البحث الأركيولوجي يثبت وجود أبي بكر وعمر رضي الله عنهما

14 يوليو 2019 00:47
البحث الأركيولوجي يثبت وجود أبي بكر وعمر رضي الله عنهما

هوية بريس – حسن فاضلي أبو الفضل

مقدمة

قديما كانت الشبه والشكوك تُثار حول الإسلام وتراثه من طرف العلماء الغربيين والمنصرين والمستشرقين الأفذاذ كإرنست رينان Ernest Renan ومونتغمريMontgomery و بول Buhl وتلامذتهم المجدين كأحمد أمين  في كتابه (فجرالإسلام )و( ضحى الإسلام) و طه حسين في كتابه ( الشيخان) و(الفتنة الكبرى) وغيرهم، بحيث يحتاج معها الباحث المسلم إلى دربة وسعة اطلاع لدفعها و إبطالها. أما في يومنا هذا فأصبح كل من هب ودب له مطمع في إثارة الشكوك حول الإسلام وتراثه وتاريخه وشخصياته ورموزه، وما يصدر عن هؤلاء في حقيقة أمره لا يعدو أن يكون تخريفا وهذيانا لا يرقى إلى مستوى الشبهة من حيث كونها شبهة فقط !

يقول (الصحافي) المدعو رشيد أيلال “لا وجود لأي وثيقة تاريخية تثبت الوجود الحقيقي والفعلي لهذين الخليفتين (أبوبكر وعمر)”، ويقول بعد ذلك بأيام قليلة ” كلامي واضح: قلت بانعدام وثيقة تاريخية ملموسة على وجود أبي بكر وعمر، إذا كانت لديك الوثيقة فأهلا، وإلا فالصمت أفضل لك حفضا لماء وجهك “.

الذي يظهر ابتداءً أن هذا الشخص لا يميز بين الوثيقة التاريخية والمخطوط أو بين الوثيقة التاريخية والنقش الأثري، فالوثيقة التاريخية بما هي مادة خام يصوغ منها الباحث نسيجه التاريخي للمرحلة المراد دراستها، تتشكل من: المباني والأسلحة والملابس والحلي والكتابات المنقوشة على الحجارة أو المخطوط على الجلد والورق، كما تشمل المستندات من رسائل و منشورات وسجلات ونصوص معاهدات وفتاوى وغيرها.والمؤكد أنه لا يقصد هذا كله، بل يقصد النقوش و المخطوطات ولكنه يخلط ولا يميز بينهم .

1- المحور الأول: البحث الأركيولوجي يثبت وجود الخليفتين (أبا بكر وعمر رضي الله عنهما) .

ليس قصدنا من بحثنا إثبات الوجود الحقيقي للصحابيين، فالتشكيك في وجودهم كالتشكيك في كون أيام الأسبوع سبعة، وليس كلامنا موجها لأصحاب هذه التخاريف ولا نقصدهم بالرد، فهم أقل من ذلك بكثير. و إنما مرادنا إثبات الوجود الفعلي لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما بدليل خاص، هو دليل النقوش الأثرية المبكرة، إزالة للغبش الذي قد يحصل عند عموم الناس في هذه القضية بالتحديد، ولتطمئن به قلوبهم .

لنتجاوز إذن مئات الآلاف من الأدلة القطعية التي تثبت الوجود الحقيقي للخليفتين رضي الله عنهما، ولنتجاوز الأسئلة المنطقية /التاريخية /السياسية التي يدل الجواب عنها على وجود الصحابيين رضي الله عنهما، من قبيل: من تولى خلافة المسلمين من عام 11 إلى 13 هجرية ؟ من هو الشخص الذي بايعه الصحابة في السقيفة ؟ من بعث أسامة بن زيد رضي الله عنه إلى أرض البلقاء بالشام ؟ من خاض معركة ذي القصة ؟ من بعث المهاجر بن أبي أمية إلى اليمن ؟ من هو والد عائشة زوج النبي عليه الصلاة والسلام ؟ من تولى خلافة المسلمين من عام 13إلى 23 هجرية ؟ من هو الشخص الذي بايعته الأمة بالإجماع في اليوم الموالي لوفاة أبي بكر رضي الله عنه ؟ من بعث سعد بن أبي وقاص إلى العراق ؟ من أرسل النعمان بن مقرن المزني إلى نهاوند ؟ من عين أبا عبيدة بن الجراح قائدا عاما على جيش الفتح في بلاد الشام ؟ من هو الصحابي الذي عمر الكعبة بعد السيل في العام 17 للهجرة ؟ من هو مؤسس مدين الكوفة ؟ من هو أول من دون الدواوين في الإسلام ؟ من جعل أبا الدرداء رضي الله عنه قاضيا على دمشق ؟ من هو الصحابي الذي تآمر الهرمزان و أبولؤلؤة المجوسي على قتله ؟ من هو الصحابي الذي طُعن بخنجر مسموم فجر الأربعاء 26 ذي الحجة سنة 23 للهجرة ؟ من هو والد حفصة زوج النبي عليه الصلاة والسلام ؟؟؟ وغيرها من ملايين الأسئلة التي يكون الجواب عن واحد منها إثباتا قطعيا بوجودالخليفتين رضي الله عنمها .

لنتجاوز ذلك كله إلى نوع خاص من الأدلة هو ما تعلق بالوثائق التاريخية ، وهي – كما هو معلوم عند أهل الاختصاص- تنقسم إلى قسمين؛ الأول: وثائق تاريخية صامتة كالأسلحة والمباني والملابس والأواني وغيرها، والثاني: وثائق تاريخية مكتوبة كالكتابات المنقوشة على الأحجار أو المخطوطة على الجلود أو الورق أو غيره …

سنقتصر من بين هذه الوثائق التاريخية على أدلة النقوش فقط(1)، ودراسة النقوش وفك رموزها وحروفها من اختصاص علم الآثار (Archaeology)، وهذه أدلتنا:

الدليل الأول: قام عالم الآثار جورج مايلزGeorge C. Miles بكتابة بحث بعنوان ” نقوش إسلامية مبكرة بالقرب من الطائف في الحجاز” نشر فيه عددا من النقوش العربية المبكر بمنطقة الطائف.

تم العثور على هذا النقش في جبال سَلع في المدينة المنورة بالخط الحجازي الذي اشتق منه الخط الكوفي، وقد نقش بتاريخ 626م / 5 هجرية (c.5 AH or c. 626 CE)، وقراءته كالتالي “حكيم و يومن بال عمر ابن ال بكر انا عمارة ابن حزم انا ميمون..انا محمد ن عبد الله انا م…بن عوسجة انا خلف انا سليمان(الأحمر؟) انا..انا سهل ابن..انا معقل الجهيني يا الله انا..انا سعد بن معذ….ابنء….انا….انا علي بن ابوطلب مـ محمد يقبل الله عمر الله يفعل عمر بالمغفرة المومنونالحقى بالصلحين يجعل الله عمر من اهل الجنة وابوبكر بعمل المومنين”.

البحث الأركيولوجي يثبت وجود أبي بكر وعمر رضي الله عنهما

المصدر: George. C. Miles, “Early Islamic Inscriptions NearTa’if In The Hijaz”, Journal Of Near Eastern Studies, 1948, Volume VII, p. 240

https://www.jstor.org/stable/542216?seq=1#page_scan_tab_contents

الدليل الثاني: تم العثور على هذا النقش أيضا في جبال سلع ، وقراءته كما يلي: “أمسى و أصبح عمر و أبوبكر يتودعان (أي يتوبان ويتضرعان) إلى الله”.

البحث الأركيولوجي يثبت وجود أبي بكر وعمر رضي الله عنهما

المصدر: Mohammad.Hamidullah, “Some Arabic Inscriptions OfMedinah Of The Early Years Of Hijrah”, Islamic Culture, 1939, Volume XIII, pp. 427-439

https://pdfs.semanticscholar.org/8178/9fe5edb50f8ac96759513f9a74a6042ef3b8.pdf

الدليل الثالث: في سنة 2012 قام مجموعة من الباحثين الفرنسيين والسعوديين بمسح أركيولوجي لمنطقة نجران، اكتشفوا من خلاله مجموعة من النقوش منها نقش لاسم “عمر بن الخطاب” رضي الله عنهيعود لعام 23 للهجرة (Before 23 AH / 644 CE)، وقد قام بنشرها عالم الآثار وأستاذ ديداكتيك اللغة العربية والنقوش الإسلامية في جامعة مرسيليافرديريكأمبرتFrédéric IMBERT

البحث الأركيولوجي يثبت وجود أبي بكر وعمر رضي الله عنهما

المصدر: FredericImbert, “Graffiti Arabes De Cnide Et De Kos: Premières Traces Épigraphiques De La ConquêteMusulmaneEnMerÉgée”, Travaux Et Mémoires, 2013, Volume 17, pp. 757-758

https://www.academia.edu/30937076/Graffiti_arabes_de_Cnide_et_de_Kos_premi%C3%A8res_traces_%C3%A9pigraphiques_de_la_conqu%C3%AAte_musulmane_en_mer_Eg%C3%A9e

الدليل الرابع: في عام 1999 اكتشف الدكتور علي بن إبراهيم الغبّان رفقة زوجته الدكتورة حياة الكلابي نقوشا أثرية في المنطقة الواقعة بين العلا والحجر(مدائن صالح)، منها نقش يؤرخ لوفاة عمر رضي الله عنه ويعود تاريخه لعام 24 للهجرة /644 م (24 AH / 644 – CE)، وقراءته كالتالي: “بسم الله/ أنا زهير كتبت زمن توفي عمر سنة أربع/ وعشرين”. وقد ترجم ورقة الاكتشاف إلى الإنجليزية وعلق عليها عالم الآثار د.روبرتهويلاندRobert Hoyland .

ونظرا لشهرة هذا النقش الأثري وذيوعه في الأوساط العلمية، ونظرا لأهميته التأريخية والإثباتية فقد أثار الملحدونوالمنصرون وأتباعهم في منتدياتهم شكوكا واعتراضات حوله، نوردها وغيرها في المحور الثاني من هذا البحث ثم نبطلها وندفعها واحدة واحدة.

البحث الأركيولوجي يثبت وجود أبي بكر وعمر رضي الله عنهما

المصدر: Ali. I. Ghabban, “NaqshZuhayr: AqdamNaqshIslāmī”, Arabia, 2003, Volume I, pp. 293-342

Robert Hoyland, “Epigraphy And The Linguistic Background Of The Qur’ān” in G. S. Reynolds (Ed.), The Qur’ān In Its Historical Context, 2008, Routledge Studies in the Qur’an, Routledge: London & New York, p. 62 and p. 68 note 42

https://www.academia.edu/3576977/The_Inscription_of_Zuhayr_the_oldest_Islamic_Inscription_AH_24_AD_644

https://www.academia.edu/9939415/Califes_princes_et_compagnons_dans_les_graffiti_du_d%C3%A9but_de_lIslam

الدليل الخامس: نشر الدكتور Frederic Imbert نقشا عثر عليه بمنطقة تيمة يؤرخ لمقتل الصحابي عثمان بن عفان رضي الله عنه، ويعود لسنة 36 للهجرة (c. 36 AH / 656 CE) وقراءته كالتالي: “انا قيس ا لكتب ابو كتير لعن ا لله من قتل عثمن بن عفن و من احت قتله تقتيلا”.

البحث الأركيولوجي يثبت وجود أبي بكر وعمر رضي الله عنهما

المصدر: FredericImbert, “Califes, Princes et Poètes Dans Les Graffiti du Début de l’Islam”, Romano-Arabica, 2015, Volume 15, pp. 65-66 and p. 75 (Fig. 3).

https://www.academia.edu/9939415/Califes_princes_et_compagnons_dans_les_graffiti_du_d%C3%A9but_de_lIslam

الدليل السادس: يذكر عالم الآثار فردريك أمبرت أنه تم العثور على نقوش أخرى في نجران تحمل اسم عمر بن الخطاب، وقد نشر تفريغ النقش على موقع أكاديميا، وقراءته كالتالي: “عمر بن الخطاب بالله يثق”، وهذا المضمون في النقوش الإسلامية المبكرة  ليس فريدا ولا وحيدا، فقد نشر غروهمان نقشا جاء في قراءته ” يزيد بن عبد الرؤوف بالله واثق”

البحث الأركيولوجي يثبت وجود أبي بكر وعمر رضي الله عنهما

المصدر: https://www.academia.edu/9939415/Califes_princes_et_compagnons_dans_les_graffiti_du_d%C3%A9but_de_lIslam

https://www.aibl.fr/seances-et-manifestations/les-seances-du-vendredi/seances-2013/avril-2013/article/seance-du-26-avril-2013?lang=fr

الدليل السابع: يعود هذا النقش  الذي عثر عليه في وادي الخنق شرق المدينة المنورة إلى عام 58 للهجرة، وقد قام الدكتور سعد بن عبد العزيز الراشد بتصويره ودراسته. وقراءته كالتالي: “هذا السد لعبد الله معاوية أمير المؤمنين بناه عبد الله بن صخر بإذن الله لسنة ثمان وخمسين اللهم اغفر لعبد الله معاوية أمير المؤمنين وثبته و انصره ومتع المؤمنين به كتب عمرو بن حباب”.

البحث الأركيولوجي يثبت وجود أبي بكر وعمر رضي الله عنهما

المصدر: George.C. Miles, “Early Islamic Inscriptions NearTaif in the Hijaz “Journal of Near Eastern Studies, 1948, pp. 236-242

https://www.scribd.com/document/335513853/Early-Islamic-Inscriptions-near-Taif-in-The-Hijaz

عبد العزيز الراشد، دراسات في الآثار الإسلامية المبكرة بالمدينة المنورة.

عبد العزيز الراشد، كتابات إسلامية من مكة المكرمة: دراسة وتحقيق.

المحور الثاني: إبطال الشكوك ودفع الاعتراضات التي أثيرت حول بعض النقوش

لم يكن الملحد العربي سباقا لإثارة الشكوك حول هذه النقوش بل لم يكن يعرفها أصلا، ولم تكن جماعات التنصير أول من أشار إلى ذلك، بل كان المستشرقون أول من عاند الحقيقة وتحامل على تاريخ المسلمين وتراثهم. ولأن هذه الوثائق التاريخية تعتبر دليلا ماديا قويا على حقيقة البعثة النبوية وحقيقة الأحداث التاريخية للصدر الإسلامي الأول وما بعده، فقد حاول هؤلاء إثارة أكبر قدر من الشكوك والاعتراضات على الوثائق تقليلا من مصداقيتها و إثارة الريبة في نفوس المسلمين، ثم جاء الملحد العربي الكسول ليبث اجتهادات غيره في كتبه ومقالاته من غير أدنى جهد للتثبت من صحتها ومتانتها وقوتها، ثم جاء كسول آخر ينقل عن الكسول الأول موهما نفسه وغيره أنه جاء بجديد وما هو بجديد .

يقول واحد من هؤلاء  ” أما نقش زهير فهو كذبة تاريخية مزورة، حيث أن الخط الكوفي الذي كُتب به النقش لم يتم ابتكاره إلا في عهد عبد الملك بن مروان، كما أن النقش يثبت التنقيط وحروف المد بشكل واضح …”!(2)

يظهر أن هذا الشخص لا يميز بين الخط الكوفي وبين الخط الحجازي (المكي/ المدني) ، كما أنه  لا يعرف مراحل تطور الخط العربي ، ولذلك زعم أن النقط/الإعجام لم يظهر إلا في عهد عبدالملك بن مروان!

إن دراسة نقش زهير (الدليل الرابع) تبين أنه تم بالحزّ السطحي بالخط الحجازي الذي كان منتشرا في مكة والمدينة آنذاك، ثم قل تداوله خارج الحجاز بعد شيوع الخط الكوفي، واستمر داخلها؛ ذلك أن الخط الحجازي (المكي والمدني) هو أقدم الخطوط العربية ومنه اشتقت جميع الأقلام. وعن سمات النظام الكتابي في صدر الإسلام يقول الدكتور صالح بن إبراهيم الحسن “ورثت الكتابة العربية من أصلها النبطي أصولها السامية، ولعل أبرزها الأخذ بالاتجاه المُتيامن في الكتابة… وظهرت آثار التشكيل النهائي في بنية الحروف، كما ألمحت بعض الشواهد على قلتها في هذه الفترة على ملامح إعجامية لتمييز بعض الحروف”(3)، وبهذا الخط الحجازيوردتنقوش: زبد 512موجبلأسس 528موحران 568م. ومن الإشارات والدلائل والآثار على وجود الإعجام منذ العهد الأول للإسلام ما جاء “عن محمد بن عبيد بن أوس الغسّاني، كاتب معاوية، قال: حدثني أبي، قال: كتبت بين يدي معاوية كتابا، فقال لي: يا عبيد ارقُش كتابك، فإني كتبتُ بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا رقشته، قال: وما رقشه يا أمير المؤمنين؟ قال: أعط كل حرف ما ينوبه من النقط“(4).

كما أن كتابات العهد النبوي والخلافة الراشدة لا تختلف كثيرا عن الكتابات في الجاهلية ، غير أنها أصبحت ” أكثر وضوحا وارتباطا واستقامة، كالألف والدال والهاء والتاء، وقد ظهر الإعجام في بعض الحروف لتوضيح الفروق بين الحروف والحروف المشابهة لها في الرسم “(5)، كما هو الشأن في برديةاهناسية سنة 22 للهجرة/642 م، المحفوظة في المكتبة الوطنية في فيينا في مجموعة رينر رقم 558 (6)

ويصف الدكتور يحي وهيب الجبوري هذه البردية بقوله ” تمتاز كتابة هذه البردية بأنها طويلة، وتضم جميع الحروف العربية بأشكالها المختلفة، وأن بعض حروفها فيها نقط كحرف النون والشين والزاي والذال والخاء، وحروفها ممدودة…”(7). بل إند.جورج شهلا في كتابه (قصة الألفباء) و ناصر الأسد في كتابه (مصادر الشعر الجاهلي) قد أرجعا ظهور الإعجام والنقط إلى  العصر الجاهلي مستدلين على ذلك باستعمال كلمتي (الرقش والترقيش) في الشعر الجاهلي، كقول طرفة بن العبد في قصيدته (أشجَاكَ الرَّبعُ أم قدَمُهْ):

كسُطُورِ الرّقّ، رَقّشَهُ،******فبالضّحَى، مُرَقِّشٌ يَشِمُهْ(8)

ومعنى الرقش والترقيش؛ أي الكتابة والتنقيط، ويقال حية رقشاء إذا كان فيها نقط سوداء وبيضاء. فلا غرابة إذن إذا كانت بوادر النقط قد ظهرت في الجاهلية متى عُلم أن أقدم مرويات اللغة العربية يصل إلى خمسمائة سنة قبل البعثة النبوية، وأن أقدم النقوش التي ظهرت فيها اللغة العربية تعود لمنتصف القرن الثالث الميلادي(250-560م) حيث دون بها نقش أم الجمال الأول(9).

لا يستطيع أحد من الكسالى أن يجزم أن النقط/الإعجام في اللغة العربية ظهر مع الأمويين ابتداءً وأنه لم يكن قبل ذلك، بل الحاصل مع الأمويين هو نضوج الحرف العربي واكتمال هندسته وانتشار نقطه بين الناس.

ويورد المذكور أعلاه اعتراضا اخر هو كون زهيرا المذكور في النقش غير معروف ولا أحد يعرفه. والذي يورد مثل هذا الاعتراض يحكم على نفسه بعدم الاطلاع، فالدكتور الغبان نفسه مكتشف النقش  صرح بأنه عثر على نقش أسفل النقش الأساسي كتب عليه اسم زهير منسوبا (زهير مولى ابنت شيبة) (راجع ورقة الاكتشاف للغبّان). كما أن عدم ذكر البسملة كاملة كان عرفا شائعا كما ضُرب على الدراهم الساسانية أيام عمر بن الخطاب و عثمان رضي الله عنهما.

بقي أن يقال إن وفاة عمر رضي الله عنه كانت عام 23 للهجرة ونقش زهير يثبت أنه توفي عام 24 للهجرة، فهل زهير يقصد عمر بن الخطاب أم يقصد عمرا آخر؟

طُعن عمر رضي الله عنه في آخر ذي الحجة من عام 23 للهجرة، وذو الحجة هو آخر الشهور في العام الهجري، ودفن في فاتح محرم عام 24 للهجرة وبعدها بأيام قليلة بويع لعثمان رضي الله عنه. وسواء أثبت الكاتب عام 23 أو 24 فإن المقصود واحد؛ لأن الفارق بينهما أيام قلائل تفصل بين الوفاة والدفن.

ومن المزاعم الباطلة التي يثيرها المستشرقون وتبعهم في ذلك المتنصرونوالملحدون الكسالى الناقلون المجترون هو الاختلاف في نسب أبي بكر رضي الله عنه. فلما ترجم له المستشرق بولBuhl قال “أبوبكر عبد الله، ولقبه عتيق، ولقد اختلفت الروايات في أصل هذا اللقب “(10)، وزعم مونتغمريMontgomery أن المراد بعتيق (العبد المعتق!)، وهو تحامل كبير من هذا المستشرق؛ ذلك أن العلماء المحققين لم يختلفوا في كون اسمه هو عبد الله وأن لقبه هو عتيق. يقول ابن عبد البر رحمه الله بعد تعريفه باسمه ونسبه “لم يختلفوا في اسمه ولا اسم أبيه، وكذلك لم يختلفوا أن لقبه عتيق…”(11).

وعتيق لا تدل على المعنى الذي أراده مونتغمري، بل إن معناه العتيق من النار، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “من سره أن ينظر إلى عتيق من النار فلينظر إلى أبي بكر”(12).

ويضيف صاحبنا الذي ينقل عن غيره قائلا” وقد أثبت خبير النقوش روبيرت كير التابع لجامعة سار بروكن الألمانية زيف نقش زهير بأدلة قوية على الأقل مرتين…” (نفس المقال المذكور إعلاه) هكذا!

بحثت عن هذا الاسم (روبرت كيرRobert Ker) فوجدت شخصين: الأول من المملكة المتحدة وهوعالم حيواني ومؤرخ توفي سنة 1813م؛ أي قبل اكتشاف هذه النقوش، والثاني من الولايات المتحدة الأمريكية وهو سياسي ينتمي للحزب الديموقراطي، توفي سنة 1963 ولا علاقة له بالنقوش.. فمن يكون هذا الروبيرت كير؟ وماهي كتبه وبحوثه التي أثبت فيها زيف هذه النقوش؟ وماهي المجلات العلمية التي نشر فيها بحوثه؟

في (مقاله) المنشور لم يذكر صاحبنا مصدر كلامه، ولا المواقع العلمية التي نقل عنها، ولم يذكر أدلته، ولا أدلة (روبيرت كير). أما جملته الأدبية هاته “أما نقش زهير فهو كذبة تاريخية مزورة” فلا قيمة لها عندنا ولا مكانة لها في التحقيق والبحث العلمي.

إن حقيقة هذه النقوش قد أثبتها المؤرخ وعالم الآثار الأمريكي روبرتهويلاند Robert Hoyland لما ترجم وعلق على بحث الاكتشاف الذي تقدم به الدكتور الغبّان، بل قد أظهر إعجابه بهذا الاكتشاف(13).

كما أن أستاذ ديداكتيك اللغة العربية والنقوش الإسلامية في جامعة مرسيليا فريدريك إمبرت FrédéricImbert تحدث عن هذه النقوش وأثبتها واعتبرها مصدرا لا ينضب للمعلومات عن أصول المجتمع الإسلامي، ذكرت فيها أسماء لأشخاص مشهورين كالخلفاء الراشدين عمر وعثمان(رضي الله عنه). فهاهو ذا الدكتور إمبرت يثبت النقش ويثبت الوجود الحقيقي للخليفة عمر رضي الله عنه(14). فلو كان هذا النقش مزورا لكان أول من وقف على ذلك هما العالمان هويلاند و أمبرت.

قد تثار بعض الشكوك حول تاريخ النقش الأول وأنه لا يعرف تاريخ كتابته، كما أن كاتبه لم يصرح بشيء من ذلك. وهذا الأمر طبيعي للغاية، فالمسلمون لم يشرعوا في كتابة تاريخهم إلا في عهد عمر رضي الله عنه عام 16 للهجرة، وقد قدر العالم المؤرخ محمد حميد الله أنها تعود للسنة الخامسة للهجرة، مستدلا في ذلك بكون جبل سَلع الذي عثر فيه على النقش كان قاعدة للمسلمين في معركة الخندق التي وقعت في شوال من السنة الخامسة، حيث كان المقاتلون يتخذون سرادق بني حرم موضعا للاستراحة، وموطن بني حرم كان على مقربة من سلع، فيكون بعض المقاتلين قد كتبوا هذه النقوش. ومستندا في ذكر التاريخ السابق على ورود أسماء صحابة مشهورين في هذه النقوش كعمر و أبي بكر وعلي بن أبي طالب وعمارة بن حزم، وقد كان هذا الجبل (سلع) مسرحا لأحداث غزوة الخندق، كما أن الصحابة الذين ذكرت أسماؤهم في النقوش وخاضوا المعركة كانوا يعرفون القراءة والكتابة(15)، ويعزز ذلك قول الطبري رحمه الله في وصف تحركات جيش المسلمين في هذه المعركة ” ثم تيمموا مكانا في الخندق ضيقا، فضربوا خيولهم فاقتحمت منه، فمالت بهم في السبخة بين الخندق وسَلع”(16).

ورغم انفصالهما استدلاليا عن موضوعنا الأصلي إلا أننا أوردنا نقش عثمان ونقش معاوية رضي الله عنهما، لاتصالهما التاريخي والسياسي بشخصيتنا الأساسية (عمر رضي الله عنه)؛ فالأول تولى الخلافة بعده مباشرة، إذ لو لم يكن عمر خليفة للمسلمين قبل عثمان، فمن كان الخليفة إذن ؟ .والثاني ولاّه عمر على بعض مناطق الشام واتسعت ولايته في عهد عثمان قبل أن يُعزل في عهد علي رضي الله عنهم جميعا، إذ لو لم يكن عمر هو من ولاّه على هذه المناطق، فمن هو الخليفة الذي ولاّه إذن؟

خاتمة:

في هذه الخاتمة نجيب عن التساؤل التالي: هل الشبهات والشكوك المثارة حول التراث الإسلامي من اجتهاد هؤلاء الكتاب الكسالى؟ أم هي أفكار غيرهم ؟ وهل يستطيع واحد من هؤلاء أن يبدع شبهة واحدة جديدة لم يسبق إليها المستشرقون؟

لم يسبق لنا أن وقفنا على شبهة من شبه هؤلاء الكسالى ولم نجد لها فكرتها أو نصها عند المستشرقين، فكل ما يخطه هؤلاء إنما هو إعادة لفكر المستشرقين وتدريب على إعمال مناهجهم في دراسة التراث بلغة ضعيفة و أسلوب ركيك. فكل الشبه التي أثيرت حول مخطوطات القرآن وحجية السنة وعدالة الصحابة ومنهج النقد عند المحدّثين والخلافات السياسية بين الصحابة رضي الله عنهم…الخ كلها من وضع المستشرقين، فأين موقع الكتاب الكسالى من الاجتهاد و إعمال العقل ؟! وهل عجزوا جميعا عن الإتيان بشبهة جديدة مُحدثة؟

إننا لا نجد صعوبة في تفنيد شبههم و إبطال شكوكهم ودفع اعتراضاتهم لخلوها من المتانة والرصانة العلمية، ولافتقادها للتماسك والوحدة المنطقية، وعجزها عن الإقناع والإحاطة بالموضوع. غير أنها تضيع علينا أوقاتنا في بيان هشاشتها، وحري بنا أن نصرف أوقاتنا فيما هو أولى…والله أعلم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصادر:

1- للمزيد راجع كتاب (أركيولوجية الإسلام: آثار مكة والإسلام وأخباره الأولى)، م.أحمد حسن

2- مقال بعنوان (التاريخ المادي يجهل الخليفتين أبا بكر وعمر).

3- الكتابة العربية من النقوش إلى الكتاب المخطوط،ص:72

4- السيوطي،تدريب الراوي،ج2،ص: 67/ الخطيب البغدادي، الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع،م1،ص: 417،وغيرهم

5- يحي وهيب الجبوري،الخط والكتابة في الحضارة العربية،ص: 55

6- Adolf Grohmann: From the World of Arabic Papyri, Al Maaref press, p: 113

7- الخط والكتابة في الحضارة العربية،ص: 51

8- ديوان طرفة، شرح الشنتمري،ص68

9- د.أسامة ناصر النقشبندي، مبدأ ظهور الحروف العربية وتطورها لغاية القرن الأول الهجري، مجلةالمورد،ع4،ص: 93

10- دائرة المعارف الإسلامية،1/311،مادة: أبوبكر

11- الاستيعاب، 779،رقم: 2845/ أُسد الغابة،3/20،رقم: 3066.

12- أخرجه الحاكم،ح 4460،ص:880،وابن أبي عاصم والهيثمي بطرق وأسانيد مختلفة.

13- https://www.academia.edu/3576977/The_Inscription_of_Zuhayr_the_oldest_Islamic_Inscription_AH_24_AD_644_

14- https://www.academia.edu/9939415/Califes_princes_et_compagnons_dans_les_graffiti_du_d%C3%A9but_de_lIslam

15- الخط والكتابة في الحضارة العربية،يحي وهيب الجبوري،ص:49-50

16- تاريخ الطبري، 3/1475.

آخر اﻷخبار
1 comments
  1. شرح الكاتبة المنقوشة غير واضج حيث ان الحروف متصلة ولا يفهم جيدا ماهو مكتوب فالمرجو التوضيح اكثر وشكرا

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M