يانع الاجتهاد في جلاء بعض أحكام الجهاد

24 نوفمبر 2015 16:47
"إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ"

د. محمد ويلالي

هوية بريس – الثلاثاء 24 نونبر 2015

تكمن أهمية مقاربة هذا الموضوع، في كون المفهوم الحقيقي للجهاد قد التبس على بعض الناس، الذين لم ينتبهوا إلى ضوابطه الصحيحة، ومقاصده المرجوة، حيث برزت أفهام اكتنفها كثير من التجاوز، واعتورها غير يسير من  محددات المدلول الشرعي لهذا المصطلح.

في التعريف:

لقد عرف العلماء الجهاد لغة بأنه: “استفراغ الجهد، وبذل الوسع من قول أو فعل”. وعرفوه اصطلاحا بأنه: “بذل الجهد من المسلمين في قتال الكفار المعاندين المحاربين، والمرتدين، والبغاة ونحوهم، لإعلاء كلمة الله تعالى”.

وحكمه فرض كفاية، إذا قام به من يكفي من المسلمين سقط الإثم عن الباقين. قال الله تعالى: “وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ”.

ولا يصير الجهاد فرض عين إلا في ثلاثة أحوال:

1- إذا حضر المسلم المكلَّفُ القتالَ، والتقى الجيشان، وتقابل الصفان. قال الله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ“.

2- إذا داهم العدو بلداً من بلدان المسلمين، تَعيَّن على أهل ذلك البلد قتاله وطرده منها، ويلزم المسلمين أن ينصروا ذلك البلد إذا عجز أهله عن إخراج العدو، ويبدأ الوجوب بالأقرب فالأقرب. قال الله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ”.

3- إذا استنفر إمام المسلمين الناس، وطلب منهم ذلك، قال الله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ“.

وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا” متفق عليه.

والمقصود بإمام المسلمين، إمام البلد، الذي بايعه أهل ذلك البلد بيعةً شرعية، وإلا لصارت كل جماعة أو طائفة تنصب لها أميرا تأتمر بأمره، وتقف عند نهيه، فتحدث الفوضى، ويعم الاضطراب والاختلاف.

وللجهاد مراتب أربع:

1ـ جهاد النفس: وهو أربعة أنواع:

ـ جهادها على تعلّم أمور الدين.

ـ جهادها على العمل به بعد علمه.

ـ جهادها على الدعوة إليه وتعليمه.

ـ جهادها على الصبر على الدعوة إليه.

2ـ جهاد الشيطان: وهو نوعان:

ـ جهاده على دفع ما يلقي إلى العبد من الشبهات.

ـ وجهاده على دفع ما يلقي إليه من الشهوات.

3ـ جهاد الكفار والمنافقين: ويكون باليد بشروطه، وبالمال، وباللسان، وبالقلب.

4ـ جهاد أصحاب المنكرات: ويكون باليد عند الاستطاعة، وإلا فباللسان، وعند العجز فبالقلب، كما في الحديث: “مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ” مسلم.

ومِلاك هذه الأنواع كلها أن يجاهد المسلم نفسه على طاعة الله، فيحجزها عن المعاصي، ويمنعها من المنكرات، ويروضها على فعل الخيرات. قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِالْمُؤْمِنِ؟ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ، وَالْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ النَّاسُ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ الْخَطَايَا وَالذُّنُوبَ” الصحيحة.

أما ضوابط الجهاد فأربعة:

1ـ العلم بشروط الجهاد وفقهه وأحكامه.

2ـ استئذان الوالدين في الخروج إلى الجهاد، وفيه أدلة كثرة، منها:

ـ أن رجلا سمع بالجهاد، فأحب الخروج إليه، فسأل -صلى الله عليه وسلم- عن أي الأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟: فقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: “الصَّلاَةُ عَلَى وَقْتِهَا“. قال: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: “ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ“. قال: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: “ثُمَّ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ” متفق عليه.

ـ وقد جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَاسْتَأْذَنَهُ فِي الْجِهَادِ فَقَالَ: “أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟“. قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: “فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ” متفق عليه. وعند أبي داود: “ارْجِعْ إِلَيْهِمَا فَاسْتَأْذِنْهُمَا، فَإِنْ أَذِنَا لَكَ فَجَاهِدْ، وَإِلاَّ فَبِرَّهُمَا”.

قال ابن حجر -رحمه الله-: “أي: إن كان لك أبوان فبالغ جهدك في برهما، والإحسان إليهما، فإن ذلك يقوم مقام الجهاد”.

3ـ الجهاد موكول إلى إمام المسلمين واجتهاده: ويلزم الرعيةَ طاعته فيما يراه من ذلك، لقول الله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ“. ولقوله -صلى الله عليه وسلم-: “مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللَّهَ، وَمَنْ أَطَاعَ أَمِيرِي فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ عَصَى أَمِيرِي فَقَدْ عَصَانِي” متفق عليه.

قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: “فطاعة الله ورسوله واجبة على كل أحد، وطاعة ولاة الأمر واجبة لأمر الله بطاعتهم، فمن أطاع الله ورسوله بطاعة ولاة الأمر، فأجره على الله، ومن كان لا يطيعهم إلا لما يأخذه من الولاية والمال، فإن أعطوه أطاعهم، وإن منعوه عصاهم، فما له في الآخرة من خلاق”.

ومن طاعته، عدم الجهاد إلا بإذنه، لقوله -صلى الله عليه وسلم-: “إِنَّمَا الإِمَامُ جُنَّةٌ، يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ، وَيُتَّقَى بِهِ” متفق عليه. قال ابن قدامة -رحمه الله-: “وأمر الجهاد موكول إلى الإمام واجتهاده، ويلزم الرعيةَ طاعتُه فيما يراه من ذلك”.

ولقد امتثل الصحابة أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- في صلح الحديبية، ونزلوا عند رأيه، وإن تبدى لهم أن بنود الصلح مجحفة في الظاهر.

4ـ الاعتصام بالكتاب والسنة، وبخاصة أيام الفتن: وهو ما يستوجب لزوم جماعة المسلمين، والتعوذ من الفتن. قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنَ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ” مسلم. وقال -صلى الله عليه وسلم-: “سَتَكُونُ فِتَنٌ، الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي، وَمَنْ يُشْرِفْ لَهَا تَسْتَشْرِفْهُ، وَمَنْ وَجَدَ مَلْجَأً أَوْ مَعَاذًا فَلْيَعُذْ بِهِ” متفق عليه.

فوجب الاعتصام بالكتاب والسنة، والرجوع إلى أهل العلم في معرفة أحكامهما ومقاصدهما، وإلا لأصبح الدين مستباح الجانب، مهدور الساحة، كل يفهمه كما يريد، وقد يتحكم الهوى، فيضل الناس، ويختلفوا في القطعيات المسلمات، فيفشلوا وتذهب ريحهم. قال تعالى: “وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ“.

قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: “فعلى كل مؤمن أن لا يتكلم في شيء من الدين إلا تبعاً لما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ولا يتقدم بين يديه، بل ينظر ما قال، فيكون قوله تبعاً لقوله، وعملُه تبعاً لأمره، فهكذا كان الصحابة -رضي الله عنهم-، ومن سلك سبيلهم من التابعين لهم بإحسان، وأئمة المسلمين. فلهذا لم يكن أحد منهم يعارض النصوص بمعقوله، ولا يؤسس ديناً غير ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم-.

إن الناظر في أحداث باريس يوم الجمعة الماضي، يتبدى له أن ما خطط له أصحاب هذه التفجيرات من محاولة ردع الكفار عن اعتدائهم على المسلمين، قد أتى بنتائج عكسية، شأنه شأن تفجيرات 11 شتنبر بأمريكا، من هذه الآثار:

إغلاق مجموعة من المساجد في أوربا.

كتابة عبارات على جدران المساجد، تستهجن المسلمين، وتسب دينهم وعقيدتهم.

عدد من أئمة المساجد جعلوا على رأس لائحة من يجب أن يطردوا فورا، مع نزع جنسيتهم إن كانت لهم جنسية.

فرض الإقامة الجبرية على عدد من المسلمين، ووضع شارة في أيديهم ليعرفهم الناس في الطرقات.

إباحة المداهمات الفجائية لبيوت المسلمين بدون قيد ولا شرط.

قرار تجفيف منابع الجمعيات الخيرية في الغرب التي تعين اليتامى.

إغلاق بعض المدارس الدينية في بعض البلاد الأخرى.

تضاعف جرأة الغربيين على الله، بتحريقهم للمصاحف.

انتقام بعض الغربيين العنصريين من المسلمين، بتهديدهم بالقتل، والاعتداء، والتضييق.

10ـ تراجع ثقة كثير منهم في الإسلام والمسلمين، واعتقادهم أن ديننا مصدر للإرهاب والترويع، مع أن الدين براء من هذه الأفعال المرفوضة.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M