السحر.. التاريخ والامتداد

04 نوفمبر 2018 17:58
حملة تنظيف بمقبرة تسفر عن العثور عن وسائل للسحر والشعوذة

طارق الحمودي – هوية بريس

تؤكد الدراسات الحديثة أن السحر أحد أركان العلوم القديمة التي تعاطتها نظريا ومارستها عمليا جملة من الثقافات القديمة، وهي معدودة من العلوم السرية التي تختص بها النخبة، ولذلك سماها “Henri Corneille-Agrippa”  “الفلسفة الباطنية-La Philosophie occulte”، وجعله عنوانا لكتابه فيها.

قد خص القرآن الكريم ثقافتين بآيات فيها ذكر للسحر وأهله، وهما ثقافتا مصر وبابل، قال ابن خلدون: «وأما وجود السحر في أهل بابل وهم الكلدانيون من النبط والسريان فكثير، ونطق به القرآن، وجاءت به الأخبار، وكان للسحر في بابل ومصر أزمان بعثة موسى عليه السلام سوق نافقة»[1]، فهل يعني هذا أنهما أصل لغيرهما من الأمم في السحر وتعاطيه؟

لعل مصر كانت الأكثر حظا من الدراسات العلمية والأنثروبولوجية المتعلقة بالسحر وما إليه، وكان علما خاصا حكرا على نخبة الكهنة، وأما في بابل فكان أصلا للسحر اليهودي، وقد وصل باليهود الأمر كما يقول ابن حزم إلى أنه «في بعض كتبهم مما لا يختلفون في صحته أن السحرة يحيون الموتى على الحقيقة»[2].

وقد ارتبط السحر بالحديث عن الأرواح والجن، فهي أساسه الأكبر وركنه الأعظم، وقد أثبت”إخوان الصفا” الشيعة الإسماعيلية السحر علما من العلوم السرية العالية، وجعلوه مما ينبغي على المنتسب لفكرهم أن يعرفه ليتبين له صحة ما قرر الحكماء[3].

لم تكن اليونان، أرض الفلسفة في نأي عن هذا، فقد كان السحر فاشيا فيهم بسبب صابئية معتقداتهم، فكان لازما لها جزء منها، وكان اليونانيون يعبدون الأوثان ويعانون السحر، وقد لا يعرفون أن ذلك من الشياطين، بل قد لا يقرون بالشياطين، ويظنون ذلك كله من قوة النفس أو من أمور طبيعية أو من قوى فلكية.

وقد بلغ الأمر به عندهم أن تكلم فيه كبارهم من الفلاسفة كأرسطو نفسه[4]، فقد وصف بمعرفة السحر، وتكلم فيه وبينه، وقد نسب إليه مسلمة المجريطي السحر المرتبط بالطلسمات والكواكب مما كان يبينه للإسكندر المقدوني، ونقل عنه من كتابين له في ذلك، أحدهما كتاب “المصابيح والألوية”[5]، و”الإسطِماخيس” أو الإسطماطيس الذي كتبه للإسكندر، وفيه بيان كيفية استجلاب قوى الكواكب[6] وكتاب “الإسنوطات[7]، بل يذكر أنه صنع له طلسمات ربما كان منها ما وضع لفتح أبواب بعض الأهرامات[8]، وكتاب “الملاطيس” الذي جمع فيه للإسكندر سحر الحكيم الهندي كيناس[9].

وتتابعت كلمات العلماء في إثبات السحر للفيلسوف أرسطو، فقال فيه ابن سبعين الصوفي المتفلسف في كتاب الدرج: «واعلم أن علم الحروف علم شريف، وسر لطيف من تأليف إدريس عليه السلام،حل رموزها وفك معانيها أرسطاطاليس اليوناني لأجل الإسكندر ذي القرنين»[10]، وكانوا «يقولون إن الإسكندر شكا إلى أرسطوطاليس بعد الماء عنه وعن عسكره عند لقاء عدوه، فعمل له طلسما سار الماء بسيره ووقف بوقوفه، وأنه قال له وقد ورد على بحر إن تشاغل بعبوره أبطأ عليه وفاته إدراك عدوه فقال له: أيما أحب إليك أيها الملك، أن أعمل طلسما تسير بعسكرك على وجه الماء كما تسير على وجه الأرض، أو أجمع بين الشطين لتعبره؟ فقال: تجمع بين الشطين فإنه أقرب في المسافة، فجمع له بين الشطين فعبر»[11]، ويذكر حاجي خليفة له «رسائل أرسطو»إلى الإسكندر[12]، ولعلها بعض ما ذكرت آنفا وربما كانت غيرها.

إن كان أرسطو الفيلسوف المنطقي ساحرا وهذا ظاهر من شهادات أتباع مدرسته، فما يقال في غيره ممن كان أكثر إيغالا في الفكر الباطني من فلاسفة اليونان؟ والواجب على قول المجريطي أن لا يكون هذا العلم إلا عند الفلاسفة أصالة[13]، لقد كان السحر جزءا “اللامعقول” في الفكر اليوناني على قول دودس “Dodds”، ولم يستطع نفيه عنهم ولا عن نخبتهم مارتن نلسون “MartinNilsson” صاحب العبارة المشهورة: “اليونانيون مناطقة بالفطرة“، فقد أثبت مضطرا ممارسة الفكر اليوناني الشعبي والنخبوي للسحر والشعوذة والخرافة في عصوره الكلاسيكية[14]، عصر سقراط وأفلاطون وأرسطو!

أما في شمال أفريقيا، فيبدو أن هذه العلوم تسربت وانتقلت فيه نحو المحيط بسبب ما عرف من تأثير الحضارة المصرية في معتقدات وعبادات حضارات غرب النيل عند الليبيين الأمازيغ القدامى ومن يليهم، ودخول بعض المؤلفات المضمنة للسحر البابلي النبطي إلى الأندلس مثل الفلاحة النبطية معروف، إضافة إلى الاستيطان اليهودي في المغرب والأندلس، فقد انتشر اليهود في المغرب في غالب القرى والقبائل، وكان لهم التأثير الكبير في الحياة الاجتماعية والثقافية، فقد كانوا ورثة السحرين، وكان من ذلك أن ترسخ السحر فكرا ومعتقدا وممارسة في الثقافة الأمازيغية البربرية والأندلسية[15] بسبب هذه المؤثرات المختلفة، البابلية والفرعونية واليهودية.. وربما غيرها!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]مقدمة ابن خلدون ص615.

[2] الفصل في الملل والأهواء والنحل (1/243).

[3]رسائل إخوان الصفا (3/342).

[4]الرد على المنطقيين 106.

[5]غاية الحكيم ص161.

[6]غاية الحكيم ص233.

[7]غاية الحكيم ص247.

[8]Archives d’histoire doctrinale et littéraire du moyen âge;v-42 et 43;p52.

[9]غاية الحكيم ص247.

[10] ابن سبعين وفلسفته الصوفية ص 141.

[11]تثبيت دلائل النبوة ص177.

[12]كشف الظنون (1/902).

[13]غاية الحكيم ص57.

[14]نقد نقد العقل العربي ،نظرية العقل ص47.

[15]يراجع لهذا Magie et Religion dans l Afrique du Nord.

آخر اﻷخبار
1 comments

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M