الإرهاب.. المِتْراس والذريعة

31 ديسمبر 2018 15:22
الإرهاب.. المِتْراس والذريعة

هوية بريس – ذ. إبراهيم الطالب

تخفي تهمة الإرهاب تحت جناحيها الكثير من الأشياء، وتتوارى خلف التنديداتِ بالإرهاب أنواعٌ كثيرة من الترتيبات والخطط والأهداف.

ووراء الحرب على الإرهاب تقترف جرائم القتل والاغتصاب والسرقة والنهب وتصفية الحسابات.

وفِي سوق الإرهاب تشتغل “مافيات” متعددة التخصصات، “مافيا” السلاح و”مافيا” المخدرات و”مافيا” تهريب البشر والاتجار بهم، و”مافيا” سرقة الأعضاء البشرية، و”مافيا” تهريب الأموال.

وفي بِرَك الإرهاب الآسنة تُغسل الأموال القذرة، كما تنظف الذمم الفاسدة النتنة بدعاوى محاربته، فلقد تعود العالم اليوم أن يرى العاهراتِ تدافعن عن الشرف، والسراقَ يرافعون عن الأمانة، والقتلةَ يَعظون الناس بوجوب حماية الحق في الحياة، والمستبدين الظلمة يناضلون عن الحرية والحقوق.

منذ قرون وتهمة الإرهاب تمثل المتراس الذي يحارب خلفه كل عدو عدوه، وتتخذ الذريعة التي يُزهق بواسطتها أرواح غرمائه ومعارضيه.

فأمريكا القرن الواحد والعشرين جعلت الإرهاب متراسها الذي تشن من ورائه حروبها الإمبريالية، فدمرت أفغانستان وأعادت “مافيا” الكوكيين بعد أن انتهى وجودها في أول بلد مصدر لهذا النوع الخطير من المخدرات، لتستفيد من مداخيله في تمويل كثير من خططها ومشاريعها، كما دمرت العراق بدعاوى محاربة الإرهاب والخوف من وصول أسلحة الدمار الصَدَّامية الوهمية إلى أيدي “إرهابيي” القاعدة.

واليوم سوريا وليبيا واليمن يباد أهلها بتحالف دول مسلمة وبتوجيه ودعم أمريكيين بدعوى محاربة داعش والإرهاب.

لست في هذه المقالة معنيا بشجب الإرهاب أو تحليل مفهومه ومشاريعه، وإنما القصد هو بيان اتخاذه متراسا أي حائطا حربيا لتحقيق مشاريع توسعية، أو تصفية حسابات سياسية، وكذا بيان اتخاذه ذريعة لحرب إيديولوجية وحضارية تشنها العلمانية ضد الإسلام.

إن “الإرهاب” بمفهومه الغربي لم يعرفه المغرب وعامة البلدان الإسلامية إلا بعد حملات الاحتلال، إذ كانت تتهم به فرنسا المجاهدين في المغرب وكذلك في الجزائر وتونس، وبريطانيا في فلسطين وغيرها، وإيطاليا في ليبيا، فكان كُتاب الاحتلال في تلك الربوع الإسلامية يدبجون مقالاتهم في صحفهم ومجلاتهم باتهام المجاهدين بالإرهاب، تنفيرا للناس عنهم، ولتسويغ قتلهم حين تقبض عليهم.

وأصبحت بعد الاستقلال تستعمل في السياسة لتصفية المعارضين، ولعل أبرز الأمثلة ما حصل طيلة ما بات يسمى بالعشرية السوداء في الجزائر والتي كتب عنها حبيب سويدية وهو ضابط في الجيش الجزائري في كتابه: “الحرب القذرة” حيث ضمنه شهاداته عن الجرائم “الإرهابية” التي اقترفتها فرق الجيش والاستخبارات الجزائرية في حق المواطنين والجماعات الإسلامية عقب فوز جبهة الإنقاذ الإسلامية بالانتخابات الرئاسية.

لكن تهمة الإرهاب نجدها قبل الحرب القذرة تأخذ مكانها في مصر كذريعة لتصفية الخصوم السياسيين إبان المسرحيات القومية الوحدوية؛ حيث نسمع جمال عبد الناصر في الإسكندرية وهو يخطب في 22 أكتوبر 1963، -وكان رأس ماله الكلام والخطب إذ لم يربح حربا ولَم يَبْنِ وطنا-، منددا بالبعثيين الذين انقلبوا على أتباعه الوحدويين في سوريا قائلا: “حزب البعث لم يكن بأي حال من الأحوال يستطيع أن يتمكن من الحكم إلا إذا فرضَ الإرهاب بالحديد والنار… فقد فرض الإرهاب بالحديد والنار… فرض الإرهاب بالدم… إنه حكم فاشيستي لا يمثل الشعب بأي حال من الأحوال؛ إنه حكم بنى وجوده على الدماء وعلى الإرهاب وعلى السجون”.

لقد صدق جمال عبد الناصر وهو كذوب، فالبعثيون كانوا فعلا “إرهابيين” وما حكموا سوى بالإرهاب والترهيب والقتل والتدمير، ولا زالت أحداث حماة الدموية تملأ آذان التاريخ، بل لا زالت البلدان التي حكموها تنتقل من إرهاب إلى إرهاب ومن دمار إلى دمار.

لكن هل كان عبد الناصر الذي يندد بإرهاب البعثيين رئيسا عادلا نزيها؟ أم كان هو أيضا من أكبر الإرهابيين؟

قبل أقل من تسع سنوات عن الخطبة المذكورة التي اتهم “زعيم” القوميين غرماءه البعثيين فيها بالإرهاب، كان عبد الناصر يخطب في عيد الحرية، فقام شخص مجهول بين الحشد الكبير، وأطلق ثمان رصاصات لم تصب أية واحدة منها عبد الناصر؛ فزع الناس واضطربوا، لكن عبد الناصر “الزعيم” لم ينحنِ لم يخَف ولَم يتلعثم، بل استمر يقول للحشود المذعورة وهو رابط الجأش: “أيها الرجال فليبق كل في مكانه.. أيها الرجال فليبق كل في مكانه.. أيها الرجال فليبق كل في مكانه.. أيها الرجال فليبق كل في مكانه.. أيها الرجال فليبق كل في مكانه.. دمي فداء لكم.. حياتي فداء لكم، أيها الرجال أيها الأحرار دمي فداء لكم حياتي فداء لكم.. هذا جمال عبد الناصر يتكلم إليكم بحول الله، بعد أن حاول المغرضون أن يعتدوا عليه وعلى حياته..، حياتي فداء لكم ودمي فداء لكم أيها الرجال أيها الأحرار إن جمال عبد الناصر مِلك لكم وإن حياة جمال عبد الناصر مِلك لكم، أيها الناس أيها الرجال”.

لم ينحنِ ولم يخف لأن العملية “الإرهابية” كانت من صنع مخابراته لتصفية حساباته السياسية مع الإسلاميين الذين أوصلوه إلى عرش مصر فغدر بهم ونصب لزعمائهم المشانق، فعلق عليها خيرة أهل مصر في مقدمتهم القاضي المحامي الشيخ عبد القادر عودة والشيخ محمد فرغلي ويوسف طلعت وإبراهيم الطيب المحامي وهنداوي دوير المحامي ومحمود عبد اللطيف وذلك بعد اتهام جماعة الإخوان المسلمين بمحاولة اغتيال عبد الناصر في حادثة المنشية عام 1954م.

هكذا كانت تهمة الإرهاب لدى زعماء القومية العربية وسدنة حزب البعث تتخذ ذريعة لتصفية النزهاء والعاملين ليعيشوا هم، ويبيعوا كل القضايا للصهاينة والغرب، وعلى رأسها قضية القدس الشريف.

إلا أن تهمة “الإرهاب” ستعرف تطويرا كبيرا بعد أحداث البرجين الأمريكيين في 11 من شتنبر 2001، حيث انتقلت من كونها مِتْراسا وذريعة لتصفية الخصوم السياسيين والإسلاميين، لتصبح ذريعة لـِ”تصفية” الإسلام نفسه، فأصبحنا نسمع دعوات لقراءة جديدة للإسلام ونصوصه، حتى يتلاءم مع مقتضيات العلمانية الغربية؛ بل أصبح تطويع الإسلام لواجبات العلمانية مشروع دول كالإمارات التي تصرف بسخاء على مؤسسة مؤمنون بلا حدود وعلى مشروع السلم البِنْبِياوي.

لكن المضحك حد القرف أن يكتب يونس دافقير رئيس تحرير جريدة علمانية حاقدة (الأحداث المغربية)، مطالبا إخوانه “الحداثيين” بالتضامن مع علماء المجالس العلمية وألا يحمِّلهم العلمانيون ما يقترفه مَن أسماهم “حمقى الله”، وفكرته قد شرحها هو قائلا: “وفكرتي بسيطة: قد لا يكون أداء العلماء مقنعا للكثيرين منا، لكنهم اشتغلوا وأنتجوا في حدود المتاح عمليا وقانونيا، وسيكون مجانبا للصواب أن نحملهم مسؤولية ما يقترفه حمقى الله باسم الدين. لقد اجتهدوا وأصابوا وأخطؤوا، وهم يحتاجون إلى دعمنا واحتضاننا.. هم في البدء والمنتهى، حليفنا الموضوعي، نحن الحداثيين، في الحرب على الإرهاب والتطرف. ونحتاج لكثير من الحذر حتى لا نصير حلفاء موضوعيين لخصومهم الإيديولوجيين”. الأحداث المغربية الثلاثاء 25 دجنبر 2018.

دافقير هذا الذي يدافع عن العلماء ويعتبرهم حلفاءه كتب عن العيد الأكبر لدى المسلمين، عيد الأضحى، في تدوينة سابقة له وهو رئيس تحرير الصحيفة الحاقدة إن “ما يسمى عيد الأضحى هو التحالف التجاري الموضوعي بين تجار الدين وكبار الملاك الزراعيين ضد فقراء الوطن باسم خرافة كبش نزل من السماء”.

فهل أصبح علماؤنا حلفاء للعلمانيين اللادينيين؟؟

هذا سؤال موجه للوزير أحمد توفيق والأستاذ محمد يسف، وإن كانت الإجابة واضحة من خلال عدد الخطباء والعلماء المعزولين والذين تجمع بينهم قواسم مشتركة أهمها الرد على العلمانيين ونقد الواقع على ضوء الشريعة الإسلامية.

فتهمة الإرهاب والتطرف أصبحت المتراس الذي يختبئ وراءه كل معادٍ للإسلام من الملحدين للنيل من تاريخ الأمة وشريعتها، وذريعة لكل علماني لاديني حاقد على شرائع المسلمين وعقائدهم، يتوسل بها لتحريف نصوص الدين بتحريف دلالات مضامينها، وإبطال مفاهيمها؛ والتي أصبحت نهبا لِـ”ضباع الإرهاب وذئابه المنفردة” على السواء.

وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.

آخر اﻷخبار
2 تعليقان
  1. كنت أتمنى من أستاذي إبراهيم الطالب أن يسترسل في مقاله هذا الذي يجمع بين استحضارالمعلومات التاريخية المعاصرة المهمة ، وبين حسن الأداء الذي يفهمه الجميع ، أما حسن اختيار الموضوع الذي يناسب السياق الزماني والمكاني فظاهر؛ فمناقشة بني علمان تحتاج لمن يتابع إنتاجهم الفكري والأيديولوجي، والخلفيات التي ينطلقون منها،
    فالرد عليهم يكون بفهم فكرتهم ثم نقدها نقدا موضوعيا ،
    فالذي يقول بتاريخية النص الديني مثلا -أي أن القرآن صالح للجزيرة العربية فقط ، ولا يتجاوز القرن السابع ميلادي –
    لابد أن نناقشه بطريقة خاصة ، وأن ننطلق من نفس الأرضية التي يقف عليها ، ولعل هذا ما وفق له الأستاذ إبراهيم الطالب .

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M