أهل الظاهر ليسوا سطحيين وأهل المقاصد ليسوا عقلانيين.. (زكاة الفطر طعاما أو نقدا.. نموذجا)

24 يونيو 2017 15:05
وقفات مع طائفة القرآنيين أو أصحاب كفاية القرآن (ج1)

هوية بريس – د. رشيد بنكيران

يعد في لسان المتشرعة (العلماء والدعاة..) مصطلح السطحية ومثله الحرفية من المصطلحات التي يراد به ذما وقدحا لمن وُصف بها، فهي تعني أن صاحبها قليل الفهم، ضعيف العقل، ويقف عند حدود الحروف والمباني ولا يسبر أغوار الكلمات واستخلاص المعاني.

وفي مقابل هذا المصطلح تجد مصطلح العقلانية ومثله أفراخ المعتزلة من المصطلحات التي تستعمل في قدح وذم من أفرط في استعمال العقل في غير محله، وأعطاه سلطة أعلى من سلطة النص الشرعي وحكّمه فيه، وجعل العقل هو القاضي والنص الشرعي هو الشاهد، وللقاضي قبول الشاهد أو إلغائه.

وإذا كان مصطلحان “السطحية والعقلانية” مذمومين عند أهل الشرع بالاعتبار آنف الذكر، فإن لفظي ظاهر النص الشرعي ومقصده مقبولان، فالأول منهما يراد به العمل بما دل عليه المعنى الظاهري من اللفظ والتزامه بعدما فُهمت دلالته فهما سليما من حيث الوضع، والثاني يراد به العمل بمقصد النص وحكمته بعدما تحرر المعنى المراد من اللفظ وتعذر الالتزام بظاهره لمعارض أقوى، وأهْلُهما معاً ممدوحان محمودان، ولا ينبغي أن يعيب أهل الظاهر على أهل المقاصد، ولا أهل المقاصد على أهل الظاهر، ولكل فئة منهما سلف من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، فلدينا سلفية ظاهرية كما لدينا سلفية مقاصدية.

ومن الأمثلة التي تشهد لهاتين السلفيتين حديث الصلاة في بني قريظة، ففي الصحيحين واللفظ للبخاري عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم لَنَا لَمَّا رَجَعَ مِنَ الأَحْزَابِ: «لاَ يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلاَّ فِى بَنِى قُرَيْظَةَ». فَأَدْرَكَ بَعْضُهُمُ الْعَصْرَ فِى الطَّرِيقِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لاَ نُصَلِّى حَتَّى نَأْتِيَهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نُصَلِّى لَمْ يُرَدْ مِنَّا ذَلِكَ. فَذُكِرَ لِلنَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنْهُمْ. وفي لفظ مسلم: فَتَخَوَّفَ نَاسٌ فَوْتَ الْوَقْتِ فَصَلُّوا دُونَ بَنِى قُرَيْظَةَ. وَقَالَ آخَرُونَ لاَ نُصَلِّى إِلاَّ حَيْثُ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِنْ فَاتَنَا الْوَقْتُ. قَالَ: فَمَا عَنَّفَ وَاحِدًا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ.

ومحل الشاهد من الحديث أن الصحابة -وهم خير الناس وقدوتهم- انقسموا في الاستجابة إلى الأمر النبوي الصريح إلى فئتين؛ فئة التزمت ظاهر النص كما جاء الأمر، وأخرى التزمت معنى النص ومقصده لمعارض أقوى لديها، يقول ابن قيم الجوزية في كتابه القيم إعلام الموقعين: “فاجتهد بعضُهم وصلَّاها في الطَّريق، وقال: لم يُرِدْ منا التأخير، وإنما أراد سُرعة النهوض، فنظروا إلى المعنى، واجتهد آخرون وأخّرُوها إلى بني قريظة فَصَلّوْها ليلًا، نَظَروا إلى اللفظ، وأولئك سَلَفُ أهل الظاهر، وأولئك سلف أصحاب المعاني والقياس”.اهـ، وصاحب الشرع أقرّ كلا السلفيتين، السلفية الظاهرية والسلفية المقاصدية، يقول النووي في شرح مسلم: “ففيه (أي في الحديث) دلالة لمن يقول بالمفهوم والقياس ومراعاة المعنى، ولمن يقول بالظاهر أيضا”.

ولاشك أن للعمل بظاهر النص الشرعي أو بمقصده مسالك يجب التزامها وشروطا يُفرض الاحتكام إليها، فالأمر ليس مرسلا ومشْرعا لكل سطحي جامد، ولا لكل عقلاني جريء، ولا يرجع الأمر كذلك إلى أذواق الناس ورغباتهم وما استحسنوه دون شاهد من الشرع، بل ذلك يجب أن يسير وفق ما قرر علم أصول الفقه؛ لأنه هو قانون الفهم السليم للنصوص الشرعية والتنزيل السديد لها، وهو الذي يجسد فعلا نظرية الفهم السلفي السليم ويبرز معالم الطريق لفهم السلف الصالح.

كانت مني هذه الكلمة المتواضعة لما رأيته من الشطط في استعمال ألفاظ شديدة لا تليق بأدب الخلاف المعتبر في مسألة إخراج زكاة الفطر نقدا، فمن الناس من رمى من تمسك بظاهر اللفظ النبوي وقالوا بإخراج زكاة الفطر صاعا من طعام بالسطحية والحرفية والجمود، وهذا لا يجوز، لأنهم أصحاب سلفية ظاهرية. وفي مقابل ذلك، فئة أخرى من الناس أطلقت أوصاف العقلانية والتجاسر على مقام النبوة لمن سعى نحو المقصد من اللفظ النبوي وقالت بإخراج زكاة الفطر نقدا لمعارض لديها أقوى، وهذا لا يجوز كذلك ، لأنهم أصحاب سلفية مقاصدية، وليسعنا ما وسع الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، وليس المراد من الكلمة أن نمنع مجال التخطئة والتصويب لأحد القولين في مسألة إخراج زكاة الفطر نقدا أو طعاما، بل المجال يبقى مفتوحا، ولكن بأدبه وشروطه.

والله أعلم

آخر اﻷخبار
2 تعليقان
  1. مجرد رأي خاص:
    إخراجها طعاما أولى لأنه يحقق هذفين تنشيط الإقتصاد بشراء الطعام و إخراج الزكاة فبهذا تواسي شخصين و تعينهما، على عكس المال لا تدري ما مصيره في الحلال أو في الحرام، و الله أعلم

  2. سلام الله عليكم
    جزيتم خير الجزاء على هذا التنبيه الجيد ، لكن عندي استفسار بخصوص الحديث الذي أوردته ، فمعلوم أن الحق لا يتجزأ و عليه فالفريقين من الصحابة ليس كلاهما على حق في اجتهادهم بحيث أن اقرار النبي صلى الله عليه و سلم لا يفهم منه أن الحق كان مع الفريقين و إنما الحق كان مع فريق و هم الذين صلوا العصر في وقته ، إذ تاخير الصلاة حتى يخرج وقتها منكر كبير و إثم جلل و البشير النذير لا يأمر بمنكر -حاشاه – ، و عليه فهل كلا الفريقين ( أهل الظاهر / أهل المقاصد ) على حق فيما اختلفوا فيه ؟
    و جزيتم خير الجزاء

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M