الأطروحة الأمازيغية في المغرب بين المشروع الكولونيالي والرهان الوطني

05 يناير 2016 00:32
الرموز العرقية بديلا للرموز الوطنية.. من العلمانوية العرقية إلى مشروع التنصير العرقي

د. إدريس جنداري

هوية بريس – الإثنين 04 يناير 2016

مقدمة منهجية

تسعى هذه الدراسة إلى مقاربة موضوع شائك في الثقافة المغربية؛ موضوع يتداخل فيه؛ ما هو سياسي بما هو سوسيولوجي وثقافي؛ وهذا ما يعقد مهمة الباحث؛ بشكل أكبر؛ ويفرض الكثير من الحيطة والحذر؛ منهجيا وكذلك فكريا.

لقد حضر موضوع الأمازيغية ضمن مجموعة من الأبحاث والدراسات؛ ونحن لا نزعم السبق في مقاربته؛ لكن معظم هذه الأبحاث لا تخرج؛ في الغالب؛ عن سياقين اثنين:

– السياق السوسيولوجي/الاثنوغرافي؛ الذي يركز في الأمازيغية على البعد الثقافي والاجتماعي؛ ويزعم رواد هذا السياق؛ أن الأمازيغية في المغرب؛ تتجاوز كونها عنصرا من بين عناصر أخرى مشكلة للنسق الاجتماعي والثقافي المغربي ( العروبة؛ الإسلام؛ البعد الإفريقي والأندلسي)؛ إلى كونها خصوصية مستقلة بذاتها. وهكذا نصل؛ في الأخير؛ إلى صياغة أسطورة النقاء العرقي.

-السياق السياسي/الإيديولوجي؛ وقد ارتبط هذا السياق؛ في البداية؛ ببعد ثقافي؛ ومن هنا جاءت تسمية (الجمعيات الثقافية الأمازيغية) لكن؛ الاختراق الذي حققته الأطروحة الكولونيالية لهذا السياق؛ انتقل به إلى مستوى المطلب السياسي؛ حيث حضرت الأمازيغية كقضية عرقية؛ ترتبط بجزء من سكان المغرب؛ وذلك في مقابل المنظور الوطني الذي يتعامل مع الأمازيغية كقضية وطنية؛ تهم جميع المغاربة.

تسعى هذه الدراسة؛ إذن؛ إلى ممارسة نوع من القراءة التحليلية النقدية للسياقين معا؛ وذلك باعتماد التحليل السوسيولوجي والسياسي؛ مع الاستفادة؛ طبعا؛ من المقاربة التاريخية؛ ما دامت المسالة الأمازيغية قد حضرت؛ في السياقين معا؛ كمعطى تاريخي؛ في سعيها إلى توظيف معطيات التاريخ كجهاز نضالي؛ في الصراع ضد باقي مكونات الثقافة المغربية.

توظف الدراسة محورين رئيسيين:

  • المحور الأول؛ خصصناه للسياق الكولونيالي؛ باعتباره قد وظف الأمازيغية كأداة لتفكيك أوصال المجتمع؛ ومن ثم تفكيك أوصال الدولة في المغرب؛ وذلك من خلال توظيف البحث السوسيولوجي والاثنوغرافي تحت مسمى السوسيولوجيا الكولونيالية؛ لتحقيق أهداف عسكرية/استعمارية.
  • المحور الثاني؛ خصصناه للسياق الوطني الذي اعتبرناه بديلا للسياق الكولونيالي؛ باعتبار أن الأمازيغية قبل أن تكون قضية عرقية؛ فهي بالأساس مكون أساسي من مكونات الهوية المغربية؛ وقد أثبتنا؛ عبر التحليل السياسي الدقيق؛ التطور الذي تعرفه الأمازيغية ضمن النسق السياسي المغربي؛ منذ خطاب أجدير؛ وانتهاء بترسيم الامازيغية كلغة ثانية في دستور 2011.

ومن خلال المحورين معا؛ فقد كان الهاجس العلمي هو الموجه لبوصلة التحليل؛ لكن إذا حضرت ذاتية الباحث؛ فهذا يساير منطق العلوم الإنسانية؛ التي لا تولد بحوثها إلا كنتيجة لإشكالية تسيطر على الباحث وتوجه مسار البحث.

أما بخصوص الإشكالية التي وجهت بحثنا؛ فإننا نصرح؛ منذ البداية؛ أن هاجسنا المحوري؛ هو المساهمة في الحفاظ على الوحدة الوطنية؛ في عالم متماوج توجهه أجندةاجندة النيوكولونياليةح التي أ نيوكولونيالية مفضوحة؛ تسعى إلى استثمار التعدد العرقي واللغوي؛ كآلية لتفكيك وبلقنة الدول؛ لتحقيق أهداف استراتيجية للقوى الرأسمالية الكبرى في العالم.

  ولعل هذا؛ هو أهم وأعظم درس تلقناه في مدرسة الحركة الوطنية المغربية؛ التي صاغت فكرة الوحدة الوطنية وناضلت في سبيلها. ولذلك؛ فإننا تعلمنا ألا نميز بين عروبة علال الفاسي ومحمد بن الحسن الوزاني وبين أمازيغية عبد الكريم الخطابي وموحا وحمو الزياني؛ لأن ما يشرفنا؛ كمغاربة؛ هو التاريخ النضالي المشترك بينهم جميعا؛ هذا التاريخ الذي مكن المغاربة من دق آخر مسمار في نعش الحركة الاستعمارية؛ مباشرة بعد صدور الظهير البربري.

  • المشروع الاستعماري في المغرب: المختبر والمدفع في خدمة البلقنة والتقسيم

كانت بداية اختراق التماسك السياسي والاجتماعي للمغرب؛ مع دخوله ضمن الحسابات الاستعمارية خلال مرحلة القرن التاسع عشر؛ وكان أول ما استهدفه الاستعمار؛ هو تلك الوحدة والتماسك بين العرب والأمازيغ؛ والتي تشكلت تاريخيا وحافظت على وحدة واستقلال المغرب؛ في مواجهة التحديات الدولية الكبرى.

وقد كان المدخل الأساسي لبسط الهيمنة الاستعمارية على المغرب؛ هو محاولة زعزعة مقومات هذه الوحدة؛ عبر زرع بذور الشقاق بين العرب والأمازيغ؛ وذلك بناء على مخططات استعمارية؛ تم التركيز فيها على فهم وتحليل البنية الاجتماعية والثقافية للمجتمع المغربي؛ اعتمادا على دراسات سوسيولوجية واثنوغرافية؛ كان الغرض منها؛ محاولة اختراق البنية؛ لزرع فيروسات استعمارية؛ تحول الجسد المعافى والمتماسك إلى جسد عليل ومتهالك.

ولعل؛ ذلك هو ما جسدته السوسيولوجيا الكولونيالية؛ كتخصص ارتبط بالمخططات الاستعمارية؛ واستفاد كثيرا من الدراسات الاستشراقية؛ التي حاولت في وقت مبكر؛ فهم وتحليل بنية المجتمعات غير – الأوربية؛ باعتماد منظار المركزية الأوربية eurocentrisme.

وضمن هذه المجتمعات؛ حضر المغرب الذي كان حظه وافرا من الدراسة الاثنوغرافية؛ بشكل خاص؛ وذلك لأن المنظور الاستشراقي؛ مند البداية؛ كان يتعامل مع المجتمعات غير-الأوربية؛ ومنها المغرب؛ كمجتمعات ما قبل- حداثية؛ أو بالأحرى؛ باعتبارها مجتمعات تجسد بنية الجماعات البدائية؛ التي حللها ليفي شتراوس في كتابه الشهير la pensé sauvage . (1)

وهكذا؛ تم تهييء جيش من السوسيولوجيين؛ الذين وظفوا بإتقان أطروحات السوسيولوجيا الكولونيالية؛ وخصوصا تلك الأطروحة التي تقسم المغرب؛ إلى أراضي المخزن/العرب وأراضي السيبة/البربر. ولذلك؛ نجد هذه الدراسات تركز مجهوداتها؛ على دراسة بنية القبيلة الأمازيغية؛ من حيث طبيعة العلاقات الرابطة بين مكوناتها؛ ومن حيث طبيعة تشكل الزعامات السياسية؛ وكذلك من حيث طبيعة النسق القيمي الذي يؤطرها؛ في علاقة بالمكون الديني/الإسلامي؛ بشكل خاص…. بالإضافة إلى مجموعة من القضايا السوسيولوجية الدقيقة جدا؛ والتي لها علاقة مباشرة بتسهيل مهمة السيطرة العسكرية على المجال.

ولذلك؛ يمكن التأكيد أن المشروع الاستعماري في المغرب؛ ارتكز بالأساس على البحث السوسيولوجي والإثنوغرافي؛ وكان الهدف هو تسهيل مهمة الاكتساح العسكري؛ من خلال التحكم في البنية الاجتماعية؛ وتحويلها من عامل معيق إلى عامل مساعد؛ لبسط الهيمنة الاستعمارية على المجال؛ بأقل مجهود وأقل تكلفة.

فحسب الباحث محمد مصباح؛ ترجع جذور المسألة الأمازيغية في المغرب؛ إلى بداية القرن الماضي؛ مع جهود الاستعمار الفرنسي عبر البعثة العلمية؛ ومعهد الدراسات البربرية في باريس والرباط؛ حيث كان يصدر أعدادا من مجلة ” الأرشيف البربري” (1915-1918)؛ ثم مع مجلة “هسبريس” التي صدرت بداية من العام 1921 والتي كان يعدها ضباط فرنسيون ومستشرقون؛ بالإضافة إلى انطروبولوجيين وسوسيولوجيين فرنسيين.

ويضيف الباحث أن المسألة الأمازيغيبة انطلقت فعليا مع (ميشو بلير) الذي يمكن اعتباره أول من دعا إلى توظيف ثنائية العرب/البربر؛ والتي أصبحت فيما بعد دراسة مؤطرة لجميع الدراسات الكولونيالية في المغرب. وتلقفها بعده روبير مونتاني؛ الذي كان ضابطا في المخابرات السياسية بالبحرية؛ ودرس ظاهرة الزعامات عند القبائل الأمازيغية في كتابه الشهير ” البربر والمخزن”. (2)

ومن المعلوم؛ أن السوسيولوجيا الكولونيالية؛ في المغرب؛ قد ركزت على هذه الثنائية الشهيرة؛ بربر/مخزن؛ كمدخل رئيسي لبناء نسق إيديولوجي متكامل؛ يخدم الأطروحة الاستعمارية؛ في الأخير. فإذا كان المخزن؛ حسب التصور الكولونيالي؛ قد استطاع أن يمد نفوذه وسلطته على السهول المحيطة بالمدن والعواصم؛ فهو لم يستطع تحقيق ذلك في علاقته بقبائل السيبة؛ حيث استمرت المعارك والاقتتال؛ لقرون؛ من دون أن تتحقق وحدة الدولة المغربية.

ولذلك؛ تستخلص السوسيولوجيا الكولونيالية؛ بتسرع وببساطة؛ أن المغرب لم يكن يوما؛ دولة مركزية تبسط سيادتها على كامل امتدادها الترابي؛ بل كان هناك مكونان سياسيان؛ جمع بينهما الصراع والتناحر؛ هناك بلاد المخزن وبلاد السيبة؛ بلاد السهول وبلاد الجبال؛ بتعبير آخر؛ هناك العرب وهناك البربر؛ العرب وافدون ومستعمرون؛ والبربر هم السكان الأصليون للبلاد؛ والواجب يفرض على فرنسا؛ بلاد الحرية والأنوار؛ أن تتحمل مسؤوليتها التاريخية؛ وأن تعمل على تحرير البربر من قبضة العرب؛ وربطهم بالمتر بول الفرنسي مباشرة؛ ليكونوا في خدمة المشروع الاستعماري؛ بعد أن كان مؤكدا أنهم سيكونون خصوما لهذا المشروع.

لقد كان المدخل الرئيسي؛ لفرض الهيمنة الاستعمارية على المغرب؛ هو العمل على تقسيم البلاد إثنيا؛ استعدادا لتقسيمها ترابيا؛ لتسهيل السيطرة الشاملة عليها؛ في الأخير. وقد تداخل البحث السوسيولوجي/الإثنواغرافي بالتخطيط العسكري؛ لإنجاح هذه المهمة؛ لدرجة اختلاط الباحثين والعلماء بجنرالات العسكر؛ وهذا ما توحي به تسمية السوسيولوجيا الكولونيالية.

  • السياسة البربرية في المغرب من خلال تجربة المدارس الفرنسية – البربرية

  قامت السياسة البربرية في المغرب؛ على أساس تكريس ثنائية عرب/بربر؛ مخزن/سيبة؛ باعتبارها المدخل الرئيسي؛ لتقسيم المغرب إلى مجالين منفصلين؛ على المستوى الاجتماعي والثقافي؛ وكذلك على المستوى الترابي؛ وقد تم توظيف الانتماء العرقي؛ كعامل حاسم لتنفيذ هذه السياسة. وكي لا تنفرط خيوط اللعبة الاستعمارية؛ فقد تم تطعيم المقاربة العسكرية بروح تربوية/تعليمية؛ كقوة ناعمة  soft power تساعد على إعادة إنتاج reproduction النسق الكولونيالي؛ ثقافيا واجتماعيا…

ولذلك فقد اتخذت السياسة البربرية؛ في البداية؛ طابعا مدرسيا؛ من خلال تنفيذ مشروع المدارس الفرنسية-البربرية؛ الموجهة لتعليم الأطفال الأمازيغ؛ باعتماد المنهاج الفرنسي المطعم ببهارات استعمارية؛ وذلك لأن الغاية؛ ليست تأسيس تجربة تربوية/تعليمية حديثة في المناطق الأمازيغية؛ بل على العكس من ذلك؛ كانت الغاية هي تنفيذ خطة الفصل بين الامازيغ والعرب؛ بادعاء الخصوصية الأمازيغية؛ وكانت المدرسة تمثل -فقط- جسر العبور.

  • المدارس الفرنسية-البربرية.. رمزية المجال

  ارتبطت تجربة المدارس الفرنسية – البربرية؛ بالمناطق الأمازيغية؛ ذلك؛ لأن هدفها الرئيسي كان هو تعليم الأطفال الأمازيغ؛ ضمن مجال عرقي-كولونيالي ضيق؛ لتحقيق غرض الفصل بينهم وبين مواطنيهم المغاربة من غير الأمازيغ. ويبدو هذا الطابع السياسي واضحا؛ من خلال وضع هذه المدارس تحت المراقبة المباشرة لضباط الشؤون الأهلية؛ حيث كانت السلطة العسكرية هي التي تعمل على توفير بناية المدرسة وتسهيل ظروف الاشتغال بها؛ أما المديرية العامة للتعليم العمومي؛ فقد كانت تتولى أداء رواتب المعلمين (3)

ويسعى (بول مارتي) إلى تعيين مجال انتشار هذه المدارس بدقة؛ فقد تم تدشين أولى المدارس بإيموزار؛ مركز قبائل أيت سغروشن؛ وعين الشكاك؛ مركز قبائل أيت عياش؛ وأزرو؛ وعين اللوح؛ وخنيفرة؛ كما أضيفت مدارس أخرى تم إنشاؤها؛ في كل من الخميسات والبهاليل وميدلت(4).

ويحمل المجال الذي انتشرت فيه هذه المدارس؛ رمزية كبيرة في علاقة بالسياسة البربرية التي نهجها الاستعمار؛ والتي كانت تقضي بالفصل بين العرب والأمازيغ. ولذلك؛ كان الهدف الواضح؛ الذي تجسده طبيعة المجال (المناطق الجبلية/الأمازيغية)؛ هو العمل على خلق جيل مقطوع الصلة عن امتداده الحضاري والجغرافي؛ جيل كان يتم التخطيط له؛ ليكون امتدادا للمشروع الاستعماري في المغرب؛ وذائدا عن حياضه.

فحسب الأستاذ محمد عابد الجابري؛ كان الهدف من وراء إنشاء هذه المدارس؛ إنشاء جيل مقطوع الصلة تماما بالتراث العربي الإسلامي من جهة؛ ومتشبع أكثر ما يمكن؛ بالتراث الفرنسي والقيم الحضارية الغربية المسيحية؛ من جهة أخرى؛ مما يمهد الطريق لعملية واسعة النطاق؛ عملية استيعاب الشعب المغربي؛ وجعله سياسيا وحضاريا تابعا؛ إلى الأبد؛ لفرنسا باعتباره ذيلا من ذيول الحضارة الغربية المسيحية.(5)

  • المدارس الفرنسية-البربرية.. رمزية المحتوى التعليمي

بالإضافة إلى طبيعة المجال الجغرافي؛ الذي تم التركيز عليه؛ والذي ينسجم مع المخطط الاستعماري؛ القاضي بالفصل بين العرب والأمازيغ؛ فإن للمحتوى التعليمي رمزيته الكبيرة كذلك؛ خصوصا إذا علمنا أن التركيز كان على محاولة اقتلاع المتعلمين؛ ومن خلالهم جزء من المجتمع المغربي عامة؛ من التربة المغربية الأصيلة؛ ذات الامتداد العربي الإسلامي؛ الذي تشكل على امتداد قرون.

ولعل هذا؛ هو ما تؤكده طبيعة المناهج التعليمية المعتمدة؛ والتي كانت تحارب كل ما يرتبط بالعربية والإسلام؛ وفي المقابل كانت تكرس نموذجا تعليميا؛ يجمع بين الفرنسية والأمازيغية؛ مع التركيز على الجانب القيمي المسيحي–الوثني؛ كبديل للنموذج القيمي الإسلامي.

إن المدرسة الفرنسية-البربرية- حسب بول مارتي- هي مدرسة فرنسية بالتعليم والحياة؛ وبربرية بروادها من بالتلاميذ؛ ولذلك؛ لا يقبل أي وجود لأي وسيط أجنبي؛ ولا يجب تعليم العربية؛ كما يجب إبعاد أي تدخل من الفقيه أو أي نشاط إسلامي. (6)

ولعل هذا التوجه التعليمي؛ هو نفسه الذي وجه السياسة الاستعمارية منذ البداية؛ في تعاملها مع المجتمع المغربي؛ من منطلق الفصل في سكانه؛ بين العرب والأمازيغ؛ مع التركيز على تشكيل البنية الاجتماعية والثقافية لسكان الجبال؛ على المقاس الاستعماري؛ وضد أي ارتباط بالامتداد الحضاري العربي/الإسلامي.

وهذا النهج الاستعماري؛ هو الذي وجه المقيم العام الفرنسي في المغرب(الجنرال ليوطي)؛ في تعامله مع السكان الأمازيغ؛ قبل تدشين تجربة المدارس الفرنسية-البريرية. فقد أصدر دورية شهرية بتاريخ 16/6/1921 حول لغة التعليم بالمغرب، إذ يقول: “من الناحية اللغوية علينا أن نعمل مباشرة، على الانتقال من البربرية إلى الفرنسية… فليس علينا أن نعلم العربية للسكان، الذين امتنعوا دائماً عن تعلمها، إن العربية عامل من عوامل نشر الإسلام، لأن هذه اللغة يتم تعلمها بواسطة القرآن، بينما تقتضي مصلحتنا أن نطور البربر خارج نطاق الإسلام(7).

  • السياسة البربرية في المغرب من خلال الظهير البربري

صدر الظهير البربري؛ خلال مرحلة تميزت بنضج المخططات الاستعمارية؛ التي بدأت مرتبطة بالبحث السوسيولوجي؛ وانتقلت لتتجسد في طابع مدرسي؛ وفي مرحلة ثالثة حاولت اختراق البنية الاجتماعية والثقافية المتماسكة؛ باعتماد آليات قانونية؛ كانت تستهدف شرعنة أطروحة الفصل بين العرب والأمازيغ.

وإذا كانت الحركات العرقية الأمازيغية؛ اليوم؛ تحاول ممارسة تطهير مجاني لصالح المرحلة الاستعمارية؛ عبر التركيز على الطابع القانوني/التشريعي للظهير البربري؛ في نسختيه (1914-1930) (8) باعتباره نصا قانونيا صرفا؛ لا يحتمل أي تأويل آخر؛ فإن السياق الذي صدر فيه الظهير البربري يدحض هذا الاعتبار؛ خصوصا وأن الدعاية الاستعمارية حين صدوره؛ كانت تروج لهذه القراءة القانونية التقنية؛ بينما كانت تسعى إلى إخفاء التوجه الاستعماري؛ القاضي بفصل الأمازيغ عن العرب.

 ولعل؛ هذا التوجه الاستعماري؛ هو ما فطن له الوطنيون المغاربة؛ وقاموا لمناهضته؛ وذلك لأن الظهير البربري جاء تتويجا لمخططات استعمارية سابقة؛ كانت تسير في نفس الاتجاه. ولذلك فقد شكل صدوره أهم حدث في تاريخ المغرب الحديث؛ لأنه دشن لمرحلة جديدة من النضال الوطني ضد المخططات الاستعمارية؛ التي كانت تسعى لتقسيم المغرب عرقيا؛ لتسهيل مهمة تقسيمه ترابيا؛ وبالتالي؛ تحقيق السيطرة الكاملة على التراب والعباد.

  • الظهير البربري.. السوسيولوجيا الكولونيالية من النظرية إلى التطبيق

لا يمكن للباحث في تاريخ المغرب الحديث؛ أن يغفل تلك العلاقة القائمة بين البحث السوسيولوجي الكولونيالي والمخططات الاستعمارية؛ فقد كانت السوسيولوجيا خلال هذه المرحلة؛ المجال العلمي الخصب؛ لاختبار آليات وأدوات السيطرة على المغرب؛ دولة ومجتمعا. ولعل؛ ذلك هو ما تؤكده البحوث السوسيولوجية والإثنوغرافية؛ التي حاولت تحليل البنية الاجتماعية والثقافية للمغرب؛ لتسهيل المهمة العسكرية؛ في الأخير؛ وخصوصا مع تجربة البعثة العلمية؛ لميشو بلير وروبير مونتاني.

فحسب الباحث المغربي (محمد الغيلاني) كان ميشو بلير، أول من انتبه ودعا إلى توظيف الثنائية؛ العرب/البربر، وهي الثنائية التي استندت عليها الحماية لدعم تغلغلها، وتلك الأطروحة عرفت أوج تبلورها مع صدور الظهير البربري سنة 1930، كوسيلة للهيمنة الكولونيالية. ويضيف الباحث أن هذه الثنائية ذات البعد العرقي ستأخذ أبعادا أخرى في أبحاث ميشو بلير وغيره من الباحثين الكولونياليين؛ عندما بدأ الحديث عن بلاد السيبة وبلاد المخزن، والدعوة إلى المحافظة على هذه الثنائية في السياسية الكولونيالية؛ لما لها من نتائج عميقة ومؤثرة؛ في عمليات السيطرة الفرنسية على المجتمع وإضعاف الدولة وإنهاك قواها(9).

وإذا كان “ميشو بلير” قد نجح في ترسيخ تقاليد السوسيولوجيا الكولونيالية في المغرب؛ فإن”روبير مونتاني” قد تجاوز حضوره؛ مجال البحث السوسيولوجي؛ بالمعنى العلمي للكلمة فهو كان؛ أكثر من ذلك؛ منظرا استعماريا من الوزن الثقيل؛ ولذلك كانت أطروحاته تتحول إلى مخططات عسكرية. ويعد كتابه ( البربر والمخزن في الجنوب المغربي) (10) من بين الدراسات الكولونيالية؛ التي جاءت على خلفية سياسة الاحتلال الفرنسي؛ لتقسيم المغرب في إطار ما عرف باسم “الظهير البربري”.

ولعل؛ ذلك هو ما يؤكده تزامن صدور الكتاب مع صدور الظهير عن سلطات الحماية؛ كما أن الكتاب جاء بأطروحة الفصل في سكان المغرب؛ بين العرب والأمازيغ وبشكل مفصل للغاية وهذا؛ بالضبط؛ هو ما سعت المخططات الاستعمارية لتجسيده على أرض الواقع؛ عبر فلسفة قانونية؛ تفصل بين من يحتكم إلى الشرع (العرب) وبين من يحتكم إلى العرف (الأمازيغ)؛ ومن ثم كان السعي إلى الفصل بين عالمين مختلفين؛ أحدهما تابع للاستعمار والآخر محارب له.

لقد حاول روبير مونتاني؛ من خلال أطروحته؛ العمل على بلورة استراتيجيات لاختراق الدولة والمجتمع في المغرب؛ من خلال صياغة فرضية التعارض بين البربر/السيبة والعرب/المخزن، وهذا التعارض هو ما عمل الظهير البربري على صياغته كإيديولوجيا استعمارية؛ تجعل منه تعارضا اجتماعيا وعرقيا وحضاريا بين العرب والبربر؛ وذلك بهدف إنجاح المشروع الاستعماري؛ عبر محاولة توطينه في بيئة آمنة وتابعة؛ تقتنع به وتحميه؛ في مواجهة بيئة معادية كانت تسعى إلى استئصاله.

ينطلق (مونتاني)؛ في صياغة أطروحته؛ من فكرة محورية يؤكد فيها أن القبائل البربرية (السوسية) تمتلك خصوصيتها السياسية والاجتماعية؛ لكن سيطرة المخزن أفقدتها أصالتها. ولتوضيح هذه الفكرة قام (مونتاني) بوصف وتحليل طبيعة النظام السياسي الخاص بالقبائل البربرية السوسية، باعتباره نظاما أصبح يفقد تدريجيا أصالته مع الزمن؛ لتكتمل الصورة بشكل أوضح؛ مع مرحلة “حكم المخزن”، الذي تعتبره هذه القبائل كيانا استعماريا بالأساس.

وحسب (مونتاني) فقد مر النظام السياسي للقبائل البربرية؛ بأربعة مراحل أساسية: (11)

  • حكم جمهوري ديمقراطي وأوليغارشي.
  • حكم “الإمغارن” أو الشيوخ.
  • حكم القواد الكبار.
  • حكم المخزن.

وإذا كان (مونتاني) يعتبر أن المراحل الثلاثة الأولى؛ قد مثلت الأصالة السياسية البربرية؛ فإنه يعتبر أن المرحلة الرابعة المرتبطة بحكم المخزن؛ تعتبر تحطيما للديمقراطية البربرية؛ وكذلك نيلا من واقع استقلالية الشخصية القبلية لدى البربر. ولتوضيح هذه الصورة القاتمة؛ حول مرحلة حكم المخزن؛ يعرض الباحث الكولونيالي؛ وبكثير من التفصيل والتحليل؛ لأهم مكونات البناء الاجتماعي والسياسي للقبائل البربرية؛ قبل تعرضها لهذا الاكتساح المخزني.

فالقبائل البربرية المدروسة؛ هي في نظره عبارة عن جمهوريات بربرية، تشبه في تشكيلتها الجمهوريات ذات الطابع الديمقراطي العسكري. ويوكل أمر البث في الشأن السياسي لهذه الجمهوريات، إلى “الجماعة” باعتبارها هيأة سياسية منتخبة بشكل ديمقراطي؛ ويعين على رأسها شيخ (أمغار). ويحاول (مونتاني) في كتابه؛ رصد أهم مكونات البناء السياسي لهذه “الجمهوريات البربرية؛ ابتداء بأصغر مكون وانتهاء بالمكون الأكبر: (12)

  • الدوار، ويضم من 20 إلى 30 كانونا.
  • الفخذة أو العظم، وتضم ثلاثة إلى أربعة دواوير.
  • الفرقة أو الخمس، وتضم من ثلاثة إلى خمسة أفخاذ. وهي تمتاز بكونها وحدة سياسية.
  • القبيلة، وتتكون من ثلاث إلى إثنى عشرة فرقة؛ وتتميز باسم خاص؛ يرتبط بجد مشترك؛ كما أنها تحتل مجالا جغرافيا خاصا، ولها عاداتها وتقاليدها ومؤسساتها السياسية، وتتوفر على أسواق ومواسم خاصة بها.
  • اللف، وهو تحالف حربي؛ بالأساس؛ يجمع عدة قبائل، في إطار اتفاقية الدفاع المشترك.

  وهكذا؛ يسعى “روبير مونتاني”؛ إلى استنتاج خلاصات تاريخية بأبعاد سياسية؛ بالاعتماد على ظواهر انطروبولوجية؛ لا يخلو منها أي مجتمع؛ لكنها لا ترقى إلى صياغة خصوصيات سياسية؛ وإلا فإن جميع دول العالم؛ تتشكل؛ من الداخل؛ من جمهوريات متعددة إذا أخدنا في الاعتبار؛ التعدد الثقافي والعرقي واللغوي.

1-2-2- ما بين السوسيولوجيا والمخططات الاستعمارية.. علاقات مشبوهة

رغم العدة المنهجية القوية والرصينة؛ التي اعتمدها روبير مونتاني في بحوثه السوسيولوجية؛ فإنها ظلت بحوثا موجهة من طرف المخططات الكولونيالية؛ ولذلك فإن خلاصاته؛ قد طبعها بعض التشوه لأنه؛ ليس فقط باحثا؛ ولكنه كذلك عضو في الإدارة الكولونيالية؛ كما يؤكد Maurice poncelet. ومن هذا المنطلق؛ فإن الأعمال السوسيولوجية ل “روبير مونتاني” – يضيف poncelet ؛ قد رسمت صورة للمغرب؛ على شكل فسيفساء؛ مشكلة من دويلات صغيرة؛ مجمعة بشكل متناقض (بلاد المخزن- بلاد السيبة). (13)

ولعل؛ “روبير مونتاني” ليس سوى نموذج واحد ضمن ظاهرة عامة؛ حيث تداخل البحث السوسيولوجي بالمخططات الاستعمارية؛ وأصبح الباحث يقود معركة الهيمنة من مختبره؛ وحتى حينما يخرج إلى الميدان؛ فهو يحمل معه أسلحة نظرية فتاكة؛ يعمل من خلالها على شق الطرقات أمام المدافع والدبابات.

من الصعوبة -إذن- أن نفصل الظهير البربري عن سياقة؛ ونعتبره نصا قانونيا؛ بالمعنى التقني للكلمة؛ بينما تبين الدراسة الفاحصة؛ أنه جاء خلال مرحلة نجحت خلالها المخططات الاستعمارية؛ في بلورة رؤية واضحة حول مداخل السيطرة والتحكم على/في المغرب؛ وقد كان المدخل المفضل هو العمل على الفصل؛ في سكان المغرب؛ بين العرب والأمازيغ؛ فصلا عرقيا في مرحلة أولى؛ تهييئا للفصل السياسي والاجتماعي الذي سيؤدي؛ في الأخير؛ إلى نتيجة حتمية؛ هي تحقيق السيطرة الكاملة على المغرب؛ بعد نجاح مهمة تمزيقه وتقطيع أوصاله. وقد لعبت السوسيولوجيا الكولونيالية؛ دورا خطيرا في صياغة مشروع السياسة البربرية؛ هذا المشروع الذي سيتحكم؛ إلى أبعد الحدود؛ في ولادة الظهير البربري.

  • ما بين المقاربة الكولونيالية والمقاربة العرقية

قد يتساءل البعض؛ من هواة دفن الرأس في الرمال؛ عن الجدوى من إثارة هذا النقاش؛ الذي لا يجيب عن أسئلة راهنة؛ ترتبط بالمقاربة الحقوقية؛ التي تدافع عن الحقوق الثقافية واللغوية… للأفراد والجماعات؛ وخصوصا الأقليات؛ عبر ربوع العالم. كما قد يتهمنا البعض الآخر بالانتماء إلى فكر الحركة الوطنية ؟! فكر التحرر الذي حطم المخططات الاستعمارية؛ عبر النضال الوطني المستميت؛ من أجل الكرامة والحرية والوحدة والاستقلال.

سنستبق الأحداث؛ سنجيب على التساؤل وسندحض الاتهام؛ وذلك لأننا على تمام الاقتناع؛ بأن الأطروحة العرقية الأمازيغية؛ اليوم؛ لا تعتمد البتة على المقاربة الحقوقية؛ بمعناها الحديث؛ والتي تعتبر ثمرة الدولة المدنية الحديثة؛ التي نطمح جميعا إلى تحقيقها؛ باعتبارها دولة لجميع مواطنيها؛ بمختلف أعراقهم وأديانهم ولغاتهم… ولكنها أقرب –بكثير- إلى المقاربة الكولونيالية؛ لأنها تعتمد نفس لغتها ومنهجها؛ خصوصا من خلال استحضار ثنائية عرب/بربر؛ التي تعتبر ماركة مسجلة خاصة بالسوسيولوجيا الكولونيالية؛ قبل أن تتجسد في شكل قانوني؛ عبر عنه الظهير البربري؛ الذي كان يهدف إلى تجسيد المشروع الاستعماري في المغرب؛ عبر تحقيق الفصل بين العرب والأمازيغ؛ ضمن ما أطلق عليه؛ اسم السياسة البربرية.

وبما أن هذا المشروع؛ لقي حتفه على يد الحركة الوطنية؛ بجناحيها السياسي والعسكري؛ وبنخبتها الفكرية والدينية؛ فإن التهافت على إحيائه؛ اليوم؛ من طرف الحركة العرقية الأمازيغية؛ عبر تزوير الخطاب وادعاء المقاربة الحقوقية؛ يعد خرقا سافرا لقيم النضال الوطني النبيل؛ التي رسخها رموز الحركة الوطنية؛ والذين شكل ضمنهم الامازيغ فئة عريضة؛ لكن؛ هؤلاء لم يكونوا يوما إلا مواطنين مغاربة كاملي المواطنة؛ واجهوا الأطروحة الاستعمارية؛ من سوس العلامة المختار السوسي؛ إلى أطلس المناضل موحا أو حمو الزياني؛ إلى ريف المجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي… وكل هؤلاء مغاربة أحرار؛ آمنوا بوحدة المغرب وناضلوا من أجل استقلاله؛ ولم يقعوا يوما ضحية المخططات الاستعمارية؛ القاضية بتمزيق المغرب وبلقنته.

إن استحضار دروس النضال الوطني؛ اليوم؛ واجب يفرض نفسه على السياسي؛ كما يفرض نفسه على المثقف؛ في ظل الاكتساح الذي أصبحت تمارسه مخططات الاستعمار الجديد؛ الذي أصبح يعبر عن حنينه إلى الزمن الكولونيالي القديم؛ خصوصا وأن الظروف أصبحت مواتية؛ أكثر من أي وقت مضى؛ في ظل الفوضى الخلاقة التي تسود العالم؛ مما يفسح المجال واسعا أمام تقسيم وبلقنة الدول؛ تحت ادعاءات عرقية ولغوية ودينية…

  ويبقى الرهان الوحيد أمام السياسي والمثقف الوطني؛ لمواجهة هذا الطوفان الهادر؛ هو النضال من أجل الدولة المدنية الحديثة؛ التي توفر حقوق المواطنة لجميع مواطنيها؛ باختلاف أديانهم وعرقياتهم ولغاتهم؛ ضمن مشروع وطني واضح المعالم. ولعل؛ هذا النوع من النضال هو الذي قاد مشروع الحركة الوطنية؛ الذي لم يميز يوما بين النضال ضد الاستعمار؛ وبين النضال من أجل مشروع وطني وحدوي ومتضامن؛ بآفاق سياسية ذات بعد ديمقراطي واضح.

  • الأطروحة الأمازيغية وتحديات الرهان الوطني

رغم ارتباط الأطروحة الأمازيغية؛ في بداياتها الأولى؛ بالمشروع الاستعماري الفرنسي؛ فإن النخبة الوطنية ناضلت ضد هذا المشروع؛ وقد كان الظهير البربري؛ بداية للنضال الوطني المنظم؛ وفي نفس الآن كان بداية نهاية المشروع الاستعماري.

وقد شاركت النخبة الأمازيغية الوطنية في هذا النضال؛ من منظور وطني وحدوي؛ متشبعة بوعي عميق؛ حول ضرورة مواجهة المخططات الاستعمارية؛ القاضية بتقسيم المغرب وبلقنته؛ لتسهيل السيطرة عليه؛ بأقل مجهود وأقل تكلفة.

لقد رفض الوطنيون الأمازيغ؛ من سوس إلى الأطلس إلى الريف؛ رفضوا بقوة توظيف انتمائهم العرقي؛ في نسج خيوط السياسة البربرية؛ سواء من خلال مواجهة وتفنيد أطروحة السوسيولوجية الكولونيالية؛ أو من خلال رفض تجربة المدارس البربرية؛ ولكن؛ التعبير الحقيقي عن هذا الرفض؛ تم عبر اصطفافهم إلى جانب مواطنيهم من جميع جهات المغرب؛ لمحاربة الظهير البربري؛ الذي قرؤوه سياسيا ولم ينشغلوا بغلافه القانوني المزور.

إننا حينما نربط الأطروحة العرقية الامازيغية بالمشروع الاستعماري؛ لا نضع كل السمك في سلة واحدة؛ لأننا على تمام اليقين؛ بأن المغاربة من الأمازيغ الوطنيين؛ هم أول من يواجه ويثور على هذه الأطروحة العرقية؛ التي لا تخدم الثقافة واللغة الأمازيغية؛ بقدر ما تخندقها في مجال ضيق؛ باعتبارها قضية عرقية؛ ترتبط بطرف من المغاربة دون أطراف أخرى. بينما حقيقة الأمر؛ أن الامازيغية قضية وطنية تهم جميع المغاربة؛ مثلها في ذلك مثل العروبة والإسلام والانتماء الإفريقي والانتماء المتوسطي/الأندلسي.

لقد تمازجت الأعراق والثقافات واللغات؛ في المغرب لقرون؛ ولا يستوي –علميا- الحديث عن نقاء عرقي أو لغوي أو ثقافي؛ كما أن أطروحة النقاء هاته؛ تعتبر المدخل الرئيسي للتطرف؛ الذي لا يأخذ شكلا دينيا/مذهبيا فقط؛ ولكنه يتجاوز ذلك إلى التطرف العرقي واللغوي والثقافي.

وإذا كان المغرب قد نجح في مواجهة التطرف السلفي/الوهابي؛ عبر استثمار المنجز الفكري المغربي؛ القائم على أساس الاجتهاد لصياغة منهج الوسطية؛ فإن الرهان اليوم؛ يفرض الاستعداد لمواجهة التطرف العرقي القادم؛ والذي أصبح يستغل التوازنات الدولية لقلب المعادلة الثقافية واللغوية السائدة.

ونحن هنا لا نؤيد اللجوء إلى العنف المادي أو الرمزي في المواجهة؛ بقدر ما نؤمن بان منهج الوسطية؛ يجب أن يحضر في مقاربة هذا الموضوع كذلك؛ باعتبار أن الوسطية؛ منهجية في مقاربة مختلف القضايا؛ وليست مضمونا مقتصرا على قضية بالذات. ولهذا؛ فإن الرهان المفروض اليوم؛ يرتبط بالعمل على استثمار قيمنا المشتركة؛ لمواجهة أي انحراف عرقي محتمل؛ وكذلك عبر الانتصار لقيم التعددية والاختلاف؛ التي تضمنها الدولة المدنية/الديمقراطية الحديثة؛ التي تقوم بوظيفة ترشيد الاختلاف والتعدد؛ وتحويله إلى مصدر ثراء سياسي واجتماعي وثقافي.

  • خطاب أجدير.. الامازيغة وآفاق الرهان الوطني

يعتبر خطاب أجدير (17 أكتوبر 2001) البداية الحقيقية لسياسة وطنية واضحة بخصوص موضوع الأمازيغية؛ والذي ظل لسنوات متراوحا بين مقاربتين:

  • مقاربة عرقية/إيديولوجية؛ تستثمر الأمازيغية كأداة في الصراع الأيديولوجي ضد الدولة؛ وهذه المقاربة؛ كانت تستثمر بقوة؛ التراث الكولونيالي؛ بهدف تحقيق مكاسب سياسية سريعة.
  • مقاربة مخزنية تقليدية؛ تنطلق من احتكار جميع مقومات الهوية المغربية (الإسلام؛ العروبة؛ الأمازيغية) ومن ثم كانت تمنع كل مشاركة من طرف الفاعلين السياسيين والمدنيين؛ وكذلك من طرف النخب الفكرية.

لقد جاء خطاب أجدير؛ محاولا تجاوز المقاربتين معا؛ فيما يخص موضوع الأمازيغية؛ فقد سعى إلى تجاوز المقاربة المخزنية التقليدية/الاحتكارية؛ وفي نفس الآن سعى إلى تجاوز المقاربة العرقية الإيديولوجية/الكولونيالية؛ ومن ثم كان يؤسس لمقاربة وطنية جديدة؛ تعتبر الأمازيغية مكونا أساسيا من مكونات الهوية المغربية؛ وتراثا مشتركا بين كل المغاربة؛ لا يجوز احتكاره من طرف أي جهة عرقية.

وقد كان للمكان الذي ارتبط به الخطاب؛ رمزية وطنية طافحة بالدلالة؛ فمنطقة أجدير كانت على قائمة المناطق الثائرة على الاستعمار وضد المشاريع الكولونيالية؛ كما أن المنطقة ترتبط باسم وطني أمازيغي كبير؛ هو (موحا أوحمو الزياني)؛ الذي كان في طليعة الحركة الوطنية المقاومة للاستعمار؛ عبر النضال السياسي والثقافي العسكري.

  وبالعودة إلى نص خطاب أجدير؛ فإننا نجده يلخص كل هذه الأبعاد الوطنية الخالصة؛ التي اعتبرت المداخل الأساسية؛ لربط الأمازيغية بالرهان الوطني:

  • منح الطابع المؤسساتي للأمازيغية؛ من خلال إصدار الظهير المنظم؛ للمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية؛ باعتباره مؤسسة وطنية؛ تناط بها مهمة تطوير الثقافة واللغة الأمازيغية.
  • ربط الأمازيغية بالمشروع الوطني؛ باعتبارها مقوما من مقومات الهوية المغربية؛ وكذلك باعتبارها ملكا لكل المغاربة بدون استثناء.
  • الدعوة إلى القطع مع التوظيف الإيديولوجي/العرقي للامازيغية؛ وذلك من منظور أنها قضية وطنية؛ تتجاوز الأبعاد الجهوية والعرقية؛ ولا يمكن لأي جهة أن تتخذ موضوع الأمازيغية؛ مطية لتحقيق أهداف سياسوية رخيصة؛ على حساب منطق السياسة ومصالح الوطن.
  • إدخال الأمازيغية ضمن الرهان الديمقراطي/ الحداثي؛ الذي خطه المغرب؛ في انسجام مع التحولات الدولية؛ ومن ثم؛ فإن موضوع الأمازيغية؛ اتخذ بعدا جديدا في إطار تعددي؛ يستجيب للمقاربة الأممية؛ المرتبطة بالحقوق الثقافية واللغوية. (14)

إن الواضح من خلال هذه الأبعاد الوطنية للامازيغية؛ كرهان وطني؛ هو أن الرؤية السياسية أصبحت في مستوى النضج؛ الذي سيمكن المغرب من ربح رهان التعدد الثقافي واللغوي؛ من دون فسح المجال أمام التوظيف السياسوي/العرقي الرخيص لمكونات هويتنا الوطنية؛ التي تعتبر ملكا لجميع المغاربة؛ ومن الواجب عليهم جميعا التفكير فيها؛ من منظور ديمقراطي تعددي؛ يستجيب للمصلحة الوطنية أولا؛ وفي نفس الآن؛ يستجيب للمنطق الحقوقي الأممي؛ الذي يدعو إلى احترام الحقوق الثقافية واللغوية؛ لجميع مكونات المجتمع؛ لكنه يفرض في المقابل على هذه المكونات؛ احترام سيادة الدولة التي تنتمي إليها.

  • دستور 2011.. تكريس الرهان الوطني للأمازيغية

لا غرابة أن يعتبر المتابعون؛ أن دستور 2011؛ جاء صكا للحقوق الثقافية واللغوية –بدرجة أولى- بحيث غلبت على التعديل الدستوري الأخير؛ المقاربة الحقوقية بشكل واضح. وفي هذا السياق؛ كان واضعو الدستور على تمام الوعي؛ بالتحدي الثقافي واللغوي الذي يواجهه المغرب؛ ضمن سياق دولي نيوكولونيالي؛ يسعى إلى الاستثمار في التعددية العرقية والثقافية واللغوية؛ للتحكم في ناصية الدول؛ عبر ممارسة الابتزاز السياسي.

لكن؛ هذا لا يعني أن التركيز على المقاربة الحقوقية؛ كان استجابة لعوامل خارجية فقط؛ بل إن المغرب قد انخرط في هذه الدينامكية قبل ذلك؛ وخصوصا منذ حكومة التناوب التوافقي؛ لتتم ترجمة ذلك خلال سنة 2001 عبر خطاب أجدير؛ الذي دشن لعهد جديد في التعامل مع الامازيغية؛ كقضية ثقافية ولغوية؛ وذلك من منظور حقوقي واضح؛ كان الهدف منه؛ القطع مع المقاربة التقليدية الاحتكارية؛ للتعدد الثقافي واللغوي الذي يعرفه المغرب.

من هنا؛ كان التفكير جديا في متابعة مسار مأسسة الأمازيغية في المغرب؛ والذي بدأ مع تأسيس المعهد الملكي للثقافة الامازيغية؛ واستمر مع إدماج الامازيغية في التعليم؛ ليعبر عن نضجه؛ خلال التعديل الدستوري الأخير (2011) مع التنصيص على ترسيم اللغة الأمازيغية كلغة ثانية؛ إلى جانب العربية كلغة رسمية أولى.

وكما يبدو؛ فإن تعامل المغرب مع الأمازيغية؛ كثقافة ولغة وطنية؛ لم يرتبط بشكل مباشر؛ بأجندة خارجية أو داخلية/إيديولوجية؛ رغم تأثيرها طبعا؛ بقدر ما ارتبط بمشروع وطني واضح المعالم؛ كان يسعى؛ منذ البداية؛ إلى ترشيد الاختلاف والتعدد كخاصية مميزة للمغرب؛ في إطار مؤسساتي؛ يستجيب للمقاربة الحقوقية الأممية.

أما الحديث الذي يروج اليوم؛ حول فعالية النضال الإيديولوجي/العرقي؛ في فرض أجندة خاصة؛ فهذا ما لا يستجيب لمنطق الأحداث الجارية؛ ما عدا التطبيل المبالغ فيه؛ لجدوائية النضال الإيديولوجي/العرقي. ومن هذا المنطلق؛ فإننا نختلف مع الباحث محمد مصباح (15) حينما يربط بين مسار مأسسة الأمازيغية؛ وفعالية الحركات العرقية الإيديولوجية؛ مضافا إليها ضغط بعض الشخصيات النافدة في المخزن (محمد شفيق؛ حسن أوريد)؛ لأننا نعتبر أن هذا التأثير؛ عامل ثانوي؛ إذا ما قيس بقناعة ونضال الوطنيين المغاربة؛ بمختلف أعراقهم وإيديولوجياتهم؛ من أجل ترسيخ خيار الديمقراطية والدولة المدنية؛ باعتباره المدخل الرئيسي؛ لتجذير المقاربة الحقوقية في التربة المغربية. ولا يمكن للباحث أن يغفل تزامن هذه المقاربة الديمقراطية/التعددية الجديدة؛ مع تأسيس الكتلة الديمقراطية كواجهة للنضال الوطني الديمقراطي أوائل التسعينيات؛ ووصول حكومة التناوب أواخر التسعينيات؛ كتتويج لمسار طويل من النضال ضد السياسة المخزنية التقليدية.

والنموذج الجزائري؛ يقدم إلينا دروسا بليغة في هذا المجال؛ فرغم القوة والانتشار الذي تتمتع بهما الحركات العرقية/الإيديولوجية في منطقة القبائل؛ فإن ملف الأمازيغية يعيش تعثرات متراكمة؛ لا يبدو أنها ستساعد على حله في الأجل القريب؛ ما عدا مؤشرات التوتر السياسي التي أصبحت تلوح في الأفق؛ مهددة بخلق نزاع عرقي؛ ستكون نتائجه كارثية على كل الأطراف المتصارعة؛ خصوصا مع دخول فرنسا على الخط.

ولعل؛ تفسير ذلك؛ يرتبط بغياب روح الديمقراطية والتعددية؛ مع هيمنة المقاربة الأمنية/العسكرية بطابعها الشمولي ولذلك؛ فإن تحقيق الاعتراف بالحقوق الثقافية واللغوية في الجزائر؛ يظل مهمة قريبة من الاستحالة؛ وحتى لو تحولت هذه الحركات إلى قوة عسكرية مدعومة خارجيا؛ فإن هذا الوضع سيحقق الخراب؛ لكن من دون أن يحقق الاعتراف؛ لأن ذلك يمر عبر سيادة الخيار الديمقراطي/التعددي؛ القادر لوحده على ترسيخ مقاربة حقوقية حديثة؛ تستجيب للتعددية الموجودة في المجتمع. ولعل؛ هذا هو ما نزعم أن المغرب قد نجح فيه؛ بشكل نسبيا؛ قبل أن يتم الانتقال إلى المشاكل الحقوقية العالقة؛ سواء مع هيئة الإنصاف والمصالحة؛ أو مع الاعتراف بالحقوق الثقافية واللغوية للأمازيغ…

2-3- دسترة الأمازيغية كلغة رسمية ثانية للمملكة

بعد خطاب تاسع مارس 2011؛ الذي جاء استجابة للمطالب الشعبية؛ بإحداث تغييرات في هرم الدولة والنظام؛ من منطلق دستوري. بعد هذا الخطاب؛ تم تدشين نقاش سياسي وحقوقي؛ كانت الغاية منه إثارة مجموعة من القضايا التي تشغل كل الفاعلين؛ من مثقفين وسياسيين وحقوقيين.

  وقد احتلت الأمازيغية حيزا مهما في هذا النقاش العمومي؛ ويمكن تصنيف الآراء حولها؛ على الأقل؛ إلى ثلاثة أصناف:

  • هناك رأي إيديولوجي مثلته الحركات العرقية الأمازيغية؛ التي كانت تروج لخطاب متطرف؛ يربط وجود الأمازيغية دائما؛ بإلغاء المقوم الثقافي واللغوي العربي. وقد مارس أصحاب هذا الموقف؛ عنفا رمزيا خطيرا على جميع التيارات الوطنية؛ التي كانت تدعو إلى تفعيل منهجية الوسطية لمقاربة قضية شائكة؛ مثل الأمازيغة؛ لأن المغامرة بصياغة حلول ترقيعية؛ بهدف تجاوز اللحظة فقط؛ لا يمكنه أن يحل المشكلة بل سيزيد من تعقيدها.
  • هناك رأي آخر؛ مثله التيار المحافظ داخل المخزن؛ والذي كان يسعى؛ مند التسعينات؛ إلى المحافظة على وضعية السطاتيكو؛ التي سادت طوال مرحلة حكم الحسن الثاني.
  • أما الرأي الثالث؛ فقد مثلته جميع التيارات الديمقراطية؛ من اليسار واليمين؛ وكذلك جميع النخب الفكرية والدينية. وقد ذهب أصحاب هذا الرأي؛ في اتجاه اعتبار الأمازيغية قضية وطنية؛ يجب مقاربتها من منظور وطني؛ في منأى عن النزعات العرقية؛ التي تسعى إلى استثمارها لخدمة أجندة سياسوية؛ قد تتعارض؛ في الكثير من الأحيان؛ مع الأجندة الوطنية. وقد اتخذ أصحاب هذا الرأي موقفين مختلفين:

  + موقف سار في اتجاه دعم الامازيغية كلغة وطنية؛ من منظور أن ترسيم الأمازيغية إلى جانب العربية؛ سيساهم في تكريس ظاهرة التلوث اللغوي في المغرب. ويمتلك هذا الموقف سندا علميا؛ يرتبط بالدراسات اللسانية الحديثة؛ ولذلك يجب على كل معارض لهذا الموقف؛ أن يلتزم حدود البحث اللساني الحديث؛ من دون أي غوغائية إيديولوجية.

 + موقف آخر سار في اتجاه دعم الأمازيغية؛ كلغة رسمية ثانية إلى جانب العربية؛ مع وضع قانون تنظيمي يحدد مراحل تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية، وكيفيات إدماجها في مجال التعليم، وفي مجالات الحياة العامة.

و قد سار الدستور على هذا النهج الأخير؛ عبر التنصيص على الطابع الرسمي للأمازيغية؛ كلغة ثانية إلى جانب اللغة العربية؛ مع تقييد ذلك بقانون تنظيمي. فقد جاء في الفصل الخامس من دستور 2011 ما يلي:

تعد الأمازيغية أيضا لغة رسمية للدولة، باعتبارها رصيدا مشتركا لجميع المغاربة، بدون استثناء.يحدد قانون تنظيمي مراحل تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية، وكيفيات إدماجها في مجال التعليم، وفي مجالات الحياة العامة ذات الأولوية، وذلك لكي تتمكن من القيام مستقبلا بوظيفتها، بصفتها لغة رسمية.

وقد جاء هذا الفصل منسجما مع منطوق خطاب أجدير؛ الذي أطلق الدينامية الجديدة التي تعرفها الأمازيغية؛ اليوم؛ لغة وثقافة؛ وذلك حينما؛ تم التأكيد على أن الأمازيغية تشكل رصيدا مشتركا لجميع المغاربة؛ بدون استثناء. وهذا يؤكد أن الامازيغية قد ربحت الرهان الوطني أخيرا؛ حينما تم تخليصها دستوريا من شحنتها العرقية؛ الأمر الذي يتطلب من الدولة؛ القيام بمهمتين مزدوجتين:

  • المهمة الأولى؛ ترتبط بتفعيل الأمازيغية لغة وثقافة؛ من منظورقانوني واضح؛ يحدد مراحل تفعيلها؛ وكيفيات إدماجها في الحياة العامة.
  • المهمة الثانية؛ ترتبط بضرورة تحمل الدولة مسؤوليتها؛ في ضبط الانحرافات الإيديولوجية؛ التي تسعى إلى استثمار هذا المكسب الوطني؛ لخدمة أجندة سياسوية ضيقة. فكما مارست الدولة مسؤوليتها من قبل؛ لمواجهة التطرف الديني؛ الذي يشكل خطرا على الأمن الروحي للمغاربة؛ فيجب عليها؛ اليوم؛ أن تمارس مسؤوليتها كذلك؛ لمواجهة التطرف العرقي؛ الذي يهدد الأمن اللغوي والثقافي للمغاربة؛ خصوصا وأن الأصوات العرقية بدأت ترتفع معلنة؛ عن عهد جديد يفسح أمامها المجال؛ لتفكيك الهوية المغربية الأصيلة؛ بطابعها (العربي؛ الإسلامي؛ الأمازيغي؛ الإفريقي؛ المتوسطي)؛ لحساب أجندة خارجية؛ أصبحت تكشف عن وجهها بشكل واضح.

  إن المواطنة حقوق وواجبات؛ وإذا كانت الدولة قد سارت في اتجاه مقاربة حقوقية؛ عبر رد الاعتبار لمكونات الهوية المغربية؛ فإن الواجب يفرض على الجميع؛ احترام هذه المكونات؛ من منظور ديمقراطي/تعددي؛ مع الالتزام بالرهان الوطني؛ في حل جميع المشاكل العالقة؛ في منأى عن استغلال الظرفية الدولية؛ لخدمة أجندة خاصة؛ تهدد مصالح الوطن والمواطنين؛ عبر الزج بالمغرب في متاهات الابتزاز الدولي الذي عانينا منه؛ عقودا؛ في علاقة بمشكلة الصحراء.

3- الخصوصية المغربية.. تعدد الأعراق ووحدة الهوية

  منذ تأسيس الدولة المغربية؛ على يد إدريس الأول؛ بدأت المعالم الأولى للهوية السياسية والاجتماعية المغربية تتشكل؛ فعلى خلاف ما روجته بعض الأقلام الاستعمارية؛ من استعمار العرب لشمال إفريقيا؛ ومنها المغرب؛ يؤكد التاريخ أن الشراكة التي قامت بين العرب والأمازيغ؛ هي التي ساهمت بشكل حاسم في تأسيس الدولة المغربية.

  فعندما دخل إدريس الأول إلى بلاد المغرب؛ لم تكن ترافقه جيوش جرارة؛ على شاكلة جيوش الاستعمار الفرنسي والإسباني خلال مرحلة القرن التاسع عشر؛ ولم يرتكب مجازر في حق الشيوخ والأطفال والنساء؛ ولم يستنزف خيرات البلاد ويصدرها إلى الشرق… لقد دخل مؤسس الدولة المغربية حاملا معه رأسمالا رمزيا ثمينا؛ صقلته المعرفة والتجربة؛ واستثمره في بناء دولة مركزية قوية وممتدة؛ حققت التوازن المفقود؛ في منطقة البحر الأبيض المتوسط؛ لقرون.

  وهكذا؛ تأسست الدولة المغربية؛ منذ البداية؛ في شراكة بين الأمازيغ والعرب؛ وهي شراكة ترجمتها العلاقة السياسية؛ التي جمعت زعيم قبيلة أوربة (إسحاق بن عبد الحميد الأوربي) بإدريس الأول لتتجاوز؛ بعد ذلك؛ العلاقة السياسية إلى علاقة عائلية؛ عبر زواج إدريس الأول من السيدة كنزة ابنة الزعيم الأوربي؛ لينجب منها ابنه (إدريس الثاني) الذي واصل النضال؛ من أجل بناء دولة مغربية مهابة الجانب؛ في منطقة كان الرومان يصولون ويجولون فيها بلا رقيب. لقد اختلطت الدماء العربية بالدماء الأمازيغية؛ منذ البدايات الأولى لنشأة الدولة المغربية؛ وكان زعيم الدولة الإدريسية؛ عربيا من جهة الأب وأمازيغيا من جهة الأم.

  وابتداء من هذا التاريخ؛ تشكلت الشراكة العربية الامازيغية؛ على أسس قوية ومتينة؛ استطاعت الصمود في وجه التحديات الدولية؛ لقرون؛ واستطاعت تأسيس إمبراطوريات؛ ساهمت بشكل حاسم في تحقيق التوازن والسلم في منطقة البحر الأبيض المتوسط.

  وعلى امتداد قرون من تعاقب الأنظمة الحاكمة؛ لم يكن الطابع العرقي أساسا للحكم أو المعارضة؛ فقد تقلدت أسر امازيغية؛ الحكم في فترات متعددة من التاريخ السياسي للمغرب (المرابطون؛ الموحدون؛ المرينيون؛ الوطاسيون)؛ ولا ينقل إلينا التاريخ أن هذه الدول؛ كانت تنفد سياسة بربرية؛ كتلك التي أسس لها الاستعمار الفرنسي؛ بل كانت دول تعتز بهويتها المغربية؛ التي تشكلت عبر انصهار عرقي وثقافي واجتماعي وديني… جمع العرب بالأمازيغ. وفي المقابل حكمت المغرب أسر عربية (الأدارسة؛ السعديون؛ العلويون)؛ وكذلك لا ينقل إلينا التاريخ أن هذه الدول؛ كانت تنفد سياسة تبعية للمشرق؛ ونحن نعلم أن السلاطين المغاربة؛ على مر تاريخ الدولة المغربية؛ دافعوا عن استقلالية المغرب وخصوصيته؛ سواء في علاقته بالخلافة العباسية؛ أو في علاقته بالخلافة العثمانية.

  إن ما يهمنا من عبر التاريخ؛ هي قيمتها الرمزية الغنية بالدلالات؛ والإنسان كائن رمزي بطبعه؛ يتخيل الأشياء قبل ممارستها؛ وعبر هذه القدرة على التخيل؛ قامت حضارات وسقطت أخرى؛ والمغاربة عبر التاريخ استثمروا هذه القيم الرمزية؛ لبناء دولة متماسكة وقوية؛ لم تتسرب إليها فيروسات التشتت والبلقنة؛ على امتداد قرون طويلة.

  • على سبيل الختام

  في مقاربتنا لموضوع الأمازيغية في المغرب؛ استخلصنا أن الأمر لا يتعلق بأمازيغية واحدة؛ فهناك الأطروحة الكولونيالية التي استثمرت التعدد العرقي واللغوي للمغرب؛ وعملت على تقسيمه إلى شطرين متصارعين؛ وهناك الأطروحة العرقية؛ التي حولت الأمازيغية إلى إيديولوجية في الصراع؛ ضد الدولة وكذلك ضد المشروع الوطني الذي تجسده النخب الفكرية والسياسية الوطنية؛ وهناك الأطروحة الوطنية؛ التي تتعامل مع الأمازيغية كرهان وطني؛ وكمكون أساسي من مكونات الهوية المغربية. وباعتبارها ملكا لجميع المغاربة؛ فإن النخبة الوطنية ترفض أي احتكار لها من أي طرف بعينه.

  إن التوجه السياسي الجديد الذي عبرت عنه الدولة؛ في تعاملها مع الأمازيغية؛ منذ خطاب أجدير وإصدار الظهير المؤسس/المنظم للمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية؛ وبعد ذلك التنصيص في الدستور على الطابع الرسمي للغة الامازيغية؛ هذا التوجه السياسي الجديد؛ يؤكد عزم كل الفاعلين السياسيين والثقافيين؛ على إعادة الاعتبار للأمازيغية؛ كمكون أساسي من مكونات الهوية المغربية؛ وهذا التوجه يفرض على كل الفاعلين؛ في الشأن الأمازيغي؛ التزامات واضحة؛ في علاقتهم بالخيارات الوطنية المطروحة؛ وذلك من خلال التعبير الصريح؛ عن رغبة حقيقية في خدمة الأجندة الوطنية؛ مع رفض كل توظيف خارجي؛ لقضايا وطنية خالصة.

و لعل الرسالة هنا موجهة؛ بالدرجة الأولى؛ إلى الحركات العرقية الأمازيغية؛ التي يجب عليها أن تختار؛ بين الارتباط بالخيارات الوطنية المطروحة؛ وبين خدمة خيارات وأجندة خارجية؛ بدعوى تدويل القضية ونفيها؛ لتصبح ورقة تعتمدها قوى الاستعمار الجديد؛ لابتزاز الوطن؛ في قضايا سياسية واقتصادية وأمنية.

ملاحظة: تم نشر هذه الدراسة من طرف المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. وذلك على الرابط التالي:

http://www.dohainstitute.org/file/get/7b8c11cb-ba8d-421f-8d93-ad7e87a748ae.pdf

– كاتب وباحث أكاديمي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

  • Claude Lévi Strauss – la pensé sauvage – éd: Pocket 1990.
  • ) محمد مصباح – الأمازيغية في المغرب: جدل الداخل والخارج – المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات – سلسلة تقييم حالة – ص: 2
  • Gaudefroy-demombynes- l’œuvre française en matière d’enseignement au Maroc- paris- 1928-p: 122.
  • Paul Marty – le Maroc de demain – paris – 1925-p: 248
  • محمد عابد الجابري- أضواء على مشكل التعليم في المغرب – دار النشر المغربية –الدار البيضاء-1985- ص: 29.
  • Paul Marty –plan de compagne des écoles franco-berbères—fes -1923-p:2
  • الحسن مادي – السياسة التعليمية بالمغرب ورهانات المستقبل- منشورات مجلة علوم التربية- ص: 22
  • صدر الظهير البربري في نسختين؛ وخلال مرحلتين:
  • ظهير 11 شتنبر 1914:(نشر بالجريدة الرسمية عدد 73 بتاريخ 18 شتنبر 1914):
  • ظهير 16 ماي 1930 (نشر بالجريدة الرسمية عدد 919 بتاريخ 6 يونيو 1930)
  • محمد الغيلاني- تجربة البعثة العلمية ميشو بلير وروبير مونتاني– جريدة المساء- 3 شتنبر 2008
  • Robert Montagne: « Les Berbères et le Makhzen dans le sud du Maroc- essai sur la transformation politique des Berbères sedentaires (groupe cheluh) » ; Ed Alcan, Paris 1930.
  • Ibid –p: 159
  • Ibid
  • Maurice poncelet – regard sur le Maroc. actualité de robert montagne- étude international- vol19-no 1-1988
  • أنظر نص خطاب أجدير 17 أكتوبر 2001.
  • محمد مصباح – الأمازيغية في المغرب: جدل الداخل والخارج – مرجع سابق – ص: 7.
آخر اﻷخبار
1 comments

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M