استرتيجية الطب الوقائي في الإسلام (سبْقٌ حضَاريِ)

14 أبريل 2020 17:42

هوية بريس – محمد الحفظاوي (الكلية المتعددة التخصصات-جامعة مولاي اسماعيل/الرشيدية)

  1. تشكيل العقلية العلمية:

لقد أحدث الإسلام تحولات عميقة في كيان الإنسان الجاهلي كله، فتنزلت مضامين الوحي الإلهي تخاطب في الإنسان عقله وروحه وجسده، قصد إعداده وتأهيله لأداء مهمة الخلافة ومهمة العبادة في هذا الوجود. ونجمل أهم النقلات التي تمت من خلال هذه التحولات الشاملة في ما يلي:

1-النقلة التصورية الإعتقادية: فلا معبود بحق إلى الله الرب الخالق، وكل ما عدا الله من المعبودات أي”الطاغوت” بالاصطلاح القرآني؛ لاغ في حساب الشرع، والإنسان أمامه حياة الآخرة فلابد من الإعداد لها. إذن فهناك موجد لهذا الكون، هو المستحق للعبادة سبحانه، وهناك آخرة لأجلها يعمل في هذه الدنيا، وذلك من خلال شرع تدعو أحكامه إلى الأخذ بالأسباب، واعتبار الأهداف في الحسبان.

2-النقلة المعرفية: حيث دعا الإسلام إلى العلم على أساس الإتيان بالدليل والبرهان:﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ {العلق/1} ﴾، ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ {الزمر/9}﴾،

﴿قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ {البقرة/111} ﴾، ووقف بكل صرامة في وجه الظن والهوى، وما يتأتى منهما.

3-النقلة المنهجية: تحول الوحي بالعقل من واقع الفوضى والخرافة، إلى المنهج العلمي الذي يرتكز على “مبدأ العلية القائل أن لكل شئ سببا، وهو من المبادئ العقلية الضرورية،لأن الإنسان يجد في صميم طبيعته الباعث الذي يبعثه على محاولة تعليل ما يجد من أشياء، وتبرير وجودها باستكشاف أسبابها، وهذا الباعث موجود بصورة فطرية في الطبيعة الإنسانية”[1]، فجاء الوحي ليبعثه من غياب ويطرح الإجابات الكافية الشافية، فصاغ من العقل الإنساني عقلا علميا تعليليا مقاصديا، لا مكان عنده للمصادفة في هذا الوجود، ولا مجال لانتفاء الأسباب؛ فما من شئ في هذا الوجود إلا وله حكمة وعلة وسبب، فالعلة والمعلول والسبب والمسبب والمقدمة والنتيجة سنة ربانية.

من هذا المنطلق فالأمراض التي تصيب الإنسان لابد لها من أسباب، ولمقاومة هذه الأمراض لابد من معرفة أسبابها، لأن بإزالة الأسباب تزول الأمراض ويصير الإنسان سليما معافى، لانتظام الترابط بين الأسباب والمسببات في الجسم. وهذا مايدعو إليه الهدي النبوي، و يشهد بعظمة التشريع الإسلامي؛ إذْ أنه في الوقت الذي كانت تخيم فيه الجهالة الطبية على العالم في ذلك الوقت، كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحث الناس على الأخذ بالأسباب؛ بالتداوي والعلاج.  فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا أَنْزَلَ اللَّهُ دَاءً إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً»[2]. ففيه إباحة التداوي والتشريع للعناية بالطب. إذ أن الله سبحانه وتعالى حين قدر الداء،قدر له الدواء، وأن المريض إذا تناول هذا الدواء متبعا نصائح الطبيب فإنه يبرأ ويشفى بإذن الله. وهذا التشريع النبوي أسس لعلم الطب بإشراف أطباء مسلمين مشهورين؛مثل: الحارث بن كلدة، والرازي، والزهراوي، وابن سينا، وبناء المستشفيات في الحضارة الإسلامية، في الوقت الذي عاشت أوروبا ظلمات طب كهنوتي قاتل، يورث الأسقام والآلام أكثر مما يحقق الشفاء للأنام.

  1. الحجر الصحي تشريع طبي وقائي:

للإسلام رؤية استراتيجية في حفظ وحماية الإنسان مما يسبب له الآلام والأسقام والأحزان، فحرم على المكلف أنواعا من الأطعمة والأشربة نظرا لما فيها من أضرار على الجسم البشري، ووضع التشريع الحجر الصحي،فقد تظهر أمراض معدية كما هو الحال في وباء”كورونا”، فعالج الإسلام هذا الوضع، بالحجر الصحي، والسعي للبحث عن الدواء، وهذا يقتضي تقوية المؤسسات الطبية وتفعيل المختبرات الطبية وتشجيع الأطباء وتحفيزهم دائما، من باب الإعداد القبلي حتى لايتفاجأ المجتمع بالكارثة، وهذه نصوص دالة على مسألة الحجر الصحي وتجنب أسباب المرض:

قال الله تعالى:﴿ وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ {البقرة/195}﴾.“وقوع فعل( تُلقوا) في سياق النهي يقتضي عموم إلقاء باليد للتهلكة، أي كل تسبب في الهلاك عن عمد فيكون منهيا عنه محرما، مالم يوجد مقتض لإزالة ذلك التحريم “[3].

ففي الآية دلالة على النهي عن التسبب في إتلاف النفس،وتحريم إلقاء المرء نفسه إلى التهلكة. وتتجلى مظاهر هذا التسبب المهلك، في عدم احترام مقتضيات الحجر الصحي، وإحداث التجمعات، وعدم ترك مسافة الأمان بين الأشخاص، وعدم استعمال اللثام(مايسمى بالكمامات وهي استعمال غير صحيح لأن الكمامة تستعمل للحيوان)، وإهمال تطوير وتحديث وتقوية الطب، بكوادره ومختبراته ومؤسساته.

-وعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا سَمِعْتُمْ بِالطَّاعُونِ بِأَرْضٍ فَلاَ تَدْخُلُوهَا، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلاَ تَخْرُجُوا مِنْهَا»[4]. فيه التشريع للحجر الصحي منذ عصر النبوة، أي منذ خمسة عشر قرنا. ففيه التوجيه في حالتين:

-الحالة الأولى: بالنسبة للجماعة الموجودة في المنطقة الموبوءة بالمرض المعدي، فتمنع من الخروج من المنطقة الموبوءة إلى منطقة أخرى حتى لاتنتقل العدوى إلى المناطق الأخرى فينتشر المرض ويعم كثيرا من الناس، والشريعة تسعى لدرء المفاسد وتقليلها.

-الحالة الثانية: بالنسبة للجماعة التي هي خارج المنطقة الموبوءة بالمرض المعدي، فهؤلاء يمنعون من الدخول إلى المنطقة الموبوءة حتى لاتنتقل العدوى إليهم.

وهكذا وضع دين الإسلام قواعد الحجر الصحي، من باب تقليل المفسدة كي لاتنتشر،وتعجز المؤسسات الطبية عن استيعاب المشكلة، ويعم الهلاك، وهذا من السياسة الشرعية للهدي النبوي، تعكس السبق الحضاري للإسلام، ولكن أكثر الناس لايفقهون.

-وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الطَّاعُونُ شَهَادَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ»[5]

-وعَنْ عَائِشَةَ، زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ… أَنَّهَا سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الطَّاعُونِ، فَأَخْبَرَهَا نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّهُ كَانَ عَذَابًا يَبْعَثُهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، فَجَعَلَهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، فَلَيْسَ مِنْ عَبْدٍ يَقَعُ الطَّاعُونُ، فَيَمْكُثُ فِي بَلَدِهِ صَابِرًا، يَعْلَمُ أَنَّهُ لَنْ يُصِيبَهُ إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ، إِلَّا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ الشَّهِيدِ»[6].

ففي الحديثين أجر الصابر على الطاعون. بشرط أن يكون غير منزعج ولاقلق، بل خاضعا لأمر الله راضيا بقضائه.

-وخرج عمر بن الخطاب إلى الشام أي فلسطين والأردن وحمص ودمشق،سنة سبع عشرة يتفقد فيها أحوال الرعية وأمراءهم، وهم خالد بن الوليد ويزيد بن أبي سفيان وشرحبيل بن حسنة وعمرو بن العاص، فأُخبر بأن بلاد الشام قد وقع بها وجع الطاعون، وبعد قيامه بمشاورات مع الصحابة، قررالرجوع وعدم الإقدام على الدخول إلى الشام،فقال له أبوعبيدة:”أفرارا من قدر الله؟”فقالعمر:”لو غيرك قالها ياأباعبيدة؟نعم، نفر من قدر الله إلى قدر الله”…وجاء عبد الرحمان بن عوف،فقال:”إن عندي في هذا علما فذكر الحديث(حديث الطاعون رقم:5728)،فحمد الله عمر ثم انصرف”[7]. وهذه الواقعة تذكرنا بما وقع زمن النبوة؛ فعَنْ ابْنِ أَبِي خُزَامَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ رُقًى نَسْتَرْقِيهَا وَدَوَاءً نَتَدَاوَى بِهِ وَتُقَاةً نَتَّقِيهَا هَلْ تَرُدُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ شَيْئًا؟ فَقَالَ: «هِيَ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ»[8].

في هذا الأثر استعمل عمر الحذر وأثبت القدر معا،فعمل بالدليلين ؛التسليم للقضاء ،والاحتراز من الهلاك، واجتناب أسبابه،فوافق في اجتهاده وتدبيره القرآن والسنة. وهذا يتطابق مع القاعدة الفقهية(( تصرف الإمام في الرعية منوط بالمصلحة  ))قال القرافي:”لايتصرف من ولي ولاية الخلافة فما دونها إلى الوصية؛ إلا لجلب مصلحة أو درء مفسدة، فكل من ولي ولاية فهو معزول عن المفسدة”[9].قال مصطفى الزرقا في شرح هذه القاعدة:”أي إن نفاذ تصرف الراعي على الرعية ولزومه عليهم،شاؤوا أو أبوا، معلق ومتوقف على وجود الثمرة والمنفعة في ضمن تصرفه، دينية كانت أو دنيوية. فإن تضمن منفعة ما وجب عليهم تنفيذه، وإلا رد، لأن الراعي ناظر، وتصرفه حينئذ متردد بين الضرر والعبث وكلاهما ليس من النظر في شيء. والمراد بالراعي: كل من ولي أمرا من أمور العامة، عاما كان كالسلطان الأعظم، أوخاصا كمن دونه من العمال”[10]. وهنا نرى من الواجب أن ننوه بماقام به سلطان المملكة المغربية، جلالة الملك محمد السادس من عزمة راشدة فاستنفر جميع المؤسسات وأنشأ صندوق كورونا للتضامن الوقائي والعلاجي، لدرء شر هذا الوباء عن الأمة المغربية، حفظه الله، ووفقه لكل خير، وحفظ الله الأمة المغربية والأمة العربية والأمة الإسلامية والمجتمع الإنساني. وأملنا في أن يفعل جلالته صندوق الزكاة ، فقد ظهرت الحاجة إليه، خاصة لمابرزت الظواهر الاجتماعية القاسية، وانتشرت مشاهد الفقراء والمساكين وحالات البطالة على وسائل التواصل الاجتماعي.

ـــــــــــــــــــــــــــ

[1]-فلسفتنا”محمد باقر الصدر:261

[2] -أخرجه البخاري في صحيحه،كتاب الطب باب ماأنزل الله داء إلا أنزل له شفاء،حديث رقم:5678.

[3] -التحرير والتنويرلمحمد الطاهر بن عاشور:1/214،215,

[4] -أخرج البخاري في صحيحه، كتاب الطب،بابمايذكر في الطاعون،حديث رقم:5728.

[5] – أخرج البخاري في صحيحه، كتاب الطب،بابمايذكر في الطاعون،حديث رقم:5732.

[6] – أخرج البخاري في صحيحه، كتاب الطب،بابمايذكر في الطاعون،حديث رقم:5734.

[7] -عمدة القاري لبدر الدين العيني:14/707،708.

[8] -أخرجه الترمذي في سننه،كتابالطب،بابماجاء في الرقى والأدوية، الحديث رقم:2065.قال الترمذي:هذا حديث حسن صحيح،وضعفه الألباني.

ن.م:5/346.-[9]

 شرح القواعد الفقهية لمصطفى أحمد الزرقا:311.طبع دار القلم،دمشق، طبعة ثانية:1409هـ-1989 م. -[10]

آخر اﻷخبار
2 تعليقان
  1. مقال في الصميم،يقارب الموضوع بطريقة منهجية ، تؤسس لعقلانية متنورة، تقدم الدين بمايغرس الاعتزاز بقيمه،ويزيل عقد المذبذبين،وينشر التوعية بالسبق الحضاري للاسلام في نشر الأمن الصحي والطب الوقائي، في وقت يعامل فيه الإسلام بالتشويه، والمؤامرات، والترهيب، مع تقديم توجيهات استراتيجية للنهوض بالشأن الاجتماعي والطبي، وتفعيل صندوق الزكاة.تحياتي دكتور

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M