الحركة الثقافية الأمازيغية.. مَن أسّسَها ومن يحركها؟

12 يناير 2021 12:45

هوية بريس – حسن فاضلي أبوالفضلالبحث الأركيولوجي يثبت وجود أبي بكر وعمر رضي الله عنهما

مقدمة

تحوم حول الحركة الثقافية الأمازيغية كثير من الشكوك، وتثير علاقاتها الريبة وتستدعي الحذر. شكوك تتعلق بتأسيسها وتمويلها وخططها وفكرها، وريبة حول الفاعلين الحقيقيين في تحريكها وتسخيرها وتوظيفها، وحذر من أهدافها نتائجها. فمن نظّر لها ومن صمّم علَمها؟ ومن يدعمها ويمسك مفاصلها؟ ولصالح من تقدم خدمتها في نهاية المطاف؟ وهل هذه الحركة تمثل الأمازيغ وتعبر عن تطلعاتهم؟

سيجد القارئ جواب ذلك أسفله، غير أن بعض القراء قد تزعجهم الحقائق الخالصة الواردة في البحث، وقد تصدمهم. ونحن نتوقع ذلك ونتفهّمه.

ولأننا أمازيغ، فيحق لنا أكاديميا وتاريخيا وثقافيا وعرقيا ولسانيا أن نكتب في هذا الموضوع، وأن نحقق النظر فيه ونتتبع خيوطه. ولا يمكن أن تكون النتائج أقرب للحقيقة وعين الصواب إلا إذا تجردت الذات الباحثة من سائر المؤثرات، وهذا ما نسعى إليه جاهدا، ولا نزعم بلوغ الكمال فيه.

أولا- هل الحركة الثقافية الأمازيغية تمثل الأمازيغ ؟

ينبغي أن يُعلم ابتداءً أن الحركة الثقافية(الأمازيغية) بأبعادها السياسية والفكرية، لها مؤسسوها ودوافع تأسيسها ومرجعيتعا الأيديولوجية ومصادرها المالية، تختلف تماما عن الأمازيغ بما هم شعب سكن الشمال الإفريقي منذ آلاف السنين، لهم عوائدهم وثقافتهم ولسان يخصهم كغيرهم من الأجناس البشرية. يقول الأستاذ محمد شفيق مبينا العمق الزمني وأصالة هذا الجنس البشري في الشمال الإفريقي : “والنتائج التي أفضت إليها البحوث أن سكان إفريقيا الشمالية الحاليين، في جملتهم لهم صلة وثيقة بالإنسان الذي استقر بهذه الديار منذ ما قبل التاريخ؛ أي منذ ما قُدر ب 9000 سنة “(1).

وقد اختلط هذا الجنس البشري  بغيره من الأجناس الأخرى كالفنيقيين والإغريق  والرومان والوندال والعرب وغيرهم، فشكلوا ما يسمى في العصر الحالي المغاربة (إمغرابيين). وأما بداية تأريخ أحداثهم فإنه يتجاوز 2971 سنة كما يُروج لذلك إعلاميا وشعبيا، إذ “يظهر أن أول قبيلة أمازيغية كبرى احتكت بقدماء المصريين احتكاك حرب(1227 ق.م) كانت تسمى ليبو وكانت مستوطنة لأراضي ليبيا الحالية “(2)؛ بما يعني أن أول حدث احتفظ به التاريخ وتمّ التأريخ له قد مرّ عليه 3248 سنة إلى حدود الساعة، وهذا ما عناه الأستاذ شفيق بعنوان كتابه ( ثلاثة وثلاثون قرنا )، وهو يتجاوز التاريخ المروج له إعلاميا ب ثلاثة قرون.

وإذا كانت بداية الحركة الثقافية (الأمازيغية) -بالمعنى السياسي والإيديولوجي- من منطقة (القبائل) في الجزائر، فإنها تحمل الخصوصية اللسانية والفكرية والثقافية لمنطقة التأسيس، كما تحمل في ذاتها خطط  وأهداف المؤسسين والداعمين  والممولين لها من غير الأمازيغ ! أهداف نجدها تتعارض في أساسها وتفاصيلها مع فكر ومبدإ الإنسان الأمازيغي الحر الذي يرفض أن توظف قضيته لتحقيق غايات وأهداف خسيسة؛ أقلها إثارةُّ النعرات والسعي وراء تفكيك بنية المجتمع الواحد.

ولمّا عُلم ذلك عندنا، فإنه يحملنا – نحن أمازيغ الأطلس- أن نرفض لعب هذا الدور القذر وأن نُوظَّف من طرف جهة ما كيفما كانت توظيفا سياسيا وأيديولوجيا وعقديا لضرب أمة الإسلام من الداخل مقابل المال، أمة نعتبر أنفسنا جزءا وعنصرا أساسيا من عناصرها، جاهد أجدادنا بأموالهم وأنفسهم في سبيل بقائها واستمراها، بل خدموا علومها بما لم يخدمها غيرهم وتحملوا أمانة تبليغ كتابها وشريعتها لغيرهم من الأجناس البشرية الأخرى في الأندلس وأمريكا وغيرها.

ثانيا- تأسيس الأكاديمية (البربرية/الأمازيغية)

أصدر الاحتلال الفرنسي  الظهير البربري(الأمازيغي) يوم 16 ماي 1930 م/ 17 ذي الحجة 1340هجرية، من أجل تحقيق الفُرقة بين مكونات الشعب المغربي، والذي نص على جعل إدارة المناطق البربرية تحت سلطة الإدارة الاستعمارية، فيما تبقى المناطق العربية تحت سلطة حكومة المخزن / السلطان المغربي، ولأجل ذلك تم إنشاء محاكم على أساس العرف والعادة الأمازيغية وإحلال قانون العقوبات الفرنسي محل قانون العقوبات المستمد إلى الشريعة الإسلامية. كان ذلك إعمالا حرفيا لقاعدة (فرّق تسد) التي تعتمدها الدول الاستعمارية والحكومات التابعة لها. غير أن الروح الوطنية المغربية – سواء كانت أمازيغية أم عربية – المتشبعة بمبادئ الدفاع عن الروح والدين والوطن، فطنت للخطة الفرنسية الماكرة  فعمدت إلى مقاومة هذا الظهير وإفشال الخطة، تمسكا بالوحدة الوطنية والشريعة الإسلامية .

وقد وافق ذلك تنامي الحركات التنصيرية (التبشيرية) في صفوف الأمازيغ، ولذلك قرر الكولونيل المستشرق بول مارتي  Paul Marty  في كتابه (مغرب الغد Le Maroc de demain) أن المدارس البربرية يجب أن تكون خلايا للسياسة الفرنسية وأدوات للدعاية، بدلا من أن تكون مراكز تربوية بالمعنى الصحيح .

وكان يمكن لكل هذه الخطط الماكرة  أن تنجح لوأن المغاربة الأمازيغ  فُرض عليهم الإسلام فرضا، أوأنه تمّ نشره بالحيلة والخديعة والترغيب في السلطة. والحقيقة أنهم – أي المغاربة الأمازيغ – قبِلوا الإسلام بعدما محصّوه ونظروا في عقائده وأحكامه وشرائعه وسياسته وأخلاقه،  وبعدما وقفوا على عدله وعدالة أحكامه وصدق نسبته إلى الله تعالى، فتعلّموه وعلّموه، بل نبغوا في التأليف فيه وكانوا قادة وأسيادا في تبليغه لشعوب الأرض . أدركت فرنسا المحتلة خلال أواخر ق 19 وبداية ق 20  قوة الرابطة الإيمانية والوحدة العقدية بين الأفراد مهما اختلفت ألسنتهم وأجناسهم وألوانهم، فعمدت إلى انتقاء بعض الأفراد من منطقة (القبائل) الجزائرية لتوظيفها توظيفا سافلا لإتمام المخطط التفريقي، تكون بدايته من القبائل ثم يتمّ تعميمه على باقي شعوب شمال إفريقيا. وذلك ما كان !

ففي سنة 1966 تأسست الأكاديمية البربرية (الجمعية الأمازيغية / أكْراوإمازيغن) من طرف عدد من الكتاب والفنانين كلهم من الجزائر وهم : عبد القادر رحماني، محند أعراب بسعود، يوسف عاشور، محند سعيد حنوز، أولحبيب جعفر، محمد أركون، طاووس عمروش والمؤسس الفعلي / الخفي جاك بينيت Jacques Benet . وإذا نظرنا إلى تاريخ هؤلاء نجد شيئا واحدا يجمعهم هوالولاء لفرنسا والعداء للإسلام؛ فجاك بنيت هوضابط يهودي/ صهيوني يرى في المسلمين العدوالأول الذي يجب القضاء عليه بنصوص التلمود، وطاووس عمروش فنانة نصرانية لا تُطيق سماع كلمة الإسلام، ومحمد أركون كتبه تُظهرعلاقته بالإسلام، فهولا يخجل من تبني المرجعية الفكرية والثقافية الفرنسية، ومحند أعراب بسعود يفصل بين الأمازيغية والإسلام ويجعلهم ضدان لا يجتمعان، ومحند سعيد حنوز لا يطيق شريعة الإسلام ويعدها مُحدَثة وغازية لبلاده …الخ

وفي سنة 1997 كان أول اجتماع دولي أمازيغي، وبعدها تبنى الكونغرس (العالمي) (الأمازيغي) العَلَم ذا الألوان الثلاثة : الأزرق- الأخضر- الأصفر. هذا العلم وإن كان يبدوفي الظاهر أن مصممه هومحند أعراب بسعود غير أن  مهندسه الحقيقي هوالضابط الصهيوني جاك بينيت، وسيُرجع له محند نفسه الفضل في تأسيس الأكاديمية  واصفا إياه ب”الصديق الكبير”، إذ ذكر في كتابه (تاريخ الأكاديمية البربرية  L’histoire de Lacademie berbère ) أن من واجب إخوانه البربر أن يذكروا اسمه مقرونا باسم صديقه الكبير جاك بينيت الذي قدم له مساعدة معنوية ومادية، ولولاه لما حققت خطته هذا النجاح. كذا قال !

فما الذي حمل هذا الضابط  “بينيت” على تقديم مساعدة مالية ضخمة لمحند أعراب بسعود، أ حُبا  في الأمازيغية أم  وافاءً لصداقتهما أم خدمة لخطة ما ؟!

قبل إظهار الجواب عن هذا السؤال، نعد إلى بعض النصوص الإثنولوجية  الفرنسية التي أسست لفكرة القبائلية في الجزائر لتكون تأطيرا له – أي للجواب – . يقول الدارسان الفرنسيان M.Fabar  و M.Dumas ” لا يلتقي العرب والقبائل إلا على محور واحد وهوالكره، فالقبائلي يكره العربي والعربي يكره القبائلي …لقد كان القبائل قبل مجيء العرب مسيحيين ولم يتقبلوا الإسلام طواعية …فهم مغلفون من الخارج بالعقيدة والبرنوس أما بالداخل فيحتفظون بالمضمون القديم” (3). فها أنت ترى أن الأنتروبولوجيا الكولونيالية الفرنسية تهدف إلى  تطويع الجزائريين  لخدمة المشروع الاستعماري من خلال إثارة النعرات الإثنية /العرقية/ اللسانية  بين مكونات الشعب الواحد، متنكرة – لأجل تحقيق ذلك –  للمصداقية والحقيقة والموضوعية والحيادية وغيرذلك مما يقتضيه البحث العلمي .

هذا الكلام الذي قيل سينقضه من أساسه وسيكشف حقيقته ودوافعه السياسية / الاستعمارية بشكل صريح العالمان الفرنسيان فيليب لوكا Lucas philippe  وجان كلود فاتان Jean claude  vatin  في كتابهما ( جزائر الأنتروبولوجيين LAlgerie des Anthropologues )، فقد ذكرا في فصل الاكتشافات les decouvertes  أنه مع اصطدام الاحتلال الفرنسي بحركات المقاومة الشعبية، أدرك الفرنسيون ضرورة معرفة عوائد وثقافة ولغات هذا  الشعب من أجل السيطرة على موارده، فكان استدعاء الأنتروبولوجيا  ضروريا  لترويضها عسكريا واقتصاديا  وفكريا وثقافيا. كانت  هذه مهمة الأكاديميين الفرنسيين الكولون لإعادة تشكيل الروابط داخل البلد الواحد، كان ذلك في الجزائر.

وأما في المغرب فنجد الكلام نفسه عند المستشرق غود فروي  دومومبين Gaudefroy Demombynes  في كتابه (العمل الفرنسي في التعليم بالمغرب L’œuvre francais en matière d’enseignement au maroc )، يقول إنه  ” من الخطورة فسح المجال لتكّون كتلة متراصة من الأهالي موحدة  في اللغة والمؤسسات، يجب أن نستغل لحسابنا الصيغة التي كان يتبعها المخزن: فرّق تسد. وجود العنصر البربري مفيد كعنصر مواز للعنصر العربي يمكننا استعماله ضد المخزن(4). وأضاف أن أساس السياسة البربرية تكمن في العزل المصطنع  للبربر عن العرب والاجتهاد في تقريبهم منا من خلال التقاليد، كما أنه يجب إبعاد العربية والقرآن عن البربر نهائيا ولا ينبغي أن تكون هناك أية علاقة بين المدرس والفقيه، كما ينبغي أن تصبح الفرنسية عند البربر هي لغة الإدارة والاقتصاد وهي الأداة اللغوية للحضارة الحديثة عندهم !!!

ويقول الماريشال ليوطي Hubert Lyautey   في الدورية المشهورة التي بعثها إلى رؤساء المناطق المدنية والعسكرية التابعة للإقامة العامة الفرنسية في المغرب: ” إن العربية عامل من عوامل نشر الإسلام، لأن هذه اللغة يتم تعلمها بواسطة القرآن، بينما تقتضي مصلحتنا أن نطور البربر خارج إطار الاسلام(5)، وهذا ما ستسعى إليه – جاهدة – بعد ذلك الحركات الثقافية (الأمازيغية) المدعومة ماديا وسياسيا إعلاميا…

ويقول واحد من المتحمسين للسياسة البربرية فيكتور بيكي Victor Piquet  في كتابه ( الشعب المغربي : الكتلة البربرية Le peuple marocaine: le bloc berbère ) ” كانت مسألة قانون العادات مسألة أساسية: فالبربر – كما رأينا – عندهم العرف أو(أزرَف) الذي لا يمت بصلة للقرآن، فكان من الطبيعي العمل على تدعيم وجود هذا العرف بينهم والعمل على تتميمه وتنميته بروح بربرية، وفي حال آنعدامها فبروح فرنسية  !لكن ليس من المرغوب فيه أن ندع القرآن يتجذر ويتأصل. لكن المسألة كانت محرجة بسبب تفوق القانون القرآني أمام الحالة البدائية للقوانين البربرية، يبدوذلك ظاهرا للعيان …ولكن جهودنا نحن  ينبغي أن تتجه كلها نحوتعليم البربر اللغة الفرنسية دون تدخل أية لغة وسيطة…إن فرنسا تملك هذه الثروة السعيدة بالمغرب “(6).

هذه النصوص الخطيرة تكشف بصراحة  متناهية  الخطة السياسية  للاحتلال الفرنسي التي بدأ الإعداد لها منذ ما قبل (الحماية)؛ هدفها الأساس هوعزل المغرب الأقصى عن محيطه الإسلامي واقتلاعه من مجاله الحضاري الطبيعي، الذي يعد جزءا منه تاريخيا ودينيا وتراثيا وثقافيا وجنسا بشريا.

ولِمَ كل هذا ؟

الجواب: ليسهل توجيهه إلى فرنسا لغويا وثقافيا واجتماعيا ونفسيا، بحيث يصبح هذا المغرب الأقصى مقاطعة تابعة لفرنسا تحفظ مصالحها في الشمال الإفريقي وتكون بوابتها نحومستعمراتها الأخرى في العمق الإفريقي. وقد  تلاحظون  الآن  أن الخطة  المعتمدة في الجزائر هي نفسها المعتمدة في المغرب؛ ذلك أن الهدف واحد وهوإضعاف شعوب شمال الإفريقي من خلال إثارة النعرات الإثنية/ العرقية  والتعصب القبلي الذي كان قبل مئات السنين. ولم يكن ذلك وليد فكرة ارتجالية وإنما تعلق الأمر بخطة محكمة تم الإعداد لها جيدا بناء على نتائج  قدمها العملاء الأكاديميون كما سبق .

    ثالثا– علاقة الأمازيغ بالعرب في المغرب الإسلامي

عاش الشعب المكون لبلاد المغرب الإسلامي منذ قرون في انسجام تام مقتنعا بحضارته الإسلامية ولغتها العربية ولسانه الأمازيغي، مفتخرا بانتمائه لأمة الإسلام دون عقدة أوحرج . ولَمّا نقول الشعب الذي سكن المغرب الإسلامي (المغرب الأقصى) فإننا نقصد به الشعب الذي سكن هذه الأرض منذ آلاف السنين، مختلطا بغيره من الأجناس البشرية الأخرى التي وصلت إلى هذه الجغرافيا إما بغرض الاحتلال كما هوالشأن بالنسبة  للفنيقيين  والإغريق والرومان والوندال، أوبغرض تبليغ رسالة السماء كما هوالشأن بالنسبة للفتح الإسلامي. وليس غزوا كما يزعم(أمازيغيو) الأكاديمية . يقول أحمد شفيق في معرض بيان مصادر الثقافة المغربية الأمازيغية: ” هذه الثقافة التي استعرضتُ عناصرها ومميزاتها مِلك للمغاربة أجمعين، رغم أن كثيرا من المغاربة لا يشعرون بوجودها إلا حدسا وتخمينا، نظرا لكونهم لا يتكلمون الأمازيغية أولم يعودوا يتكلمونها. وفي المقابل لا يُحتاج إلى برهان في أن يُجزم بأن الثقافة العربية الإسلامية هي أيضا مِلك للمغاربة أجمعين ” (7).

هؤلاء وهؤلاء اختلطوا إلى درجة يستحيل معها أن نقول: هذا أمازيغي خالص وهذا عربي خالص، ليبقى إذن تعريف الأمازيغي هوذلك الإنسان القادر على الإفصاح باللسان الأمازيغي (ثمازيغث) استماعا وفهما ونطقا وتعبيرا.

وبمجرد دخول المحتل الفرنسي/الإسباني بدأ التمييز بين المغاربة على أساس لساني/ لغوي/عرقي، وهوما لم يكن من  ذي قبل، فقد استقر في أذهان القادة الفرنسيين – بناء على تجارب سابقة مع مستعمرات دول أخرى – أن ربح البربر(الأمازيغ) إلى جانبهم والاعتراف بخصوصيتهم يحقق مصلحتهم في تفتيت المجتمع وضمان استمرار الاحتلال إلى أقصى ما يمكن، مع علم هؤلاء القادة القاطع ويقينهم الجازم بأن قوة الشعوب المسلمة إنما تكمن في إسلامها وعقيدتها.

وأورد هنا نصا خطيرا مقتطفا من مقالة كتبها ضابط الاستعلامات الفرنسية بالمغرب موريس لوجلي Maurice le Glay  بعنوان (L’école français et la question berbère ) المنشورة في مجلة ( نشرة التعليم العمومي بالمغرب Bulletin de l’ensignement public du maroc  ) يقول: ” أما نحن فيجب أن نرى في هذا خطرا مرعبا (يقصد خطر تعلم العربية­) قد يقود البربر إلى إسلام تام ونهائي ويؤدي إلى تكون كتلة إسلامية منسجمة لا نظير لها…ذلك لأن الذي يسلم يظل على إسلامه…فإذا تعلم المغربي المتبربر اللغة العربية، فلن يكون ذلك على يدنا. إننا لا ندري بكل تأكيد ماذا سيفعل المستقبل بهذه الكتلة المتحمسة النشيطة، ولكن هم قضيتنا العميق ومشروعنا يفرض أن يتم تطوير سكان الجبال( يقصد البربر) باللغة الفرنسية المعبرة عن فكرنا. سيتعلم السكان البربر الفرنسية إذن، وسوف يُحكمون بالفرنسية(8).

هذا النص الخطير لا يمثل مقالة طائشة تعبر عن رأي صاحبها  فقط، وإنما هونص محكم يعبر عن سياسية استعمارية للدولة الفرنسية تجاه الشعب المغربي، هذه السياسة  في بدايتها تقتضي  تفتيت  الكتلة المنسجمة  المكونة للشعب المغربي، ثم بعده  يتم تحديد مسار لغوي وثقافي وحضاري لكل منها، الأمر الذي سيؤدي لامحالة إلى تعميق الفجوة بين عنصري الكتلة الواحدة. كما أنه سيتم التركيز على العناصر اللغوية والعرقية المختلف فيها لضمان مزيد من الهوة بين عنصري هذه الكتلة، فإذا ازداد توسع هذه الهوة سيؤدي حتما إلى الخصومة ثم النزاع وفي نهاية المطاف إلى الحروب. وهنا ستتدخل فرنسا لِ(حماية) البربر مقابل فرنَستهم وإخضاعهم لفكرها ولغتها وحكمها. وهنا سنكون أمام احتلال من نوع أخرى أشد وأعنف من الاحتلال العسكري، إنه الاحتلال اللغوي والثقافي والفكري !

إن المغربي الأمازيغي لم يبلغ نبوغه  الفكري والعلمي والسياسي والعسكري إلا بعد أن امتزج فكره وروحه وعقله بعقيدة الإسلام وشريعته وأحكامه ؛ فممن نبغ في السياسة والقيادة: طارق بن زياد ويوسف بن تشافين والمهدي بن تومرت، وممن نبغ في علوم الشريعة: عبد الله بن ياسين وابن أبي زيد القيرواني والمكودي وابن عرفة وأبي العباس الونشريسي، وممن نبغ في اللغة: الزواوي  وابن برّي وأبي حيان الغرناطي وابن آجروم ..إلخ .

يدل هذا على أن الأمازيغ ساهموا بحظ وافر في تطوير العلوم وشرحها وتقعيدها وتحقيقها وتبسيطها وتلخيصها، سواء تلك المتصلة مباشرة بالشريعة، أوتلك المتصلة بالعلوم والتخصصات الأخرى كالتاريخ والحساب والطب والفلك والجغرافيا وهلمّ جرّا . بل نجد من التابعين الكبار من رواة الحديث من كان مغربيا أمازيغيا  ك :عِكرمة راوي الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما . ولم يكن الأمر ليصل إلى هذا المستوى من التفوق لوأن الإسلام تم فرضه فرضا على شعوب المغرب الأقصى، خصوصا وأنها قد عُرفت هذه الشعوب منذ القِدم بمقاومتها للاحتلال وبتقلب مزاجها وصعوبة إخضاعها. فلما كان من هذه الحركة العلمية ما كان، دل ذلك على قبولهم الإسلام بعد تفحّصه والنظر في عقائده وأحكامه وتشريعاته، وبعد أن وجدوه  أنسب لحياتهم وأحفظ لمصالحهم وأحقق لحريتهم وكرامتهم. بل إنهم جعلوا من مسؤولياتهم الكبرى الدفاع عن هذا الدين وتبليغه لغيرهم  من الأمم والشعوب الأخرى، فكان أن وصل إلى الأندلس وأمريكا وغيرها …

كل هذا وقد كان المواطن المغربي مغربيا بغض النظر أ أمازيغي هوأم عربي ؟ لم  يكن ذلك مهما مادام الاختلاط قد حصل مع الأمم والشعوب قبل الفتح الإسلامي، من تلك التي احتلت المغرب الأقصى جزئيا أوكليا . إذ إنه من غير الممكن أن يحصل احتلال يستمر لقرون دون أن يختلط الجنس البشري الأمازيغي مع غيره، ليستقر الأمر في النهاية على الاختلاط مع الفاتحين الأوائل بأجناسهم المختلفة. هذه القرون من التآخي لم تُثَر فيها نزعة قومية أودعوى قبلية جاهلية أوتمييز لغوي، إلا بعد أن حل الاحتلال الفرنسي بعتاده العسكري والفكري والثقافي واللغوي والعقدي، لنسف وحدة هذا الشعب من أساسها .

   رابعا- موقفنا من العَلَم الأمازيغي الذي صممه جاك بينيت Jacques Benet

من حق أي شعب أن يختار عَلَمَه الذي يدل على هويته  التاريخية والحضارية والثقافية والدينية، يتولى ذلك علماؤه  ومثقفوه  وسياسيوه وغيرهم، وأن يكون  ذلك  نابعا من إرادتهم الحرة دون تدخل جهة أومنظمة  أودولة أجنبية  كيفما كانت طبيعتها وعلاقتها ببعض أفراد هاته الهوية أوتلك، فيختارون من الألوان والرموز والأشكال ما يشمل كل تلك العناصر السابقة أوأكثرها. غير أن العَلَم الذي تزعم الأكاديمية البربرية  أنه يمثل الأمازيغ ويدل على هويتهم الثقافية التي تميزه عن غيرهم من الأجناس البشرية نجده – في الحقيقة – عكس ذلك، وذلك لما يلي :

   أ- هذا العَلَم لم يشارك  في تصميمه وآختيار ألوانه ورموزه ثم الموافقة عليه كل العلماء والمثقفين والمفكرين والمتخصصين الأمازيغ، وإنما تم تصميمه من طرف رجل من القبائل في الجزائر يدعى محند أعراب بسعود كما يبدوفي الظاهر، في حين أن  المصمم الفعلي ومهندس الخفاء هوالضابط الصهيوني جاك بينيت Jacques Benet كما سبق معنا، والأسباب الداعية إلى ذلك رأيناها أعلاه . وقد تمّ تبنّيه و(ترسيمه) و(تعميمه) بعد اختياره بحضور بعض الجمعيات (الأمازيغية) التي تمثل نفسها فقط ولا تمثل كل الأمازيغ. ومهما يكن من أمر هذا العلم فغاية ما هنالك أنه يمثل أمازيغ القبائل الجزائرية ولا علاقة له بأمازيغ المغرب وأمازيغ ( فازاز) على وجه التحديد، ولذلك نعتبره علما أجنبيا فرنسي التصميم لا يمثل الهوية التاريخية واللغوية والثقافية العريقة لأمازيغ الأطلس المتوسط . فكيف نقبل نحن أمازيغ الأطلس المتوسط عَلَما لم نشارك فيه ولم نُمَثَل فيه ولم يأخذ أحد رأينا فيه ؟

  ب– قيل في تفسير ألوان علم الأكاديمية البربرية أن اللون الأزرق يمثل البحر الذي يحُدّ شمال إفريقيا، واللون الأخضر يمثل الجبال والسهول، والأصفر يمثل الصحراء، والرمز االذي يتوسط العلم هوحرف الزّاي !

يُجاب على ذلك بأن الألوان والرموزالتي تم اختيارها لا تمثل الهوية الحقيقة للأمازيغ – كما سنبينه بعد – وإنما تمثل (البربر) كما  يراهم  جاك بينيت Jacques Benet  مهندس العَلَم لا كما نرى نحن أنفسنا.  فلَمْ نحسم الأمر في الحروف الأمازيغية  ولافي طريقة كتابتها، فحرف (الزّاي ) الذي  تزعم الأكاديمية البربرية  أنه من خواص اللسان الأمازيغي، ليس كذلك ؛ ذلك ان هناك حروفا أخرى من خواص اللسان الأمازيغي ك : اللام التي تُنطق بين اللام والراء ومثاله (يولي عاري ) أي صعد الجبل، فاللام في ( يولي) لا هي باللام الصريحة ولا هي بالراء الصريحة، وبعض المناطق تنطق(اللام) خليطا من حروف اللام والراء والجيم . وهكذا

فلِمَ تم اختار هذا الرمز دون غيره؟ هل لِتشابهه مع الشمعدان اليهودي (المينوراه) أم لشيء آخر ! ومعلوم  أن هذا الرمز لم يتم العثور عليه في الشمال الإفريقي وحسب، وإنما عُثِر عليه منقوشا على صخور جنوب الصحراء في مناطق لا تربطها علاقة لسانية أوعرقية مع البربر، بل لازالت بعض قبائل الدوغون تعتمده  في طقوسها(الروحية) إلى يومنا هذا . بل إن الكتابة التي اقترحتها الأكاديمية البربرية نجدها في حقيقة  الأمر عبارة عن خليط من النقوش اللحيانية والثمودية والصفائية  وغيرها، التي عُثر عليها في شبه الجزيرة العربية والشام والشمال الإفريقي وجنوب الصحراء، منها حرف (الزاي) الذي تكرر كثيرا في هذه النقوش (أنظر الصور أسفله)(9).

 الصورة 1: تم العثور على هذه النقوش في شبه الجزيرة العربية شمال السعودية                          

الصورة 2 : تم العثور على هذه النقوش في الشام جنوب سوريا

هذه النقوش التي عُثر على بعضها في الشمال الإفريقي وتزعم الأكاديمية البربرية أنها من خواص الشعب الأمازيغي، يبطل ذلك النقوش التي تشبهها والتي تنتشر كثيرا في شبه الجزيرة العربية والشام وجنوب الصحراء. ويمكن تفسير ذلك بكون الشعوب التي خلّفت هذه النقوس استوطن بعضها المشرق واستوطن بعضها المغرب، أوأن قوافل التجارة ونقل البضائع بين المشرق وشعوب حوض البحر الأبيض المتوسط تولّت نقل هذه النقوش إلى الشمال الإفريقي…

ج – إذا كان عَلم الأكاديمية البربرية الذي تم فرضه على باقي الأمازيغ دون رضاهم يعبر عن الهوية الثقافة دون الهوية السياسية والسيادة الوطنية لدولة ما، فإنه بالإضافة إلى  العنصر الجغرافي ينبغي أن يشمل هذا العَلم على عنصر القوت أومورد العيش وحالة الترحال التي عاشها هذا الشعب طوال حياته والجانب الوجداني عند الإنسان  الأمازيغي، وهذا كله لم نجده  في هذا العَلَم، فكيف يمكن اعتباره إذن علما يمثل هويته !؟

   خامسا- العَلَم الأمازيغي كما نقترحه

العَلم الذي نقترحه يحتاج أن يشتمل على العناصر التي تم إغفالها عن قصد وتعويضها بأخرى – لا علاقة لنا بها – في علم جاك بينيت، عَلم يمثل عمق الهوية والخصوصية الأمازيغية، وذلك كما يلي :

-عنصر الأرض: الإنسان الأمازيغي مرتبط كثيرا بالأرض ارتباط رضيع بأمه، فهي مورد رزقه وكسبه ولا يكاد يستغن عنها في عيشه، يحرثها ويزرعها ويحصدها ويرعى فيها أغنامه وبهائمه، وفي حال الغزو– كما مر – يدافع عنها بدمه وماله. ولون الأرض كما هومعلوم  هواللون البُنّي لا الأصفر كما في علم بينيت .

-عنصر السماء: أما السماء فإن ارتباط الأنسان الأمازيغي بها لا يقل عن ارتباطه بالأرض، فكثيرا ما كان أجدادنا يطيلون النظر إلى السماء ترصدا لحالة الطقس وترقبا للمطر، وكثيرا ما كانوا يخرجون إلى سكينة الفلاة ويستلقون على جنبهم ويتكئون على مرافقهم مع استغراق تام  في التأمل والنظر إلى القمر والنجوم في حالة وجدانية صافية. خلالها كانوا يتأملون  شساعة الكون وعظمة الخالق، وتراودهم حينها كثير من الأسئلة الوجودية في صيغها البسيطة؛ فيتفكرون في أصلهم وما قبل وجودهم كما يتفكرون في وظيفتهم في هذه الحياة ثم كيف سيكون مصيرهم بعد الممات وغيرها. كما يرتبطون بالسماء في مواسم القحط والجفاف؛ إذ كانوا ينظمون ما يسمى ب (اللاّمّة) أواللامث، يجتمع فيها أهل القرية فيذبحون ما يُذبح من البهائم فيأكل الجمع ويطعم الأطفال، ثم بعدها تُرفع أكف الضراعة إلى السماء طلبا للغيث واستجلابا للمطر، ولون السماء كما هومعلوم هواللون السماوي.

ج-  عنصر الإنسان: فالإنسان الأمازيغي هوأصل القضيه وعليه مدار العَلَم الذي يمثله، ولذلك ينبغي أن يحضر فيه بأبعاده النفسية والوجدانية والعقلية والحركية والمهارية، كما ينبغي أن يحضر بعلائقه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية مع قبيلته ومع غيرها، وهذا ما لم نجده في عَلم بينيت !

ومن  هاهنا يبدولنا أن العَلَم  الذي يعكس الهوية الأمازيغية  كما هي دون تزوير أوتدخل هوية أخرى كانت – فيما سبق ولا زالت – خصما وعدوا للهوية الأمازيغية الأصيلة، ينبغي أن يشتمل على الألوان التالية:

1- اللون السماوي في النصف الأعلى من العَلم وليس الأزرق؛ لأن هذا الأخير يشير إلى البحر، والبحر يمثل حدا جغرافيا من الشمال، ما جعل علم جاك بينيت يمثل حدودا جغرافية لدولة ما لها سيادتها ومؤسساتها الخاصة، والعلم في حالتنا هاته يمثل هوية شعب لا دولته، بحيث يحق لكل إنسان  أن يرفعه في أي بقعة من بقاع الأرض. هذا اللون السماوي يتوسطه  الهلال وخمسة نجوم، للتعليل الذي ذكرناه .

2- اللون البُنّي في النصف الأسفل من العَلم ويتوسطه رمز المحراث الخشبي الذي كان وسيلة الحرث الوحيدة عند أجدادنا القدامى، وشريط أخضر اللون يفصل بين اللونين يمثل المروج ومواطن الرعي، بالأظافة إلى شجرة الأرْز التي تتوسط هذا العلم، فروعها في اللون السماوي وجذوعها في النصف البُنّي .هذه الشجرة التي كانت مصدر الطاقة عند أجدادنا في التدفئة والطبخ، كما كانت ركنا أساسيا في البناء وأواني الخشب، فمنها يُجعل السقوف وأعمدة الخيام…

خاتمة

وهكذا، يظهر الآن أن “الحركة الثقافية الأمازيغية” لا تمثل الأمازيغ حقيقة ولا تعبر عن تطلعاتهم ولا تسعى في حماية هويتهم ولا تتقاسم معهم نفس القضية، فهؤلاء -كما رأيناهم- جنس بشري عظيم، من أهم صفاته الشجاعة والشهامة والكرم والثبات على الحق مهما كان، جنس بشري لم يتنكر لهويته  فهوأمازيغي بالأصل واللسان، ولم يتنكر لأمته فهوجزء منها، دفع بعلومها وثقافتها وحضارتها إلى الأمام.

جنس بشري شريف لا يضع يده في يد صهيون، وتأبى عليه نفسه أن يُوظف توظيفا خسيسا ينسف به ما بناه أجداده العظماء. جنس بشري حكيم يعرف العدومن الصديق ويعرف الفاتح الذي كانه هوابتداءً من المحتل الذي اغتصب أرضه وسرق خيراته وأهان كرامته. والله أعلم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- محمد شفيق، ثلاثة وثلاثون قرنا من تاريخ الأمازيغيين، ص 19

2- نفسه، ص 9

3-  La grande kabyli , p116

4- ص 120

5- عبد العلي الودغيري، الفرنكفونية والسياسة اللغوية والتعليمية الفرنسية بالمغرب، ص 86

6- نفسه، ص 142

7- مساهمات في دراسة الثقافة الأمازيغية، ص 32

8- الفرنكفونية والسياسة اللغوية والتعليمية الفرنسية بالمغرب، ص 103

9- راجع كتاب (الكتابات القديمة في المملكة العربية السعودية) د.سليمان الذييب  

 

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M