“التطبيع الجديد” مع “الكيان الصهيوني”: محاذير الخاصّة في صراع محتدم

14 أغسطس 2020 21:35
السيرة النبوية على ضوء شرطنا التاريخي.. قراءة في كتاب “متطوع مكة”

 هوية بريس – محمد زاوي

ليس عيبا أن تدافع الشعوب عن جغرافياتها وخصوصياتها وسيادات دولها بالإيديولوجيات (بالعقائد)، والعيب كل العيب أن تزيف تلك الأيديولوجيات وعي زعماء وقيادات أحزابها وحركاتها. واليوم، بعد أن طبّعت دولة الإمارات علاقاتها مع “الكيان الصهيوني”، تردد الشعوب (=العامة) والقيادات (=الخاصة) نفس الخطاب:

– التطبيع مع “الكيان الصهيوني” خيانة للأمة.

– يجب مقاطعة دولة “الإمارات”.

– فشل “الأنظمة” في الدفاع عن فلسطين وحقوق الشعب الفلسطيني، وبالتالي فشلها في مواجهة الكيان الصهيوني.

– القضية الفلسطينية قضية إسلامية، والصراع على فلسطين صراع عقدي.

– تحرّر الشعوب العربية من الاستبداد هو الحل السحري لأزمة الشعب الفلسطيني.

– أمريكا هي حامية “الكيان الصهيوني” في الوطن العربي.

…إلخ، من الأداليج والأحكام الزائفة والمواقف والمفاهيم الميتافيزيقية التي لا تخدم القضية كما هو مطلوب في عقل الخاصة، مهما كانت مفيدة لتحريك العامة وإبقاء القضية الفلسطينية حية في ذاكرتها وعاطفتها.

تعيش القضية الفلسطينية انتكاسة وعي ومقاومة معا، فهي من جهة غائبة في جوهرها وجذورها التاريخية عن وعي أغلب الخاصة، كما أنها بدأت من جهة أخرى تتلاشى في ذاكرة العامة وعاطفتها. وما ترديد المقولات أعلاه على أنها حقائق من قبل الخاصة إلا دليل على زيف وعيها وضعفها المنهجي وافتقارها للمعطيات، وإلا فكيف نفسر صدق المناضلين من أجل القضية وعمالتهم اللاواعية في نفس الوقت؟ وكيف نفسر الدفاع عن أرض فلسطين باستباحة أراضي أخرى للوطن العربي؟ وكيف نفسر الدعوة إلى وحدة الوطن العربي مقرونة بدعوة أخرى إلى ضرب الشعوب بالأنظمة، والثانية بالأولى؟… إلخ.

إنها إذن، عدة أخطاء تسقط فيها الخاصة وهي تناقش “القضية الفلسطينية”:

أولا: إدانة “التطبيع” دون تكبد عناء مناقشة دوافعه السياسية والاقتصادية، والحقيقة أن التطبيع ليس واحدا، فهو نتاج شروط تاريخية بعينها. ولذلك، فليس التطبيع مع “الكيان” في زمن جمال عبد الناصر، هو نفسه في زمننا هذا حيث يحتدم الصراع بين المجمعين الصناعيين المدني والعسكري في الداخل الأمريكي وخارجه.

ثانيا: الهوس ب”المقاطعة” والدعوة إليها بالرغم من شبه استحالتها واقعيا لدى كل الدول، والقرائن على ذلك عديدة. إنها شبه مستحيلة مع “الكيان”، فكيف ستكون ممكنة ومقبولة مع “الإمارات”؟

ثالثا: الدفاع عن القضية الفلسطينية بمعاداة الأنظمة العربية، واعتبار الديمقراطية شرطا لاستقلال الوطن العربي. وهذا حكم عام لا يستقيم تفصيلا لعدة اعتبارات: الأنظمة العربية ليست جُزرا مستقلة عن الرأسمال العالمي، لكل نظام مشاكله الخاصة به وهي في أغلبها مرتبطة بالسيادة والاستقلال، الديمقراطية ليست شرطا لاستقلال دول مجتمعاتها مخترقة ولا حديث في شرط الاستعمار والاختراق إلا عن الانتقال الديمقراطي (وهناك سياقات لا تحتمل الانتقال الديمقراطي نفسه)… إلخ. وكل هذه الاعتبارات لا تمنع الأنظمة العربية من الدفاع عن الوطن العربي وفلسطين في حدود المتاح والممكن تاريخيا، وغير ذلك: إما مثالية تضبّب الواقع وتدلّسه وتحول بينه وبين العقل، وإما تخاذل بحجة استحالة الإنقاذ والمقاومة.

رابعا: إهمال شروط التاريخ بالعقائد، وتزييف التناقض الرئيس الاقتصادي بتناقض آخر عقدي. والحقيقة أنه لا تعارض بين عقيدة “القضية” وجذورها التاريخية، وذلك رهين بمدى قدرة قيادة الحركات الاجتماعية العربية (حركات التحرر الوطني، وهي التي ضعفت وتراجعت، ومنها التي انحرفت أو انحلت وانقرضت) على استدعاء الخطاب العقدي لمعركة تم تحديدها تاريخيا كما يجب، بتناقضها الرئيس، وطرفيه (التناقض) الرئيس والثانوي… إلخ. ففي تفسيرنا اليوم، الصراع العربي-الصهيوني هو في الأصل صراع بين: الرأسمالية الاحتكارية الغربية (الأمريكية أساسا)، والبورجوازيات التبعية العربيةتجرّ معها باقي الطبقات الاجتماعية في هذه المعركة. يمثل “الكيان الصهيوني” الرأسمالية الاحتكارية الغربية في هذا الصراع، وذلك لعدة قرائن: فهو قاعدة من قواعدها العسكرية، وجهاز من أجهزتها المخابراتية، وذراع من أذرعها التجزيئية، وآلة من آلاتها المنقبة عن نفط “الوطن العربي”… إلخ. لا تشكل البورجوازيات العربية اليوم الطرف الرئيس في هذا التناقض الرئيس، بل إنها تشغل على الأرجح الطرف الثانوي فيه. فدولها مستعمرة استعمارا جديدا، ورأسمالاتها تبعية، وبعض دولها (أو أجزاء من دولها) محتلة (كفلسطين، وسبتة ومليلية في المغرب)، ومجتمعاتها وإداراتها مخترقة… إلخ. وفي المقابل، فإن الرأسمالية الغربية محتكِرة ومتمكنة من تصدير أزماتها إلى الوطن العربي، كما أنها ما تزال قادرة على إفقاره وتفكيكه وفرض التقسيم الدولي للعمل عليه وإضعاف حركاته الوطنية في مجتمعاتها وفي علاقتها بالإدارات… إلخ.

خامسا: “أمريكا” ليست وحدة لا تناقض فيها، إنها مجمّعان صناعيان مدني وعسكري، وكلاهما مطالبان بحماية “الكيان الصهيوني” في الوطن العربي، إلا أن تصورهما لهذه الحماية يختلف من مجمّع لآخر. فإذا كان المجمّع الأول يريد أن ينسحب دون أن يضر بمصالح “الكيان”، فإن الثاني يريد أن يؤمّنه لمزيد من الحروب والتجزئة والابتزاز وبيع الأسلحة والربح من اقتصاد القمار والدعارة والمخدرات… إلخ. وبقدر ما نحن مطالبون بعدم التفريط في حقوق الشعب الفلسطيني وحدود الوطن العربي، فنحن مطالبون أيضا بالبحث عن كيفية إنجاح خيار “ترامب” دون أن يكون ذلك على حسابنا وشعوبنا وتاريخنا ومقاوماتنا، وفي غيابالتشاور بيننا -إدارات دول وحركات اجتماعية-، كما فعلت “الإمارات العربية المتحدة”.

وحسبنا في ختام هذه التحليلات أن ننبه على الآتي:

من واجبنا التنديد بالتطبيع مع “الكيان الصهيوني” ورفضه، من واجبنا المسارعة لذلك قيادة وشعوبا حيث لا مهلة للانتظار. ولكن، من واجب الزعماء والقيادات أن يتريثوا قليلا أيضا، فتحت المبدأ إمكانات تاريخية تطلب مراعاتها واستحضارها مهما كان الموقف رافضا للتطبيع. بهذا تتميز الخاصة عن العامة، ودون هذا التميز خسارات أخرى وانتكاسات متعاقبة.

 

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M