الإجهاض.. حرية شخصية أم ضرورة شرعية؟

16 ديسمبر 2019 23:56
الإجهاض.. حرية شخصية أم ضرورة شرعية؟

هوية بريس – د.محمد ويلالي

طلع علينا -هذه الأيام- بعض دعاة الحرية المتفلتة، بضرورة إعادة النظر في موضوع الإجهاض، منادين بأن الأمر لا يعدو أن يكون من المسائل الشخصية، والتصرفات الفردية، لا دخل للآخر فيها، ولو كان هذا الآخر قانونَ السماء، الذي أنزله الخالق ـ سبحانه ـ، العالم بما يصلح النفوس وما يفسدها، أو كان هذا الآخر القانونَ الجنائي المغربي، الذي يقيد الإجهاض بضوابطه المنبثقة ـ بدورها ـ من شريعة الإسلام، دين المغاربة الرسمي، الذي به يدينون، وإليه يحتكمون.
إن الإجهاض أمر متعلق بنفس بشرية، جعل الله لها حقا في الحياة، لا يجوز الاعتداء عليه بدون مسوغ شرعي، وجعل قتل النفس ـ سواء كانت شيخا كبيرا، أو جنينا في البطن ـ جرما عظيما، ومنكرا جسيما، فقال -تعالى-: (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ). وقال ـ تعالى ـ: (مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا).
وكم من الأحاديث النبوية الشريفة، جاءت توصي بصيانة هذه النفس، وتحرم قتلها أو الاعتداء عليها، حتى جُعل أول ما يقضي فيه رب العزة والجلال يوم القيامة، إهدارَ النفوس، فقال صلى الله عليه وسلم: “أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الدِّمَاءِ” متفق عليه؟
والجنين نفس، سواء قبل نفخ الروح فيه أو بعده. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: اقْتَتَلَتِ امْرَأَتَانِ مِنْ هُذَيْلٍ، فَرَمَتْ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى بِحَجَرٍ، فَقَتَلَتْهَا وَمَا فِي بَطْنِهَا، فَاخْتَصَمُوا إِلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَقَضَى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أَنَّ دِيَةَ جَنِينِهَا غُرَّةٌ: عَبْدٌ أَوْ وَلِيدَةٌ (وهي عند الإمام مالك: خمسون دينارا، أو ستمائة درهم)، وَقَضَى بِدِيَةِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَاقِلَتِهَا (أي: العَصبة والأقارب من قبل الأب)، وَوَرَّثَهَا وَلَدَهَا وَمَنْ مَعَهُمْ. فَقَالَ حَمَلُ بْنُ النَّابِغَةِ الْهُذَلِيُّ: يَا رَسُولَ الله، كَيْفَ أَغْرَمُ مَنْ لاَ شَرِبَ وَلاَ أَكَلَ، وَلاَ نَطَقَ وَلاَ اسْتَهَلَّ، فَمِثْلُ ذَلِكَ يُطَلُّ (أي: يهدر ويلغى)؟ فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: “إِنَّمَا هَذَا مِنْ إِخْوَانِ الْكُهَّانِ”ـ مِنْ أَجْلِ سَجْعِهِ الَّذِي سَجَعَ ـ متفق عليه. وفي صفة هذا الجنين الذي تجب فيه الغُرة، قال الإمام مالك: “ما طرَحَتْه من مضغة، أو علقة، أو ما يعلم أنه ولد.. فإن استهل صارخا، ففيه الدية كاملة”.
وهذا إثبات لحق الجنين في الحياة، وأن الاعتداء عليه بالإجهاض بغير ضرورة شرعية، اعتداء على نفس لها حرمتها، ولها قدرها.
ومما يعضد ذلك، أن السِّقط له من القدر ما جعل له شرعنا أحكاما شديدة الأهمية، تتعلق به وبغيره. قال صلى الله عليه وسلم: “الرَّاكِبُ يَسِيرُ خَلْفَ الْجَنَازَةِ، وَالْمَاشِي يَمْشِي خَلْفَهَا، وَأَمَامَهَا، وَعَنْ يَمِينِهَا، وَعَنْ يَسَارِهَا، قَرِيبًا مِنْهَا، وَالسِّقْطُ يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَيُدْعَى لِوَالِدَيْهِ بِالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ” صحيح سنن الترمذي. وقال صلى الله عليه وسلم من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه: “وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّ السِّقْطَ لَيَجُرُّ أُمَّهُ بِسَرَرِهِ إِلَى الْجَنَّةِ إِذَا احْتَسَبَتْهُ” صحيح سنن ابن ماجة.
فكيف تُجهض نفس بريئة بذنب ارتكبه غيرها خشية العار وتلويث السمعة؟ وما ذنب هذا الجنين حتى يقضى عليه، وتمزق أشلاؤه، وترمى في المجاري وحاويات الأزبال؟
بل إن قتل البهائم والدواب في الإسلام جرم عظيم، واعتداء شنيع، حتى إن امرأة دخلت النار في هرة، سجنتها حتى ماتت.
وهذا ما تفطنت إليه القوانين الجنائية، فرتبت عليه عقوبات زجرية رادعة.
جاء في القانون الجنائي المغربي: “يعاقب بالغرامة من 500 إلى 1.200 درهم:
ـ من تسبب في موت أو جرح حيوان أو دابة مملوكة للغير.
ـ من ارتكب علانية قسوة على حيوان مستأنس، مملوك له، أو معهود إليه برعايته، وكذلك من أساء معاملته بالزيادة في حمولته”.
هذا الحيوان، فكيف بالإنسان الذي كرمه ربه، وقدر خلقه؟ فلا شك أن الاعتداء عليه ـ وهو جنين أو مولود ـ أشنع وأفظع، وبذلك قال المالكية.
يقول الدردير المالكي ـ رحمه الله ـ: “لا يجوز إخراج المني المتكوَّن في الرحم ولو قبل الأربعين يوما، وإذا نفخت فيه الروح، حرم إجماعًا”. وعلق الدسوقي على ذلك بقوله: “هذا هو المعتمد”.
ونقل ابن رشد أن مالكا ـ رحمه الله ـ قال: “كل ما طرحته المرأة جناية: من مضغة، أو علقة، مما يعلم أنه ولد”.
ويقول الغزالي ـ رحمه الله ـ: “أول مراتب الوجود بأن تقع النطفة في الرحم، وتختلط بماء المرأة، وتستعد لقبول الحياة. وإفسادُ ذلك جناية، فإن صارت مضغة وعلقة، كانت الجناية أفحش، وإن نفخ فيه الروح واستوت الخلقة، ازدادت الجناية تفاحشاً، ومنتهى التفاحش في الجناية بعد الانفصال حياً”.
وعلق ابن كثير ـ رحمه الله ـ على قوله ـ تعالى ـ: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فقال: “(وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ)، وهذا يشمل قتله بعد وجوده، كما كان أهل الجاهلية يقتلون أولادهم خشية الإملاق، ويعم قتلَه وهو جنين، كما قد يفعله بعض الجهلة من النساء، تطرح نفسها لئلا تحبَل، إما لغرض فاسد، أو ما أشبهه”.
لقد أرادوا الالتفاف على الحكم الشرعي، بأن سموا الإجهاض ب”الإيقاف الطبي للحمل”، وجعلوا له سببا رأوه كفيلا بإباحته، وهو ما سموه ب”الحالة النفسية” للمرأة الحامل. وهو سبب فضفاض لا ينضبط به الحكم، لأن جريمة الزنا أو الخيانة المتولد عنها حمل، لا بد أن تصيب الجانية بحالة نفسية من الاضطراب والتأزم، بفعل المصيبة المرتكبة، التي يجب أن تتحمل فيها المسؤولية كاملة، أما الجنين فلا ذنب له، فلا نعالج ذنبا بذنب أقبح منه. ولا شك أن حفظ النفوس مقدم على حفظ الأعراض في ترتيب المقاصد الشرعية. قال الإمام الشاطبي ـ رحمه الله ـ: “فَقَدَ اتَّفَقَتِ الْأُمَّةُ ـ بَلْ سَائِرُ الْمِلَلِ ـ عَلَى أَنَّ الشَّرِيعَةَ وُضِعَتْ لِلْمُحَافَظَةِ عَلَى الضَّرُورِيَّاتِ الْخَمْسِ، وَهِيَ: الدِّينُ، وَالنَّفْسُ، وَالنَّسْلُ، وَالْمَالُ، وَالْعَقْلُ”.
إن التساهل في تطبيق أحكام الله، والأخذِ على يد المفسدين والمنتهكين للأعراض، هو ما جعل إحدى الدراسات تتحدث عن ولادة 50 ألف طفل مغربي سنوياً خارج إطار الزواج، ويتم التخلي عن 24 رضيعاً كل يوم، ويتم العثور على 300 جثة من الأطفال كل عام في صناديق قمامة في مدينة واحدة من مدننا.
وإن الذهول عن شرع الله هو ما جَعل بلدا متحضرا كالسويد، يبيح للمرأة إسقاط جنينها إن كان جنسه غير مرغوب فيه. وجَعل الإجهاض في أمريكا يقتل أكثر من مليون طفل سنويا، في الوقت الذي نجد فيه الرجل الواحد ـ هناك ـ يقيم علاقات جنسية مع ما متوسطه 7 نساء، و29% من الرجال قد أقاموا علاقات جنسية مع أكثر من 15 امرأة في حياتهم. وجَعَلَ المرأة في أوربا وأمريكا تعيش انحطاطا لا مثيل له، حين انتشرت ـ هناك ـ مطاعم تقدم الطعام على أجساد النساء العاريات، وصرنا نسمع أن النساء في أستراليا وبريطانيا يَغسلن السيارات وهن عاريات.
فهل هذه هي الدول المثالية التي يسعى بعض الناس لتلميع صورتها الحضارية، لتكون لنا قدوة؟
أصونُ عرضي بمالي لا أدنسهُ * لا بَارَكَ اللهُ بعدَ العِرْضِ في المالِ
أحتالُ للمالِ إن أَوْدَى فأجمعهُ * ولسْتُ لِلعِرْضِ إن أَوْدَى بمُحتالِ

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M