إنهم يكيدون كيْدًا!

09 يونيو 2016 03:51
الحْمُوضة.. بالثمن!!

ذة. لطيفة أسير

هوية بريس – الخميس 09 يونيو 2016

عبر التاريخ الإنساني كانت حاجة الإنسان للدين كحاجته للطعام والشراب بل أشد. فالحياة لا تستقيم أمورها ولا تكتمل نقائصها بغير التدبير الربّاني لكل شؤونها، وما التخبط الذي عاشته البشرية عبر تاريخها الإنساني إلا بسبب أنَفَتها واستكبارها عن هذا النهج الربّاني، وركونها لشيطان الهوى وسلطان العقل المادي المجرّد. لكن هل الخلل الذي نحياها اليوم في الدين أم التديّن؟

إذا فقهنا ماهية كلّ منهما تيسّر لنا فهم مكمن الخلل، ولن يستعصي علينا تخمين الحلول الممكنة.

فالدين في أصل تعريفه مرتبط بالذات الإلهية ومن مشكاتها تنبثق آليات العيش السليم في كل مناحي الحياة الاعتقادية والفكرية والخلقية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولهذا عرّفه الشيخ أبو الأعلى المودودي في كتابه “المصطلحات الأربعة” بأنه نظام (للحياة يذعن فيه المرء لسلطة عليا، ثم يقبل إطاعته واتباعه ويتقيد في حياته بحدوده وقواعده وقوانينه، ويرجو في طاعته العزة والترقي في الدرجات وحسن الجزاء ويخشى في عصيانه الذلة والخزي وسوء العقاب) ص:70.

ولأن مشارب الناس مختلفة وأنماط تفكيرهم متباينة، فقد جعل الله تعالى أمر الدين ربّاني المصدر، أساس تكاليفه اليُسر ورفع المشقة، وغاية أحكامه تحقيق العدل والمساواة وفق منهج إلهي لا يُحابي أحدا، ولا يُضام في قوانينه صغير أو كبير، ولا ذكر أو أنثى.

والدين الذي ارتضاه الله لعباده الإسلام، ولا يزايدنّ أحد علينا، لأن الفيصل كلام ربنا ﴿إنّ الدين عند الله الإسلام﴾ (آل عمران:19)، وقد اكتمل منذ العهد النبوي ﴿اليوم أكملت لكم دينكم وأتممتُ عليكم نعمتي ورضيتُ لكم الإسلام دينا﴾ (المائدة:3). وحيث علمنا مصدر الدين فمن الكفر توجيه أصابع الاتهام إليه، والقول بقصوره عن احتواء مستجدات كل عصر، أو اتهامه بالحيف أو الجور أو العنصرية، لأن كل ذلك مستحيل في حقّه سبحانه، فهو الحكم العدل، العالم بدقائق خلقه وما يصلحهم حالا ومآلا. وهو حقيقة ثابتة وليس وهْما كما يدّعي أتباع النظرية الفرودية “إن الدين هو وهْم كانت البشرية بحاجة إليه في بداياتها وأن فكرة وجود الإله هو محاولة من اللاوعي لوصول إلى الكمال في شخص مثل أعلى بديل لشخصية الأب “، ولا أداة مطواعة بيد الساسة تدور في فلك مصالحهم حيث داروا كما يقول فولتير وروسو: (إن الدين من صنع الدهاة الماكرين، من الكهنة والقساوسة لعلاج أمراض المجتمع بكل حيلة). ولا (معرفة تكتسبها النفس المحدودة بجوهرها كروح مطلقة)، كما يدعي هيجل.

أمّا التديّن فهو كسب بشري يكشف مستوى تعاطي البشر مع هذه السلطة الإلهية بشكل إيجابي أو سلبي، يقول الدكتور عبد المجيد النجار (إن حقيقة الدين تختلف عن حقيقة التدين؛ إذ الدين هو ذات التعاليم التي هي شرع إلهي، والتدين هو التشرّع بتلك التعاليم، فهو كسب إنساني. وهذا الفارق في الحقيقة بينهما يفضي إلى فارق في الخصائص، واختلاف في الأحكام بالنسبة لكل منهما).

ومهما ارتقت البشرية سلم العلم وأبحرت في فضاءاته الفسيحة وسبرت أسرار الكون الرّحب، ستبقى حاجتها للدين قائمة وإلا انتكست روحانياتها وحادت عن جادة الصواب، يقول محمد فريد وجدي: (يستحيل أن تتلاشى فكرة التدين؛ لأنها أرقى ميول النفس وأكرم عواطفها، ناهيك بميل يرفع رأس الإنسان، بل إن هذا الميل سيزداد، ففطرة التدين ستلاحق الإنسان ما دام ذا عقل يعقل به الجمال والقبح، وستزداد فيه هذه الفطرة على نسبة علو مداركه ونمو معارفه).

لكن طبيعة الإنسان المتمردة تأبى إلا أن تخرق ثوب الدين فتُحدث في تدينها بدعا ليست منه في شيء، أو تنقلب على أحكامه بدعوى انتهاء تاريخ صلاحيتها. وهذه النفوس الخبيثة لم يخلُ منها زمن، ولا نجا من شرها عهد. ونحن بالمغرب للأسف ابتلينا بفرقة مارقة من العلمانيين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض ، وبين الحين والآخر تسمع لهم نعيقا وصياحا للمطالبة بتعديل ما قصُرت عن فهمه عقولهم السّاذجة. فتارةً يستهجنون التعدد ويطالبون بتجريمه، وتارة ينددون بالحجاب والنقاب باعتبارهما مظهرا من مظاهر الرجعية أو “الدعشنة”، بل لم تسلم من سمهم كتب السنة الصحاح وتطاولوا على أربابها عبر جرائدهم الصفراء، ولأنه لم يُتخذ أي إجراء صارم لزجرهم عن غيّهم، فقد طالت أعناقهم وزادت جرأتهم حتى تبنّت مؤسسة دستورية يُفترض فيها احترام دستور البلد، توصيات تدعو للمساواة المطلقة بين الجنسين في كل أمور الحياة بما فيها تحقيق المناصفة في الإرث، وهذه المؤسسة هي المجلس الوطني لحقوق الإنسان مع أنّ أساس نشأتها – ظاهرا – حماية حقوق الإنسان، وهي في الأصل تسعى للنيل من هذه الحقوق وزعزعة استقرار الوطن الذي آواها، فتتغاضى عن دستوره الذي أكد أن المساواة بين الرجل والمرأة يجب أن تحترم في إطار الثوابت الدينية والوطنية للمملكة كما دلّ على ذلك الفصل 19 من الدستور، -وغير خافٍ على كل مسلم أبيّ أن الفرائض مسطرة بموجب تشريع ربّاني وأنها توقيفية وليست توفيقية-.

وتنامت في الفترة الأخيرة صور تضييق الخناق على كل صوت حكيم، حيث تمت إقالات تعسفية لمجموعة من أئمة وخطباء المساجد بدعوى التحريض على العنصرية تارة، والتشجيع على العنف تارة أخرى، مع أنها في الأصل ادعاءات لا أصل لها، وإنما هي استجابة لضغط تلك الأصوات الناعقة ضد كل ما هو ديني، و التي تسعى بكل ما أوتيت من خبث أن تشُقّ عصا الأمن الروحي الذي يحياه المغرب من عقود. وقد سبق هذه الإقالات أوامر رسمية تدعو لفصل ما هو ديني عما هو سياسي وذلك بالدعوة إلى منع “جميع المشتغلين في الحقل الديني، من ممارسة أي نشاط سياسي، أو اتخاذ موقف يكتسي صبغة سياسية أو نقابية، أو القيام بأي عمل من شأنه وقف أو عرقلة أداء الشعائر الدينية في المساجد“.

لكن ما يثير بعض الأمان بمغربنا مقارنة مع الإسفاف الذي وصلت إليه بعض الدول العربية كتونس ومصر، أنّ السلطات الرسمية رغم صمتها على الكثير من التجاوزات مازال هامش حرية التدين قائما، ومازال المسلم قادرا على إظهار تدينه شكلا ومضمونا بكل حرية. ولو تناولنا المؤشرات التسع التي اعتمدها المركز المغربي للدراسات والأبحاث المعاصرة، برسم موسم 2011 /2012 وهي (المساجد ورمضان والحج والإفتاء والقرآن والتعليم الديني والوقف والتمويلات البديلة ثم الإعلام الديني)، يمكن أن نقول أن الكثير من هذه المؤشرات مازالت صامدة ضد هذا التيار اللاديني، فمساجدنا مازالت تتناسل كل حين، حتى أن مدينة وجدة المغربية احتلت مؤخرا المرتبة الأولى في المغرب وإفريقيا و المرتبة الثانية عالميا بعد مدينة إسطنبول التركية، حيث تجاوز عدد المساجد بعمالة وجدة أنكاد 400 مسجدا من بينها أكثر من 300 داخل المجال الحضري.

ومازال القانون المغربي يجرّم الإفطار العلني في رمضان حيث نصّ الفصل 222 من القانون الجنائي المغربي على ما يلي: (كل من عُرف باعتناق الدين الإسلامي، وتجاهر بالإفطار في رمضان، في مكان عمومي، دون عذر شرعي يعاقب بالحبس من شهر إلى ستة أشهر وغرامة من اثني عشر إلى مائة وعشرين درهمـــــــا). كما تمّ فرض عقوبات ضد كل من ثبت في حقه تطاول على الذات الإلهية أو الإساءة للأنبياء والرسل بعقوبة حبسية من سنة لخمس سنوات وبغرامة مالية تتراوح بين 20 ألف و 200 ألف درهم مغربي.

 واحتل المغرب في السنوات الأخيرة المراتب الأولى في مسابقات القرآن الكريم العالمية، وهذا التفوق لم يأتِ عبثا بل هو كما قال عبد الواحد بنداود مدير التعليم العتيق بوزارة الأوقاف والشؤون الاسلامية المغربية (يعود بالإضافة إلى حب المغاربة للقرآن، إلى انتشار عدد كبير من “الكَتَاتيب” القرآنية. حيث بلغ عدد طلاب دور القرآن وفقا لإحصائيات الوزارة في سنة 2012 حوالي 429 ألف، 148 ألف في العالم القروي و281 ألف في العالم الحضري. أما عدد الكتاتيب وأماكن تحفيظ القرآن فتصل إلى حوالي 29 ألف مركز”. وإذا علمنا أنّ أغلب دور القرآن يُنفَق عليها من قبل المحسنين وجمعيات المجتمع المدني، تأكد لدينا أن الاهتمام بالقرآن هو قناعة ذاتية للشعب المغربي تجعلنا نستشعر أن تلك الأصوات الشاذة لم تكن لتُسمع لولا أنّ الإعلام الضّال المضلّ بكل أطيافه يفسح لها المجال بدعوى حرية التعبير!!! فهم كالبعوض “يضرب ويهرب ويضرّ ويفرّ فلا يوصل إليه”.

كما بزغ نجم المغاربة وتفوقهم في مجال التأطير الديني، حيث أصبح المغرب يصدر الأئمة إلى المشرق وخصوصا الى دول الخليج حيث استقبلت دولة الامارات السنة الماضية أكثر من ألف إمام. وكذا إلى دول إفريقية متعددة.

أما التعليم فهناك سعي حثيث لتغيير المناهج الدينية بعد صدور الأمر الملكي بهذا التعديل، ومازالت معالم هذا التغيير تكتسيها الضبابية.. وإن غدا لناظره قريب!

 ما يثير العجب بعد هذا السرد الموجز لواقع التدين بالمغرب، أن تبصر صاحب المنهج القويم في عصرنا يمضي مُنكِّس الرأس، متذمّرا في صمتٍ.. وأرباب الفسق والفجور يجاهرون بفحشهم ويناضلون لترسيخ شذوذهم، ويُسَخرون كل الوسائل لتثبيت انحرافاتهم !!فالمؤسسات الدينية التي عُهد إليها بالسهر على “الأمن الروحي” للمغاربة كالمجالس العلمية والرابطة المحمدية، وبعض الأحزاب الإسلامية، التزمت الصمت في الفترة الأخيرة ولم تصدر أي بيان تردّ فيه على الدعاوى الباطلة المطالبة بتغيير أحكام الإسلام وإعادة النظر في شرائعه التي عفا عنها الزمن -كما زعموا-.

هذا الصمت يا علماءنا الكرام لا يجوز، لأن الشعب المغربي يتمنى أن يسمع غضبتكم لله، أن يستشعر غيرتكم على محارمه، أن يسمع توجيهاتكم وهو يبصر الأفعى الشيعية تتحرك في صمت ترقبا للانقضاض على عقيدته وزعزعة أمنه. أن يرى انخراطكم في كل شأن من شؤون الحياة، لأن الإسلام دين الحياة.. والحياة تدور فصولها في كل مكان يحيط بكم وليس في المساجد فقط، ليس في دور القرآن فقط، ليس في المحاضرات اليتيمة التي تقام بين الحين والآخر. لا تجعلوا صوت الباطل يعلو ويعلو فتموتوا بغيظكم حين يستعصي عليكم إخراسه، واعلموا -وأنتم من أهل العلم- أن قوة الأمة في ثقتها بما لديها من منابع القوة، وقدرتها على إبصار عيوبها والعمل على إصلاحها، كما يقول أحمد أمين: (صوتانِ لا بد أن يرتفعا في كل أمة ويجب أن يتوازنا حتى لا يطغى أحدهما على الآخر: صوت يبين عيوب الأمة في رفق وهوادة، ويستحث على التخلص منها والتحرر من قيودها، وصوتٌ يظهر محاسنها ويشجع على الاحتفاظ بها والاستزادة منها. والصوتان معا إذا اعتدلا كوناّ موسيقى جميلة منسقة تحدو الأمة إلى السير إلى الأمام دائما) (فيض الخاطر؛ ص:62).

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M