أسد بن الفرات.. كمال الإرادة وشرف العلم والتعلم (التراجم والسير)

03 يناير 2019 22:36
أسد بن الفرات.. كمال الإرادة وشرف العلم والتعلم (التراجم والسير)

هوية بريس – صفية الودغيري

لما كان تحصيل العلم مرتبطا بكمال الإرادة، وكان العلم إمام الإرادة ومقدَّما عليها ومفصِّلا ومُرشِدا لها، وكان احتواء الإرادة لجميع الحواس محرِّكا لها ومولِّدا لطاقتها، يزوِّد منابعها ومصباتها بقوة الجريان، والتدفُّق في العروق، وبثِّ النشاط وتجدده على الدَّوام، لزِم تمتين الرِّباط بينها بوصل الانسجام والاتِّفاق، وتوثيق عُرى محبَّتها في القلوب، لما لذاك الجامع من جوامع الهمَّة العالية، المقوِّية للعزيمة الرَّاشدة، الحامِلَة للنفس الوثَّابة على الجِدِّ والمثابرة في السَّعي والعمل، والإقبال على تحصيل العلم وتبليغه، حتى تدرك من فرط محبتها له مبتغاها، وترتفع به وترفعه إليها، وتصطفي قربته وتتمكَّن من وشائج قرابته، وتؤثر مجالسه وتسكن منازله، وتجتبيه دونًا عن سائر ما تجتبيه من محبوباتها ومعشوقاتها، ويسلبها طلب الرّكون إلى النوم والراحة، ويصُدَّها عن مخالطة ما يتجاذب قلوب أبناء جنسها وأقرانها، ويصرفها عن مجانبة ما يتخطَّفهم طير الملذّات، وما تصفِّق له أجنحة الشهوات، وكفِّها عن السُّكر والعبِّ من مُدام اللَّهو والانبساط..
فالطرق المفتوحة أمام تحصيل العلم لا تولَج إلا عن طريق وصل العلم بالإرادة، والقلوب المُنقادة إلى منهاجها منشرحة مطمئنة باتِّبَاع مسالكها، وحُقَّ لمن كان ساعيا في طريقها، ومهتدِيا قلبه بمنارات هدايتها، ومتمسِّكا بمحبَّتها، وواعيا بثمرة فضائلها، أن يَجْعَل منفعتها قائمة على هذين الأصلين، وعليهما مدار أقواله وأعماله، وأن يجعل صراطه المستقيم موصولا بالعلم والإرادة، وكماله يتمّ بتمام همة ترقّيه منابره، وَعلم يهديه ويبصِّره..
ولهذا وضع ابن قيم الجوزية كتابا مؤسَّسا على هاتين القاعدتين، معرِّفا بشرف هذين الأصلين، وربط شرف مقصوده بشرف مسمّاه فسمَّاه: “مِفْتَاح دَار السَّعَادَة ومنشور ولَايَة أهل الْعلم والإرادة”.
وفي هذا المقام الشريف وضمن هذا الكتاب النفيس يقول : “لما كَانَ كَمَال الإرادة بِحَسب كَمَال مرادها، وَشرف الْعلم تَابع لشرف معلومه، كانَت نِهَايَة سَعَادَة العَبْد الَّذِي لَا سَعَادَة لَهُ بِدُونِهَا، وَلَا حَيَاة لَهُ إِلَّا بهَا، أن تكون إِرَادَته مُتَعَلقَة بالمراد الَّذِي لَا يبْلى وَلَا يفوت، وعزمات همته مسافرة إلى حَضْرَة الْحَيّ الَّذِي لَا يَمُوت، وَلَا سَبِيل لَهُ إِلَى هَذَا الْمطلب الأسنى والحظ الأوفى إلا بِالْعلمِ الْمَوْرُوث عَن عَبده وَرَسُوله وخليله وحبيبه، الَّذِي بَعثه لذَلِك دَاعيا وأقامه على هَذَا الطَّرِيق هاديا، وَجعله وَاسِطَة بَينه وَبَين الأنام وداعيا لَهُم بِإِذْنِهِ إلى دَار السَّلَام وأبى سُبْحَانَهُ أن يفتح لأحد منهم إلا على يَدَيْهِ أوْ يقبل من أحد مِنْهُم سعيا إلا أن يكون مُبْتَدأ مِنْهُ ومنتهيا إليه”.
ولا عجب إذا أن نجد من علمائنا ممن عرفوا للعلم قدره، إرادة صلبة وهمة عالية وشكيمة لا تلين، ورباطة جأش في الإقبال والتحصيل:
فهذا أبو عبد الله : أسد بن الفرات بن سنان إمام العراقيين بالقيروان ت 213 هـ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الذي دوَّن الأسدية عن عبد الرحمن بن القاسم بمصر، فقد كان يغدو إليه كل يوم ـ بعد وفاة الإمام مالك ـ فيسأله ويجيبه، حتى دوَّن ستين كتابا سماها: “الأسدية”. وقدم بها إلى القيروان، فسمعها منه خلق كثير، منهم سحنون وغيره..
والمشهور عن أسد بن الفرات ـ رحمه الله ـ أنه كان يلتزم من أقوال أهل المدينة وأهل العراق ما وافق الحق عنده، لاستبحاره في العلوم وبحثه عنها، وكثرة من لقي من العلماء والمحدثين، حتى قيل عنه أنه سمع على هيثَم بن بشير اثني عشر ألف حديث..
وكان يقول : “ضربنا في طلب العلم آباط الإبل، واغتربنا في البلدان ولقينا العلماء، وغَيرُنا إنّما طلب العلم خلف كانون أبيه ووراء منسج أمّه، ويريدون أن يلحقوا بنا!”.
وذكر سليمان بن سالم، صاحب سحنون، أنه أخبره غير واحد من شيوخه أن أسدا خرج إلى المشرق في سنة اثنين وسبعين ومائة، فقصد مالكا بن أنس، فلما فرغ من سماعه منه قال له: “زِدني يا أبا عبد الله سماعًا منك” ـ وكأنَّه استقَلَّ بالموطأ ـ فقال له مالك: “حسبُك ما للنّاس”. وكان مالك إذا سُئِل عن مسألة كتبها أصحابه، فيصير لكلٍّ منهم “سماع”، مثل “سماع ابن القاسم”، فرأى أسد أمرا يطول عليه، وخاف من طول مقامه أن يفوته ما رغب فيه من لقاء الرجال والرواية عنهم، فرحل إلى العراق ..
وذكر غير سليمان بن سالم، أنه سأل مالكا يوما عن مسألة، فأجابه فيها، فزاد أسد في السؤال، فأجابه، فزاد أسد في السؤال، فأجابه، ثم زاد، فقال مالك: “حسبك يا مغربي! إن أحببت الرأي فعليك بالعراق..
ولما وصل أسد رحمه الله تعالى إلى العراق لقي أصحاب أبي حنيفة، فسمع منهم ودارسهم، فلم يُفتَح له ما أراد، وكان يجلس في حلقة محمد بن الحسن فلا ينفتح له شيء مما يتكلَّم عليه، وكان يدرس الليل والنهار ولا ينفتح له شيء، وكان يتعاهد رقّاقًا يشتري منه الرّقوق، فشكا إليه وقال: ” إني غريب طالب علم، وقد نفدت بضاعتي ولم ينفتح لي شيء من العلم” فقال له: “اقرأ عليَّ وأنا أفتح لك وأبيِّن لك أصول القوم”. قال: “فكنت أقرأ عليه ويبيِّن لي، وكنت أتعاهده حتى انكشفت لي أصول القوم وظهرت لي مذاهبهم”. فلما جلست بعد ذلك في حلقة ابن الحسن تكلمت معهم وناظرتهم، فقال محمد بن الحسن لأصحابه: “انفتح دماغ المغربي!”..
وذكر سليمان بن سالم عن أسد أنه قال لمحمد بن الحسن: “إني غريب قليل النَّفقة. والسَّماع منك نزرٌ والطَّلب عندك كثير، فما حيلتي؟؟” فقال لي: “اسمع مع العراقيين بالنهار، وقد جعلت لك الليل وحدك، فتأتي فتبيت عندي، وأُسمِعُك”. قال: “فكنت أبيت عنده. وكنت في بيت في سقيفته -وكان يسكن العلو- فكان ينزل إليَّ، ويجعل بين يديه قدحا فيه الماء، ثم يأخذ في القراءة، فإذا طال عليه الليل ورآني قد نعست، ملأ يده ونضح به في وجهي، فأنتبه . وكان ذلك دأبي ودأبه حتى أتيت على ما أريد من السَّماع عليه”.
فحُقَّ أن لا يجتمع لأحد الولاية والقضاء ببلاد إفريقية إلا لأسد بن الفرات،
فقد ولاه ـ زيادة الله بن الأغلب ـ الإمارة و وأبقى له اسم القضاء، وقال له: “فأنت قاض أمير”، وولاه على غزاة صقلية، ولما خرج على جيشه متوجها إلى سوسة ليركب منها إلى صقلية، خرج معه وجوه أهل العلم وجماعة الناس ليشَيِّعوه، وأمر ـ زيادة الله ـ أن لا يبقى أحد من رجاله إلا شيعه . فركب أسد في جمع عظيم، فلما رأى جمع الناس بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله، وقد صهلت الخيول وضربت الطبول، ونُشِرت البُنود، قال : ” لا إله إلا الله وحده لا شريك له”، ثم قال: “والله، يا معشر الناس، ما وُلِّي لي أب ولا جدٌّ ولاية قط، ولا رأى أحد من سَلفي مثل هذا قط . وما رأيت ما ترون إلا بالأقلام، فأَجْهِدوا أنفسكم وأَتْعِبوا أبدانكم في طلب العلم وتدوينه، وثابِروا عليه واصْبِروا على شِدَّتِه، فإنَّكم تنالون به الدّنيا والآخرة”.
ــــــــــــــــــــــــــ
انظر ترجمته والتعريف به: ترتيب المدارك للقاضي عياض 3/292.
طبقات علماء إفريقية أبي العرب محمد بن أحمد بن تميم التميمي 1/81.
معالم الإيمان في معرفة أهل القيروان للدباغ 2/3.
ورياض النفوس في طبقات علماء القيروان وإفريقية / أبو بكر عبد الله بن محمد المالك 1/254.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M