول الثمن الذي دفعته أنقرة نتيجة سياساتها في الإقليم في مرحلة ما بعد الربيع العربي؛ حيث تحولت تركيا من أهم قوة إقليمية فاعلة إلى بلد محاصَر، مهدد بالكثير من المخاطر الأمنية والسياسية التي قد تهدد بالفعل وحدة أراضيه الترابية.

فهل القيادة الفرنسية وأجهزتها الأمنية كانت على علم مسبق بما سيجري في نيس ليل الخميس، وفي أنقرة عصر يوم الجمعة ؟!

فرنسا في الوقت الراهن على طرف نقيض في صراع دولي يشمل جبهات عدة، في مواجهة قوى استعمارية أخرى، أهمها وأكثرها تأثيرًا على المصالح الفرنسية، التحالف الأنجلوساكسوني، المعزز بقوى دولية عدة تضمها الرابطة الأنجلوفونية التي تضم أممًا ودولاً على قدر كبير من عوامل القوة. في هذا الإطار من المدرَكَات، تتحرك، وهي تعلم تمامًا أن “داعش” إنما هو أداة وظيفية لقوى إقليمية ودولية أكبر، تحركه للتأثير على المصالح الفرنسية، بدلاً من المواجهات المباشرة.

كما تدرك فرنسا كذلك أن تركيا أحد أهم الأدوات التي تتحرك من خلالها الولايات المتحدة على وجه الخصوص في المنطقة الأهم الآن للمصالح الأمنية الفرنسية، وهي المشرق العربي والهلال الخصيبوليس هذا هو المظهر الوحيد للصراعات التي تخوضها فرنسا في الإقليم، ففرنسا لا تتحرك وحدها، وإنما من خلال تحالف قد يكون غير معلن، ولكنه واضح المعالم، ويضم في الإقليم مصر، بالإضافة إلى روسيا وألمانيا وإسرائيل من أجل ضمان حصة في المنطقة في مرحلة ما بعد سايكس ـ بيكو، والخرائط الجديدة للمنطقة. ففرنسا كانت على علم مسبق بهجوم نيس وانقلاب تركيا واستبقت الحدثين الكبيرين بالإعلان عن مرحلة جديدة من الحروب الفرنسية بالشرق الأوسط يكون فيها الحصول على الغنائم وتحقيق الأهداف والسياسات بنفس العقلية الكاثوليكية الدموية الموروثة لدى الفرنسيين منذ قرون.

منطقة الشرق الأوسط والعالم بأسره على موعد مع حرب عالمية جديدة يستحضر بها العالم مشاهد القرن الماضي عندما اندلعت الحرب العالمية الأولى ثم الثانية من أجل التنافس على المصالح والصراع العسكري والاقتصادي بين القوى الاستعمارية الكبرى، والذي غالبا ما تكون الضحية الأولى فيه الشعوب والدول الفقيرة من دول العالم الإسلامي.

(مفكرة الإسلام).

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M