الحرية بين جمال الإسلام وأصحاب الأوهام

09 يناير 2016 22:31
الحرية بين جمال الإسلام وأصحاب الأوهام

الشيخ عمر القزابري

هوية بريس – السبت 09 يناير 2016

بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه اجمعين، أحبابي الكرام:

كثر الحديث عن الحرية، وأصبحت لفظة تلوكها الألسن، ويفسرها كل حسب هواه وميوله، فمن مبالغ فيها إلى حد الميوعة والتحلل، إلى راكب عليها ليقتحم بها الحدود، ويحطم سور المبادئ الممدود، إلى مضيق لمفهومها، متخل عن ما تختزنه من معاني الكرامة والعزة، وعدم الاستكانة والخنوع.

إنك لا تجد لفظا تهواه النفوس، وتهش لسماعه، وتستزيد من الحديث فيه، مثل لفظ الحرية، وما سبب ذلك التعلق العام إلا أن معظم من يسمعون هذا اللفظ أو ينطقون به، يحملونه على محامل يخف محملها في نفوسهم، فالوقح يحسب الوقاحة حرية، فيتمادى في وقاحته، والمتمرد يعد الحرية مسوغا لتمرده، والمعتدي على حدود الله يعلل اعتداءه بأنه حر.. ،إلى غير ذلك من الصور.. فالكل إذن يتجلبب بالحرية.. فيا لله لهذا المعنى الحسن.. ماذا لقي من المحن، وماذا خرج به عن خير سنن..

والتحقيق أن الحرية إنما يعنى بها السلامة من الاستسلام إلى الغير، بقدر ما تسمح به الشريعة والأخلاق الفاضلة.

ولقد أصاب الذين اختاروا للتعبير عن هذا المعنى في العربية لفظ الحرية، لأن الحرية في كلام العرب ضد الرق والاستعباد، وقد كان شائعا عندهم أن يلصقوا كل مذام الصفات النفسية بالرق، فجعلوا كل النقائص مرتبطة بالرقيق، وبضد ذلك جعلوا الفضائل من سمات الأحرار.. قال جعفر بن علبة الحارثي..

لا يكشف الغماء إلا ابن حرة….يرى غمرات الموت ثم يزورها

وقال الراجز الجاهلي

لن يسلم ابن حرة زميله….حتى يموت أو يرى سبيله..

وقال مخيس بن أرطأة التميمي:

فقلت له تجنب كل شيء….يعاب عليك إن الحر حر..

إذن فالحرية عند العرب ارتبطت بمكارم الأخلاق وفضائل الشيم..

فأما والإنسان مدني بطبع خلقته، محتاج إلى الاتصال ببني نوعه، لأنه ضعيف بنفسه، قوي بغيره، محتاج في قوام أمره إلى التعاون، لما كان شأن الإنسان هكذا فإن الحرية المطلقة تنافي مدنيته، وتجعله يعيش بدون خطوط حمراء، تشعره بالوقوف وعدم التجاوز، لذا كان لزاما أن تكون الحرية مقيدة، تحكمها ضوابط، وتؤثثها قيم، وتدور في دائرة المراعاة، مراعاة البيئات والأعراف، وهذا هو منظور الإسلام للحرية..

أما الإسلام الذي هو رسالة الله، وهو الحكم والفيصل والمرجع، فإن الحرية تعتبر أصلا من أصوله، قال تعالى واصفا رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم (الذين يتبعون الرسول النبيء الامي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يامرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث، ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم)، إذن فالآية وصفت النبي صلى الله عليه وسلم بأنه المحرر والمخلص من آصار الذل وأغلال الاستعباد، فالإصر هو التكاليف الشاقة، والأغلال هنا مستعارة للعبودية التي كانوا عليها في الجاهلية، من عبودية الأصنام وسدنتها، وعبودية الملوك.. إن الحرية في أصلها مسألة فطرية، ولكنها طرأت عليها وسائل الضغط من القسوة والتسلط، فسخرت الضعيف للقوي، والبسيط للمحتال، ثم لعبت التعاليم المضللة دورها في التمكين لهذه المفاهيم.. فجاء سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم يضع الأغلال، ويقوم الاختلال، ويداوي الاعتلال، وينشر تعاليم الرحمة المخلصة من قيود الظلم والاستبداد، تصديقا لقول الله (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين).

أيها الأحباب: إن الحرية التامة لا يمكن أن تتحقق في نظام البشر، لأن تمام الحرية هو الانخلاع عن جميع القيود، وعن كل ألوان المراعاة للغير، وذلك بأن يعيش المرء عيشة الوحوش، وذلك غير ممكن أبدا.. إلا فيما تخيله الشنفرى.. إذ يقول:

ولي دونكم أهـلون سيد عملـس….وأرقط زهـلـول وعرفاء جيـأل

هم الأهل لا مستودع السر ذائع….لديهم ولا الجاني بما دان يعذل

لست أيها الأحباب بصدد ذكر صور الحريات التي جاء بها الإسلام أو التي نظمها وهذبها فهذا أمر لا يخفى على كل ذي بال، لكن القوم من دعاة التحرر يريدون أن يتحلل الناس من كل فضيلة، يريدون أن لا يكون هناك شيء اسمه قف، يريدون الانزلاق في مهاوي الفرط، وليتهم انزلقوا وحدهم، فهم أصلا منزلقون، ولكنهم يريدون أن ينزلق الكل، من خلال تبني طروحاتهم، والترويج لأفكارهم، وهذه الرغبة في استزلال الآخر وإغواءه، هي رغبة شيطانية بامتياز، قال تعالى حكاية عن إبليس (قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين)، ولعل إبليس كان أقل تعنتا من بعض هؤلاء حينما قال (إلا عبادك منهم المخلصين)، علم أن هناك عبادا سيستعصون عليه، ووصفهم بالإخلاص..

وهدفنا أيها الأحباب في غمرة هاته الهجمات المغلفة بالشبهات، التي تهب علينا من كل الجهات، وبالأخص من أقوى الجهات، وهي الجهة الداخلية، من بني الجلدة، من حملة الأسماء الإسلامية، هدفنا أن نكون من عباد الله المخلصين، الذين يتمسكون بالحق ولا يرضون عنه بدلا، الذين يدورون مع الإسلام حيث دار، وينتصرون له، ويردون الشبه بالعلم والثبات واليقين، الذين يوقنون أن الله غالب على أمره، وأنه ناصر دينه، ومعل كلمته، ومذل أهل الشقاق والارجاف ولو بعد حين.

عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (مثل القائم على حدود الله، والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها، وأصاب بعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فآذوهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا) رواه الإمام أحمد والبخاري وغيرهما.

هذا تمثيل لأولئك الذين أخطئوا الطريق وضلوا عن سواء السبيل، ففهموا حريتهم فهما سقيما، وساروا في هذه الحياة على غير هدى، بل حسب أهوائهم وشهواتهم، وفي الحديث إشارة كذلك إلى وجوب التصدي للإفساد، ومنع محاولات الخرق، فهكذا نحن في حياتنا، نعيش على ظهر الأرض كركاب السفينة، فينا الطائع والعاصي، والبر والفاجر، فإن ترك أهل الشر والفساد يعيثون في الأرض، يسرحون ويمرحون، دون أن يوجه لهم أهل الخير والصلاح النصح، فإن أبوا واجههم أولوا الأمر بالمنع من اقتراف الموبقات، لأن الفساد إذا ترك هلك الجميع، وإن منع، نجا الجميع، وفي الحديث كذلك إشارة إلى أن أهل الصلاح هم الأعلون، فهم الذين كانوا في أعلى السفينة، وأهل الإفساد كانوا في أسفلها.. وكذلك الأمر في الواقع، وإن بدا العكس.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، محبكم وحافظ عهدكم وودكم عمر بن أحمد القزابري..

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M