أضحية العيد وجريمة الربا

12 أغسطس 2018 22:51

هوية بريس – مركز يقين

لما فقدت عبادة النّحر يوم العيد -تقربا إلى الله تعالى- بُعدها التعبدي، وأضحت عادة حُكمها الوجوب في أعراف الكثيرين، صرنا نسمع بين الفينة والأخرى عن بعض الوعاظ والدعاة تساهلهم في مسألة أخذ قرض ربوي مراعاة لهذا البعد الاجتماعي واستنجادا بالبعد العاطفي، حتى يتجنب أرباب الأسرة حزن الأطفال والنساء، وهذا تجاوز فقهي خطير جدا، يَنِمُّ عن خرقٍ أصولي وتجاوز صارخ لحدود الله دون مستند علمي، وكما هو معلوم، فإن الحرام لا يُستَحَل إلا للضرورة التي سيأتي بيانها بحول الله…

فهل يمكن أن تكون الربا حلالا؟ وهل لابد من أضحية العيد؟ وهل يمكن لأضحية العيد أن تُجَوِّزَ أخذَ القرض الربوي؟

أولا نذكر حكم كل من أضحية العيد والربا، ثم نعرج على ما يستند إليه أصحاب الفتوى العجيبة من موضوع الضرورة، حتى نبين أحكامها.

أجمع علماء المسلمين على أنَّ مِن أفضل الأعمال في العشر من ذي الحجة إراقة دم الأضحية تقربا إلى الله تعالى، وقد وردت في ذلك آيات وأحاديث تحثُّ على هذه العبادة، فقال ربنا جل وعلا: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162]، ففسر جمهور المفسرين كالطبري وابن كثير والقرطبي والطنطاوي والبغوي والسعدي لفظة النسك بالذبح، وقيدها بعضهم بذبيحة الحج وآخرون بذبيحة الأضحية، وقال الله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [ الكوثر: 1-2]، ذكروا كذلك أن المقصود ههنا الأمر بنحر البُدن التي هي الأضحية.

وقال ﷺ: (إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلِّي، ثم نرجع فننحر، من فعَلَه فقد أصاب سُنَّتنا، ومن ذبح قبلُ، فإنما هو لحمٌ قدَّمه لأهله، ليس من النسك في شيء) [1]، وكذلك ما رواه الشيخان عن أنس رضي الله عنه قال: ضحى رسول الله ﷺ بكبشين أملحين أقرنين، قال: ورأيته يذبحهما بيده، ورأيته واضعًا قدمه على صفاحهما، قال: وسمى وكبر) [2]. وغيرها كثير من الأدلة الدالة على مشروعية الأضحية وفِعل النبي ﷺ لها.

حكم الأضحية
لما ترجم المحدث الفقيه الإمام البخاري رحمه الله للحديث الذي ذكرنا، عنوَن لِبابِه بـ: “باب سنة الأضحية”، وقد علق ابن حجر على هذه الإشارة في فتح الباري قائلا: “وكأنه ترجم بالسنة إشارة إلى مخالفة من قال بوجوبها” [3].

وقال ابن حزم رحمه الله: “لا يصح عن أحد من الصحابة أنها واجبة، وصح أنها غير واجبة عن الجمهور، ولا خلاف في كونها من شرائع الدين، وهي عند الشافعية والجمهور سنة مؤكدة على الكفاية… وعن أبي حنيفة تجب على المقيم الموسر” [4].

المعاملة البنكية = الربا..
لا خلاف بين علماء الأمة سَلفِها وخَلَفِها، عالِمها وجاهلها أن الربا حرام قطعا، توجب غضب الله على آخذها ومُعطيها.
ولا خلاف على أن البنك لا يُقرِض إلا بمُقابل، وهذه هي الربا، إذ أن طبيعة القرض أنه يقوم على الإحسان لا على الربح والابتزاز، والبنك لا يعرف الإحسان والصدقات، وإنما يعرف: هاكَ ورُدَّ مع زيادة..!!

يتم في عصرنا هذا التلاعب بالألفاظ من أجل صرف الناس عن ردة الفعل البَدَهية تجاه الربا، فتسمى الربا الفاضلة عن المعاملة البنكية فائدة، ويتم التمويه بأنها تتم بالاتفاق والتراضي وكأن الله حرمها على قوم لا يتفقون ولا يتراضَون، وهذا باطل باتفاق علماء المسلمين، إذ إنه منذ الجاهلية كان الناس يتفقون على الآجال وعلى المقادير، فجاء الإسلام ليَجُبَّ هذا الباطل..

قد يقول قائل إن هناك خلافا حاصلا في كون فائدة الأبناك ربا، فهنا أُحِيل القارى الكريم على الدكتور العليم باختلافات العلماء، الأصولي الفقيه محمد الروكي، الذي ينفي أي اختلاف في استباحة الربا، ويُلحِق المعاملة البنكية بالربا، ليشملها التحريم أيضا.. [5].

وأحيانا نجد من يحرّم مُطلَق الربا، ويحرم الاقتراض من الأبناك، لكنه يُجوِّزَ ذلك في حالة الضرورة، ولما نظرنا إلى هذه الضرورة التي يُستند إليها نجدهم يصفونها بالضرورة الاجتماعية، وهذه الأخيرة لم نجدها إلا لفتة عاطفية تقتضي منا دعم المحتاجين بدل الإفتاء لهم بتقحم الحرام، ولبيان ضعف هذه الضرورة، نقف مع ضوابطها فيما يأتي..

كلامٌ عن الضرورة الشرعية..
لما كانت نصوص الكتاب والسنة متناهية ولها حد تنتهي إليه، وكانت القضايا والنوازل والحوادث التي تحدث في مجتمعاتنا يغلب عليها طابع التجدد والتغير زمانا ومكانا، كان لزاما على المنتَصِبين للفُتيا من أئمةِ وأعلامِ المسلمين أن يستنبطوا الأحكام لقضايا متجددة من نصوص الوحيين -القرآن والسنة- قياسا، فاستدعى ذلك استخراج قواعدَ كُليةٍ كبرى منهما، قواعدُ تراعي إرادة الله في التشريع، قواعد مستنبطة تحِل مَحل انقطاع الوحي وتجدد القضايا في مجتمع الناس، ليستمر التشريع وِفق ما أراد الله وموازاة مع ما بين أيديهم من كُليات الدين، هذه القواعد التي أبرزت جمالية التشريع في هذا الدين، الدين الذي بيَّن الله سبحانه وتعالى أنّ من مقاصده الكبرى إرادة اليُسر بالناس {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} وإرادة رفع الحرج عليهم {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ}، وإرادة الرحمة بالعالمين التي أوردها بأسلوب الحصر لحصر الغاية: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}، ورب العالمين هو رب السماوات والأرض ورب المشرق والمغرب كما أجاب القرآن مفسرا معنى العالمين في سورة الشعراء.

فكان من هذه القواعد القاعدة المشهورة “الضرورات تُبيح المحظورات” [6]، التي تجري على ألسنة العلماء والعوام، ألسنة العلماء الذين يقدّرونها حق قدرها ويراعون حدها وتعريفها الشرعي، وألسنة العوام الذين يَسِمون أمورا من الحاجيات، وأخرى من التحسينيات، بالضروريات، بل ويجعل البعض هذه الضرورات الوهمية التي لا تكون ضرورة إلا في ذهن صاحِبها ذريعةً لاقتراف المحظورات.

لقد عرّف الإمام السيوطي رحمه الله الضرورة بقوله: “بلوغ المُكلَّف حدّاً إن لم يفعل الممنوع هلك أو قارَبَ” [7].

ونُثَنِّي بتعريفٍ آخرَ لأحد أعلام المالكية وهو الشيخ الدردير رحمه الله تعالى، قال: ”الخوف على النفس من الهلاك، عِلما أو ظنا” [8]. وقال: ”هي حفظ النفوس من الهلاك، أو شدة الضرر” [9].

وعموما فإن كل التعاريف تدور حول الهلاك والتّلف والمرض والضرر والخوف منها، فالضرورة هي الحالة التي إذا بلغها الإنسان أبيح له فعل المحظور المحرم، من أكل جيفة أو شُرب دم لدرء الهلاك عن النفس.

وهي أنواع ثلاثة:

منها ما يجب فعله ومَن تَركَه أَثِمَ، كأكل الميتة للمضطر المُشرِف على الهلاك الذي لا يجد إلا الميتة، فيُرفع التحريم عنها في هذه الحالة، وفي هذا يقول مسروق رحمه الله: ”مَن اضطر إلى ميتة فأبى أن يأكل حتى مات دخل النار”.
ويقول ربنا في هذا : {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ ۖ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}
والثانية ما يباح فعلها كالتلفظ بالكفر إذا أُكرِه الإنسان على ذلك، فحرمة التلفظ بالكفر مؤبدة، إلا أن الإثم فيها يُرفع حالَ الإكراه.
وفي هذا يقول ربنا: {مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}
والثالثة ضرورة يحرُم فعلها كالإكراه على قتل المسلمين. فهي ضرورة غير معتبرة شرعا.
وهكذا يتبيَّن معنى الضرورة الشرعية التي تكلم عنها العلماء وقالوا أنها تبيح المحظورات، وقد اشترطوا لاعتبار الضرورة ألا تكون أقل مفسدة من المحظور، فضرورة أكل الميتة لتجنب الهلاك مثلا واضح أن الهلاك أكبرُ مفسدة من أكلها، ولذلك قال الإمام الزركشي رحمه الله: ”الضرورات ترفع الإثم عن المكلف في فعل المحظورات التي تقل عنه مفسدة” [10].

فهل يُعتبر أخد قرض ربوي من أجل اشتراء أضحية العيد من قبيل الضرورات التي تبيح المحظورات؟

هنا يمكن أن نضع القارئ الكريم أمام موازنة فقهية، حتى يتبين له ضعف ما يستدل به أصحاب ذاك القول:

الربا حرام بالقرآن والسنة والإجماع، والقروض الرِّبَوية حرام إجماعا، وإن خالف فيه فلان وفلان فهذا شذوذ ورأي مرجوح لا يُلتَفَتُ إليه.

وقد قيل أن الأطفال إذا لم يقتنِ لهم رب الأسرة أضحيةً سيحزنون، وبالتالي يجوز له أخذ قرض ربوي لدرء هذه “الضرورة”.

خذ يا أخي ههنا علة تحليلهم لأخذ الربا، وهي “حزن الأهل والعيال” وقِسها بمقياس ما ذكرنا من تعريفٍ للضرورة وشروطها، وانظر هل تتحقق أي مَهلكة إذا لم يشترِ رب الأسرة أضحية العيد؟ وانظر كذلك ووازِن بين تقَحُّم الحرام لفعل المندوب، هل هذا يستقيم؟

ونختم كلامنا بقول الدكتور بنحمزة حفظه الله حين سئل عن أخذ قرض لشراء الأضحية فقال: “إن هذا لا يجوز، وأن اللهَ لا يُعبَدُ بالحرام”.

والله تعالى أعلى أعلم..

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] : أخرجه البخاري، كتاب الأضاحي، باب سنة الأضحية، برقم 5545.

[2] : البخاري (5565)، ومسلم (1966).

[3] : فتح الباري شرح صحيح البخاري، ص:3.

[4] : نفس المصدر.

[5] : انظر مقطعا مصورا للشيخ هنا.

[6] : الأشباه والنظائر. ص:83.

[7] : الأشباه والنظائر، ص:172.

[8] : حاشية الصاوي على الشرح الصغير، (2/137).

[9] : حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، (2/136).

[10] : المنثور في القواعد (2/386).

آخر اﻷخبار
1 comments
  1. نشكركم على هذا التحليل.ولكن الايوجد عالم معاصر موثوق يعرف الضرورات المعاصرة.ام أن الضرورات هي هي لم تتغير ولو تطورت البشرية؟ عندما تقولون أن الربا حرام وأكل الربا يؤكل الحرام.لايجادل أي مسلم.ولكن عندما أرى الناس المساكين والعمال والموظفيين يقترضون من أجل المسكن لهم ولابنائهم.وأرى فيهم ناس متدينيين ودوو خصال حميدة.تقولون أنهم يتعاملون بالحرام.هل أنتم متيقنون مما تقولون؟ثم تعرفون الضرورة بالموت او الهلاك الى غير ذلك.هل يستطيع أي فقيه أو عالم يمتنع عن الاضحية اليوم؟ .هل يوجد في تاريخ المسلمين فقير لم يجد بقعة ليبني كوخا صغيرا؟ او منعه سلطان من البناء؟ لاأعتقد..اما اليوم فتعلمون كيف تبنى المساكن.

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M