الشباب والعلاقات العاطفية قبل الزواج.. نظرة واقعية من وجهة شرعية

07 يوليو 2022 10:26
واقع التدين في المجتمع المغربي

هوية بريس-ذ. زكرياء خديري

مكاشفة:

اهتبل الشباب قديماً وحديثاً بموضوع العلاقات العاطفيّة بين الجنسين، حتّى صارت كلمة “الحب” ديدن مجالسهم العامّة والخاصّة، ففيه يجدون تسلية ومتعة ولهواً عذريّاً مباحاً على حدِّ زعمهم؛ فَنُسِجَتْ صداقات وعلاقات وارتباطات، وبدأت مُحاورات ومُكاشفات ولِقاءات، ولكلٍّ نظرته المغايِرة للآخر، فتلك لها مشاعر تتدفق منسابة ًكماءٍ يترقرق من غديرٍ صافٍ، وذلك له كلمات ساحرة تتغلغلُ في صِدق الأحاسيسِ الرقيقة.

وهكذا سادتي يتدخل الشيطان بألاعِيبه الماكرة، ويُزيِّن لكلِّ طرفٍ في كلِّ زمانٍ أساليبه ومعتقداته الفاسدة، وينشرُ وَهْمَ العواطِف الصادقة، فصِرنا نسمع بين الشباب عن الصداقة البريئة؛ وقد كان يُدعى في الزمن الأوّل حُبّاً عُذرِيا، كما هو الحال مع جميل بن معمر وقيس بن ذريح وقيس بن الملوح، زاعمين بذلك أنّه عُذري أي عفيف لأنّه حرَّم المتعة الجسديّة، ولكنّ الأمر بخلاف ذلك، فقد قضى العرف في ذاك الزمان بحِرمة زواج الشابة بالشاب الذي اشتهر بحُبِّها ونظم الشعر فيها[1]؛ والسرُّ في ذلك حمايةُ الشرفِ وكبرياء العرب في أن ينسب إليهم العار، ويقال زوجوها له ليستروا فضيحتها معه، ومن راجع أشعارهم أدرك ذلك بجلاء.

إنَّ مشكلات جيل الشباب الآن ليست أزمة نفسية حتميّة، كما يدَّعي البعض أنَّها من خصائص مرحلة معينة من مراحل العمر، يتم تجاوزها بمجرد تخطِّي هذه السن؛ وإنّما هي فتنة عارمة أُرِيدَ لها أن تشغل الشباب وتصرفهم عن الوجهة الصحيحة بشتى ألوان الملهيات، وبخاصّة الإعلام السينمائي الذي يروِّج لثقافة الجسد المادّي وشهواته الغريزية.

فهل يُدرك الشباب يا ترى هذه الحقيقة !؟ صحيح أنَّ لِشعراء الحب العذري بَسْمَةٌ على الشفاه تُؤثر، فهل يصِحُّ يا إخوتي التغني بأشعارهم للضحك وتمضية الوقت والتسلية مع الجنس الآخر لا غير !!؟ أليس غلب على هؤلاء الشعراء اليأس وروح الإحباطِ والعذاب الشديد في سبيل المحبوب، ألم يؤدِّي بهم ذلك إلى الهيام أو الجنون أو الموت. يا سادتي الأوفياء إنَّ نفس الشيء يلعب عليه إعلامنا خاصّة لترويج ثقافة للعلاقات العاطفية بين الشباب ولكن بشيء من الدونية والعاطفية البليدة؛ والهدف ترك الأمّة تموت في سباتها ولا تُحرِّك ساكناً للدفاع عن معتقداتها وأوطانها، ولا لنهضة أمَّتها وحضارتها والذود عن دينها.

لقد انحدر شباب اليوم في اتباع أهوائهم وأوهامهم، وأبدع شعراء الحب العذري في التعبير عن مأساتهم؛ ومن أمثلة هؤلاء الشعراء قيس بن الملوح حين حاول شفاء روحه من سقم الحب الذي ألمَّ به جرَّاء تعلّقه بليلى، وهو يخاطب روحه، ويحاور ذاته، ويناجي قلبه، فيقول:

أما عاهدتني يا قلب أنِّي

 
إذا ما تبت عن حبِّ ليلى تتوب

فها أنا ذا تائب عن حبِّ ليلى

 
فما لك كلَّما ذكرت تذوب

                                               

                                         

لعمري هذا في زماننا يعدُّ رُقِـــيّاً وسمُواً حين يبتلى المرء بالحبِّ والهوى؛ أن يكتفي بمخاطبة نفسه، ومناجاة قلبه !!! آه ثم آه، إنَّ من يتفحَّص مجتمعنا ويُطالع ما يجري من حالات نفسيّة مريضة، ليس همُّها الأول والأخير سوى شهوة غريزية بهيميَّة، ومن يشاهد ما يعرض على المحاكم من حالات الاغتصاب والتعدِّي على الأعراض والشرف، لسوف يُفْجَعُ في أمّته ويبكي الأنين على ضياع القيم الإنسانيّة فيه، وما ابْتُعِثَ به خير البشرية من مكارم الأخلاق، ولا يُنبؤك مثل خبير.

إنَّ ما واجهه قيس ليلى ليس إلا نتيجة حتميَّة لمن يبتغي مخالفة السَنن الإلهي في الحياة؛ فإنَّ الخالق جلَّ وعلا أقام الكون على الزوجيَّة، وألَّف بين الأجناس المختلفة، وارتضى لبني الإنسان تكريماً خاصّاً لا ينفي الميل الطبيعي ولا ينزل به إلى الدونية فأقامه على سنَّة الشرعيَّة.

وهذه رسالة إلى كلِّ شاب وشابة ممن لهما علاقة عاطفيَّة تجري على غير الهداية الربَّانيَّة، أن يعتبرا بمن مضى، وأن يفكرا في المكاشفة بينهما، ليفرُّوا من قدر الله إلى قدر الله؛ حتى لا يواجها مثل قدر قيس في ابتلائه، حين عبَّر عمَّا يجيش في داخله من حرقة وحسرة، وما ابتلاه الله به من همٍّ وغمٍّ حين قضى الله بأن تكون ليلى من نصيب غيره، فأنشد قائلا:

خليليَّ لا والله لا أملك الذي

 
قضى الله في ليلى ولا ما قضى ليا

قضاها لغيري وابتلاني بحبِّها

 
فهلاَّ بشيء غير ليلى ابْتُلِينا

 

وبعد هذه الواقعة المؤلمة فقد صوابه، إذ لم يتحمَّل وقْعَهَا ودُعِيَ مجنون ليلى!! فهلاَّ يا إخوتي الكرام اعتبرنا، وبسنَّة الحبيب اقتدينا، القائل صلى الله عليه وسلَّم: “فمن رغب عن سنَّتي فليس منِّي[2].

 

مشكلات الشباب .. والحاجة إلى تكوين العلاقات

نبتدر القول فنقول هل “الشباب في مشكلات” أم أنَّ “الشباب مشكلًا” في حدِّ ذاته !؟

في تصورنا أن الشباب في مشكلات وليس شباباً مشكلاً على الإطلاق؛ وشتان بين هاتين الصورتين لوضع الأزمة:[3]

  • ففي الحالة الأولى (الشباب في مشكلات) نتكلم عن واقع موضوعي لا يوفر فُرصاً كافيةً للإرضاء العضوي والنفسي والاجتماعي ومواجهة مطالب الحياة المتجددة، ويضع الشبان، من ثم، في أزمة؛
  • وفي الحالة الأخرى (الشباب مشكلًا) نتكلم عن جيل من الشباب يعجز لعدم كفاية إمكاناته وربما عدم سواء نسق قيمه واتجاهاته وأساليب التصرفات عن التكيف والتوافق مع واقع لا نشك في سوئه وسلامته.

وبقليل من النظر الموضوعي في واقع المجتمع المغربي نجد تِلْكُمُ الصورة القاتمة والمثبطة لروح الإبداع والفكر والرجولة عند الشباب؛ فهو لا يزال طفلاً !! صغيراً !! لا يعرف كثيراً !! ولا يخالط الكبار !! وعليه دائماً أن يلزم الصمت خاصة عند وجودهم !!

إن هذا الواقع هو ما يولِّد الأزمة والمعاناة حقيقة عند جيل الشباب، ويتمُ ترجمته بعدم الرضا والرفض والتمرُّد لكلِّ ما يصدرُ عن عالم الكبار، حتَّى يصبح بالنسبة لهم الشباب مشكلاً.

والحقيقة عكس ذلك تماماً؛ فليس التحوّل من الطفولة في اتجاه الرشد بأقل إقلاقاً وإزعاجاً للشاب نفسه، إذ يشغله ما يطرأ عليه من تحولات، وتحيّره استجابات الآخرين غير المفهومة لها، ويضطرّه “الخصام” بينه وبين الكبار إلى نوعٍ من القطيعة مع المجتمع،[4] ممّا يدفعه ذلك إلى الحاجة إلى تكوين علاقات مع ثلة الأقران، عادة لا توجد بينهم فوارق كبيرة في السن، ولا في الذكاء، ولا المستوى الاجتماعي الاقتصادي، ولا الاهتمامات، مع ميلٍ إلى تكوين علاقات شخصيّة تتجه نوعاً ما إلى التخصيص والتعمّق مع الجنس الآخر. وهذه العلاقات تبدأ تلعب دوراً هاماً في حياته[5]، وكلّ ذلك في غياب أيّ رقابة أو توجيه من الأسرة أو المربين.

فالأزمة تكمن إذن في مرحلة الشباب حسب دراسات علميَّة في أمرين اثنين[6] وأضيف ثالثاً:

  • المشكلات التي يواجهها الشاب (ذكرا/أنثى) في فهم ذاته وقبولها، والتعامل مع الآخرين والواقع بصورة صحيَّة؛
  • المشكلات التي تنطوي عليها تصرفات الشاب لأهله والمربين، والمجتمع بعامَّة؛
  • المشكلات التي تنطوي عليها سوء التربية وعدم الاحتواء والتوجيه للشاب من قبل الأهل والمربين، ونوعيَّة القيم والأخلاق التي يبثها المجتمع.

يا سادتي الكبار إنَّ التربية في نظري هي الأسُّ والأساس في بناء الشاب لمستقبل أفضل، بناءً يقوم على ترسيخ الفطرة السليمة، والعقيدة الصحيحة، والإيمان بأنَّ الخالق جلَّ شأنه لم يخلقنا عَبثاً، ولن يتركنا همَلاً، استخلفنا في أرضه وتحت أديم سمائه، ولم يقهرنا بعبادته، وأمرنا بعمارة أرضه، وبطاعته امتثالا لما جاء في كتابه الحكيم، وسنَّة نبيِّه الكريم عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم.

وهو القائل صلى الله عليه وسلَّم في الحديث المتفق عليه: “المرء مع من أحب“؛ والمحبَّة في الحديث عامَّة، بين الجنسين، وبين الأبوين وأبنائهما، والإخوة فيما بينهم، والأصدقاء.. وهلم جرا. وفي حديث آخر يرويه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل”[7].

فحرمان الشاب (ذكرا/أنثى) من التربية السويَّة، والمحبَّة الحانية المستقيمة، هو ما يجرُّه إلى تكوين علاقات لا يهمُّه فيها أن تكون شرعيَّة أو غير شرعيَّة، مع بني جنسه أو مع الجنس الآخر، مادام قد فقد المحبَّة من أقرب أقربائه.

ولذلك إن أردنا استجابة الأبناء في مرحلة الشباب للتربية الصحيحة، وجب على الآباء والمربون أن يقرنوا التربيَّة بالمحبَّة، ويمزجوا بين الترغيب – بنسبة أكبر- والترهيب – بنسبة أقل-، حتى تشيع المحبَّة أكثر ويسود الاحترام والحياء بين عامَّة الشباب والمجتمع ككل.

إخوتي الأعزاء إنَّ من المشكلات الخارجية التي يعاني منها نسبة كبيرة من جيل الشباب المغربي، والمتمثلة أساساً في الانبهار بالغرب وما توصَّل إليه من تقدم في عالم التكنولوجيا والتقنيات الحديثة، مع ما يقابله من تخلف في مجتمعاتنا، يشكل بالنسبة إليه أزمة أخرى تنضاف إلى ما ذكر.

صحيح إخوتي الأكارم أنَّ الغرب تقدَّم في كل ذلك وأكثر، ولكن للأسف الشديد لم يصلنا إلاَّ هذا الوجه المغلَّفُ بأجهزتهم الذكيَّة، التي حجبت عنَّا الوجه الآخر لمجتمعاتهم؛ فإذا سألت عن الأسرة فاعلم أنَّ أواصرها قد تفككت، وإذا سألت عن الأنساب فاعلم أنَّها قد اختلطت، وإذا سألت عن الحياء فاعلم أنَّ ساعته قد انقضت، وإذا سألت عن الإيمان وسائر الأحكام فاعلم أنَّ صكوك الغفران سهلة المرام.

وقد استحييت أحبَّتي في الله أن أذكر نماذج من هذا التفسخ الأخلاقي والإباحي ممَّا تعُجُّ به المواقع الإكترونية وما تبثه الأفلام الصهيوأمريكية؛ والغاية أن يصبح ذلك أمراً طبيعيّاً أو حقاً طبيعياً كما يزعمون؛ لذا لم تعد الأسرة من هذا المنظور تلك المؤسسة التي تجمع بين السكن والمودة والرحمة والإنجاب، بل أصبح بإمكان هذه الوظائف أن تستقلَّ كل بذاتها. فقد تتزوج امرأة رجلا لتروثه، وتعشق في نفس الوقت شاباً لجماله، وتمارس الجنس مع ثالث لفحولته[8]، ومع رابع – مثل ما فعلت مادونا- للإنجاب. وقد تجد امرأة متزوجة تمتهن الزنا دون أن يجد زوجها ولا حتى أبناؤها في ذلك غضاضة.[9]

إنَّ هذه النزعة الفردانية لدى الغربيين وما يترتب عنها من هوى لا يستقر على حال، لهي من أخطر العوامل وأشدها عبثا بطبيعة الأسرة بمفهومها المتعارف عليه منذ فجر الإنسانية، حيث يَطرح تطور المفاهيم الأساسية إشكالات خطيرة. يقول بيل برايسون في كتابه “صنع في أمريكا“: “إنَّ الخيانة الزوجية كانت تعتبر جريمة لمدة ما، ثم أضحت العلاقات خارج الزواج لا تستوجب العقاب، إلى أن تمت تسويتها لاحقا”.[10]

وهكذا في ذلك الفردوس المستعار الذي يعدّه مئات الملايين أرض أحلامهم، وأقصى أهدافهم، نجد هناك نسب مهولة .. بل ومرعبة..

فحسب استطلاع[11] قامت به محطة ABC الإخبارية في مطلع الألفية كانت هناك الأرقام الآتية:

  • %42 من الأمريكيين يصفون أنفسهم بأنَّهم مغامرون جنسيون (sexually adventurers) أي إنهم يميلون إلى المغامرة في اختيار الشريك الجديد والأساليب الجديدة (أي التي قد نراها نحن شاذة)؛
  • % 30 من الرجال في أرض الأحلام والتحرر دفعوا نقوداً من أجل الجنس؛
  • % 14 من الجميع شاركوا في جنس ثلاثي (زنا يتقاسم إثمه ثلاثة: رجلان وامرأة أو امرأتان ورجل)؛
  • % 42 من الرجال يقولون إنَّهم حصلوا على الجنس في أوَّل لقاء (first date sex) أي إنَّهما تعارفا ومن ثم ذهبا لممارسة الجنس (يقول الدكتور العمري: أفكر هنا بحزن، إنَّ القطط والكلاب تناور أكثر في مواسم تكاثرها!!)؛
  • % 45،6 من كل طلاب الثانوية (الذين تبدأ أعمارهم من الثالثة عشرة) مارسوا الجنس؛
  • % 61،5 من الطلاب في الصفوف المنتهية (فعلوها) و% 25،6 منهم استعملوا العقاقير في أثناء ذلك..
  • % 20 من الطلاب مارسوا الجنس قبل أن يتموا الخامسة عشرة..
  • % 40 ممن هم دون 17 سنة كان لديهم بين (2-5) شركاء جنسيين و % 7 كان لديهم (6-9) شركاء..

ويضيف الدكتور العمري إنَّ في هذا الفردوس المستعار أعلى نسبة اغتصاب رسميَّة في العالم بين كل الدول التي تجري فيها مثل هذه الإحصاءات (4 مرَّات أكثر من ألمانيا، 13 مرَّة أكثر من إنكلترا، و20 مرَّة أكثر من اليابان).

وهكذا ففي كلِّ 1،3 دقيقة امرأة تغتصب، أي 78 حالة اغتصاب كل ساعة، 1872 كل يوم، 56160 كل شهر، 673.280.200 حالة اغتصاب كل سنة !![12]

وهناك نسب وأرقام تصف حالات من الشذوذ الجنسي يعجز المرء عن ذكرها، حالات تفوق القدرة على الوصف .. شيء مروع ومرعب .. جنس مع حيوانات، مع أطفال، وزنا محارم. وكما يقول الدكتور العمري: لا أعرف كيف، ولا أريد أن أعرف كيف، وكل ما أريده هو أن أغالب رغبتي الملحة في التقيؤ..[13]

وإذا عدنا إلى حال مجتمعنا المغربي في مُقابلةٍ لما ذكرناه، لوجدنا طائفة من الشيب والشباب يحذون الغرب حذو القُدَّة بالقُدَّة، ممَّا يُنذر بالخطر الشديد في دين النَّاس ودنياهم، وقد وصلتني بحكم عملي قضايا اغتصاب وفساد ودعارة وزنا محارم، كلمة قرف أو تقزز قليلة بحقها. اللهم لطفك يارب

ومن تلك الفضائح ما تطالعنا به عدد من المجلات منها أسبوعية “المشعل” في عددها 443 بفضيحة يشيب لهولها الولدان؛ عائلات تقوم بكراء بناتهن القاصرات للاستغلال الجنسي لدى رجال معظمهم مهاجرون في الديار الإسبانية والإيطالية، مقابل مبالغ مالية تتحدد سلفا في “كونطرا”!! أبلغ بالنَّاس الذِلَّة والهوان حتَّى يبيعوا شرفهم وأعراضهم؟! صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: “تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم تعس عبد الخميصة تعس عبد الخميلة .. تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش”[14].

ويصدق فيهم قول الشاعر مسعر بن كدام:

تفنى اللذاذة ممن نال صفوتها

 
من الحرام ويبقى الإثم والعار

تبقى عواقب سوء في مغبَّتها

 
لا خير في لذة من بعدها النَّار

 

قصص  .. من وحي النبوة

ومن روضة المحبين ونزهة المشتاقين لابن قيم الجوزية نستقي هذه القاعدة الذهبية من وحي النبوة:

“من ترك لله شيئا؛ عوضه الله خيرا منه”

كما ترك يوسف الصِّديقُ -عليه السلام- امرأة العزيز لله، واختار السِّجن على الفاحشة، فعوضه الله: أن مكَّنه في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء، وأتته المرأة صاغرةً، سائلةً، راغبةً في الوصل الحلال، فتزوَّجها، فلما دخل بها قال: هذا خير مما كنت تريدين. فتأمل كيف جزاه الله -سبحانه- على ضيق السجن: أن مكَّنه في الأرض ينزل منها حيث يشاء، وأذلَّ له العزيز، وامرأته، وأقرَّت المرأة والنِّسوة ببراءته، وهذه سُنَّته تعالى في عباده قديماً وحديثاً إلى يوم القيامة.[15]

وقد قال قتادة -رضي الله عنه-: ذُكِرَ لنا أنَّ نبي الله –صلى الله عليه وسلم- كان يقول: “لا يقدر رجلٌ على حرام؛ ثمَّ يدعه، ليس به إلا مخافة الله -عز و جل-، إلاَّ أبدلَه في عاجل الدنيا قبل الآخرة ما هو خيرٌ له من ذلك”.[16]

ومن صور الرقي الحضاري في تعامل النبي –صلى الله عليه وسلم- مع النفوس وميلها الطبيعي إلى صور الجمال والحسن والبهاء، ما كان من قصة الفضل بن عباس والمرأة الخثعميَّة؛ ففي الحديث المتفق عليه من لفظ البخاري عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: “أَرْدَفَ رَسُولُ الله صلَّى الله عليه وسلم الفَضْلَ بنَ عبَّاسٍ يومَ النَّحْرِ خَلْفَهُ على عَجُزِ رَاحِلَتِهِ، وكَانَ الفَضْلُ رَجُلاً وَضِيئاً، فَوقَف النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وسلم لِلنَّاسِ يُفْتِيهِم، وَأَقْبَلَتْ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمَ وَضِيئَةٌ تَسْتَفْتِي رَسُولَ الله صَلَّى الله عليه وسلم، فَطَفِقَ الفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَأَعْجَبَهُ حُسْنُهَا، فَالْتَفَتَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وسلم  وَالْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا فَأَخْلَفَ بِيَدِهِ فَأَخَذَ بِذَقَنِ الفَضْلِ فَعَدَلَ وَجْهَهُ عَنِ النَّظَرِ إِلَيْهَا..”الحديث.

وفي بعض الروايات قال ابن عبّاس: “وكانت شابة وضيئة، فجعل الفضل ينظر إليها أعجبه حُسنها، فلوى رسول الله عنق الفضل“. وعند الترمذي من حديث علي: “وجعلت تنظر إليه أعجبها حُسنه“. قال العبّاس: يا رسول الله لِمَ لويت عنق ابن عمّك؟ فقال: “رأيت شاباً وشابة فلم آمن الشيطان عليهما“، قال ابن عبّاس: وكان ذلك بعد آية الحجاب. ا. هـ.

وهكذا يُعلِّم الحبيب صلوات الله وسلامه عليه أصحابه الكرام، ومن بعدهم أمَّته، بطريقة عمليَّة “فعدل وجهه“، ولم يقل: فنهره، أو عنَّفه، أو وبَّخه، أو ضربه .. فالتعليمُ تربيةٌ وسلوكٌ وخُلقٌ حَسن؛ إنَّما رأى شاباً وشابةً وخاف عليهما من الشيطان “فلوى رسول الله عنق الفضل“.

وكذلك فعل مع علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- إذ قال له كما في الحديث المتفق عليه: “يا عَليُّ لا تُتْبعِ النَّظْرَةَ النَّظْرَة، فإنَّ لكَ الأُولَى، ولَيْسَتْ لكَ الثَّانِيَة”. ومن صحيح مسلم عن جرير بن عبد الله-رضي الله عنه- قال: “سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجاءة فأمرني أن أصرف بصري”.

ولذلك ترجم محمد بن داود (ت:296هـ) في كتابه “الزهرة” الذي ألفه في موضوع الحب في بابه الأوَّل، ترجمة بعنوان: “من كثرت لحظاته دامت حسراته“، إشارة منه إلى أنَّ مبتدأ الحبّ النظر، وأنَّ كثرته تعود على صاحبه بالندم والحسرة.

ومن ذلك ما رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلَّم: “النَّظْرَةُ سَهْمٌ مَسْمُومٌ من سِهَامِ إبلِيس، فمن غضَّ بَصَرَه عن محاسنِ امرأةٍ؛ أورَثَ الله قلبَهُ حلاوةً يجِدُها إلى يوم يَلْقَاهُ”.[17]

وتأمَّلوا إخوتي في قول الشاعر:

كلُّ الحوادثِ مَبْداها من النَّظر

 
ومُعظَمُ النَّار من مُسْتَصْغَرِ الشَّرَرِ

كم نَظْرَةٍ فتكَتْ في قلبِ صاحِبِها

 
فَتْكَ السِّهامِ بلا قَوْسٍ ولا وَتَرِ

والمرءُ مادامَ ذا عينٍ يُقَلِّبُهَا

 
في أعينِ الغيدِ موقوفٌ على الخَطرِ
يَسُرُّ مُقلتَه ما ضَرَّ مهجتَه

 
لا مرحباً بسرورٍ عاد بالضَّررِ

 

ويقول ابن قيِّم الجوزية في قوله تعالى: “قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم..” (النور:30): “وقد جعل الله سبحانه العين مِرْآة القلب، فإذا غضَّ العبدُ بصرَه غضَّ القلبُ شهوتَه وإرادتَه، وإذا أطلق بصره أطلق القلبُ شهوتَه”[18].

وهنا تنبيه يحسن الوقوف عليه؛ وهو قوله تعالى: “من أبصارهم”، فإنَّ كلمة “من” تفيد التبعيض، أي أنَّ الله سبحانه لم يأمر بغضِّه مطلقاً، بل أمر بالغضِّ منه؛ ولـمَّا كان تحريمه تحريم الوسائل، فيُباح للمصلحة الراجحة، ويحرُم إذا خِيفَ منه الفسادُ.[19] ومعنى ثانٍ يستفاد من هذه الكلمة: أنَّ المرء مكلف أن يغضَّ البصر، لا عن كلِّ النساء، بل الأجنبيات فقط؛ ومعنى هذا أنَّ النظر إلى النساء المحارم جائز: الأم، الأخت، البنت، العمة، الخالة، بنت الأخ، بنت الأخت، بنت الإبن؛ ولكن ليس بهذا التساهل الذي عليه مجتمعنا المغربي، فلا ينبغي التدقيق، ولا تتبع التفاصيل والخطوط، ومن الطبيعي أن ينظر الإنسان نظرة كلية، ولكن من غير الطبيعي أن يدخل على واحدة منهن بلا إذن، ولو كانت أمّه لا يجوز بأيِّ حال؛ لما ورد في موطأ مالك عن ‏صفوان بن سليم ‏‏عن ‏عطاء بن يسار: ‏أن رسول الله ‏‏صلى الله عليه وسلم‏ ‏سأله رجل فقال: “يا رسول الله أستأذن على أمي” فقال: “نعم” قال الرجل: “إني معها في البيت” فقال رسول الله‏ ‏صلى الله عليه وسلم: “‏استأذن عليها” فقال الرجل: “إني خادمها” فقال له رسول الله ‏‏صلى الله عليه وسلم: “‏استأذن عليها أتحب أن ‏ ‏تراها عريانةقال: “لا” قال: “فاستأذن عليها”. وينبغي كذلك على المحارم من جهة أخرى أن يكون لباسهن لباس حشمة ووقار، عبَّر عنها العلماء بثياب الخدمة، فالأخت مثلا لا ينبغي لها أن تظهر أمام أخيها إلا بمثل هذه الثياب، وهي كما وصفها العلماء: النحر مستور، وتحت الركبة، وإلى المرفقين؛ أمَّا أن تقوم الفتاة أمام أخيها بثوب فاضح، أو قماش شفاف، ولو أنها أخته فهذا محرَّم، فالشرع سمح أن يجلس معها، وأن ينظر إليها، وأن يخاطبها، وأن يسهرا معا، ولكن بثياب محتشمة، حتى لا يقع المحظور ممَّا ذكرناه آنفاً.

وإشارة أخرى من توجيهاته صلى الله عليه وسلم التربويَّة حتَّى لا ينحرف المسلم عن فطرته السويَّة وكرامته الإنسانيَّة، نجدها في الحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ, أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: “لَا يَنْظُرُ الرَّجُلُ إِلَى عَوْرَةِ الرَّجُلِ، وَلَا الْمَرْأَةُ إِلَى عَوْرَةِ الْمَرْأَةِ، وَلَا يُفْضِي الرَّجُلُ إِلَى الرَّجُلِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، وَلَا تُفْضِي الْمَرْأَةُ إِلَى الْمَرْأَةِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ”.

وبسبب مخالفة هذا التوجيه النبوي ظهر هذين الانحرافين الجنسيين الخطيرين، وهو ما يسمَّى بالمثليين، وبدأنا نسمع عن تأسيس قوانين تحميهم باسم الحريات الفردية !! والعياذ بالله.

وهكذا تتعدد صور التربية النبويَّة التي أقامت المجتمع الأوَّل على الصفاء والنقاء، والإيمان والحياء؛ وكلَّما ابتعدنا عن وحي ربنا وسنَّة نبيِّنا وسيرته الغرَّاء، كلَّما فشت فينا الأمراض والأوجاع ممَّا لم يكن عند أسلافنا[20]؛ وهذا ما نشاهده الآن في واقعنا من فيروسات تفتك ببني الإنسان لم تعرفها الأزمان السابقة، فذاك مرض الإيدز (السيدا)، وهذا فيروس (إيبولا)… !!!

يا إخوتي الأطهار؛ كان الرجل يأتي النبي صلوات ربي وسلامه عليه فيسأله عمَّا تهفو إليه نفسه، ويهواه قلبه، دون حرجٍ، سؤال الخاضع لشرع الله، ويجيب بأبي هو وأمِّي جواب الحكيم، المربِّي، بِلطف يحتويه، فيخِرُّ له سمْعُ الرَّجل، ويطأطئ له رأسه، ويحاوره بعزَّةٍ، ونخوةٍ، وغيرةٍ على عرضه وشرفه؛ كمثل الشاب الذي جاء يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالزنا، فقال عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم: أتحبه لأمك، أفتحبه لابنتك، لأخت!!.. فقال الشاب: لا والله يا رسول الله جعلني الله فداءك، فأجابه خاتم المرسلين عليه السلام: وكذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم، ولا لبناتهم… الحديث

قال ابن الفارض في ديوانه:

أنت القتيلُ بكلِّ من أحبَبْتَهُ

 
فَاخْتَر لِنَفْسِكَ فِي الهوَى مَن تَصْطَفِي

ومن صور وحي النبوة في شفاء هوى المحبِّين، ونيل الرِّضى والرّضوان من ربِّ العالمين؛ ما جاء في حديث ابن عباس –رضي الله عنهما-: أنَّ رجلاً قال: يا رسول الله! عندنا يتيمةٌ قد خطبَها رجلان: مُوسرٌ ومُعْسرٌ، وهي تهوى المعسِرَ، ونحن نهوى الموسِرَ، فقال بأبي أنت وأمِّي يا رسول الله: “لَمْ يُرَ لِلْمُتَحَابَّيْنِ مِثْلُ التَّزْويج”.[21]

وأختم هذه القصص بوصيَّة النبي صلى الله عليه وسلَّم للشباب، كما في الصحيحين من حديث عبد الرحمان بن يزيد قال دخلت مع علقمة والأسود على عبد الله فقال عبد الله كنا مع النبي شبابا لا نجد شيئا  فقال لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “يَا مَعْشَرَ الشبَابِ، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنّهُ أغَضّ لِلْبَصَرِ وأحْصَنُ لِلْفَرْجِ، فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصّوْمِ، فإِنّه لَهُ وِجَاءٌ”.

 

شعار الشباب .. فرآى برهان ربِّه

“لا يُفتي الناسَ إلاَّ عطاء بن أبي رباح” مفتي مكة وإمامها وعالمها، يتلقاه الحجيج بمسائلهم في الدين، ويمسك غيره عن الفتوى بأمر السلاطين، جلس يتحيَّن الصلاة يوماً في المسجد الحرام، فوقف عليه رجل وقال: يا أبا محمد، أنت أفتيت كما قال الشاعر:

سَلِ المُفْتِيَ المَكِّي: هَلْ في تَزَاوُرٍ

 
وَضَمَّةِ مُشْتَاقِ الفُؤَادِ جُناحُ

فَقَال: مَعَاذَ الله أنْ يُذهِبَ التُّقى

 
تَلاَصُقُ أكْبَادٍ بِهِنَّ جِرَاحُ

 

فرفع الشيخ رأسه وقال: والله ما قلت شيئًا من هذا، ولكن الشاعر هو نَحَلَنِي هذا الرأي الذي نفثه الشيطان على لسانه، وإني لأخاف أن تشيع القَالة في الناس، فإذا كان غدٌ وجلست في حلقتي فاغْدُ عليَّ، فإني قائل شيئًا.

وذهب الخبر يؤُجُّ كما تؤج النار، وتعالم الناس أن عطاء سيتكلم في الحب، وعجبوا كيف يدري الحب أو يحسن أن يقول فيه مَنْ غَبَر عشرين سنة فِراشه المسجد، وقد سمع من عائشة أم المؤمنين، وأبي هريرة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابن عباس بحر العلم.

ولما كان غدٌ جاء الناس أرسالًا إلى المسجد، حتى اجتمع منهم الجمع الكثير. قال عبد الرحمن بن عبد الله أبي عمار: وكنت رجلًا شابًّا من فتيان المدينة، وفي نفسي من الدنيا ومن هوى الشباب، فغدوت مع الناس، وجئت وقد تكلم أبو محمد وأفاض، ولم أكن رأيته من قبل، فنظرت إليه فإذا هو في مجلسه كأنه غراب أسود، إذ كان ابن أمَةٍ سوداء تُسمى “بركة”، ورأيته مع سواده، أعور، أفطس، أشل، أعرج، مفلفل الشعر، لا يتأمل المرء منه طائلًا، ولكنك تسمعه يتكلم فتظن منه ومن سواده -والله- أن هذه قطعة ليل تسطع فيها النجوم، وتصعد من حولها الملائكة وتنزل.

قال: وكان مجلسه في قصة يوسف عليه السلام، ووافقته وهو يتكلم في تأويل قوله تعالى: “وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ، وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ”.

قال عبد الرحمن: فسمعت كلامًا قدسيًّا تضع له الملائكة أجنحتها من رضى وإعجاب بفقيه الحجاز. حفظت منه قوله:

عجبًا للحب! هذه ملِكَة تعشقُ فتاها الذي ابتاعه زوجها بثمن بخس؛ ولكن أين مُلْكُها وسطوةُ مُلْكِها في تصوير الآية الكريمة؟ لم تزد الآية على أن قالت: “وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي” و“الَّتِي” هذه كلمة تدل على كل امرأةٍ كائنةً مَنْ كانت؛ فلم يَبْقَ على الحبِّ مُلْكٌ ولا مَنْزِلة؛ وزَالَتِ الـمَلِكَةُ من الأنثى!

وأعجب من هذا كلمة “وَرَاوَدَتْهُ” وهي بصيغتها المفردةِ حكايةٌ طويلةٌ تُشيرُ إلى أنَّ هذه المرأةَ جعلَتْ تعترضُ يوسفَ بألوانٍ من أنوثتِها، لَوْنٍ بعد لَوْن؛ ذاهبةً إلى فن، راجعةً من فن؛ لأن الكلمةَ مأخوذةٌ من رَوَدَانِ الإبلِ في مِشيتِها؛ تذهبُ وتجِيءُ في رِفْق. وهذا يُصَوِّرُ حَيْرَةَ المرأةِ العاشقة، واضطرابَها في حبِّها؛ ومحاولتَها أن تَنْفُذَ إلى غايتِها؛ كما يُصوِّر كبرياءَ الأنثى إِذْ تختالُ وتترفَقُ في عرضِ ضعفِها الطبيعيِّ كأنَّما الكبرياءُ شيءٌ آخرُ غيرُ طبيعتِها؛ فمهما تَتهالكْ على مَن تحبُّ وَجَبَ أنْ يكونَ لهذا “الشيء الآخر” مَظهرُ امتناعٍ أو مظهرُ تحيُّرٍ أو مظهرُ اضطراب، وإِنْ كانَتِ الطبيعةُ من وراءِ ذلك مندفِعةً ماضية مصمِّمة.

ثم قال: “عَنْ نَفْسِهِ” ليدُلَ على أنَّها لا تطمعُ فيه، ولكنْ في طبيعتِهِ البشرية، فهي تَعرِض ما تعرضُ لهذه الطبيعةِ وحدَها، وكأنَّ الآية مصرِّحةٌ في أدبٍ سامٍ كلَّ السموِّ، منزَّهٍ غايةَ التنزيهِ بما معناه: “إِنَّ المرأةَ بذَلَتْ كلَّ ما تستطيعُ في إغرائهِ (وتصيُّدِه)، مقْبِلةً عليه ومتدلِّلةً ومتبذِلةً ومُنْصَبَّةً من كلِّ جِهة، بما في جسمِها وجمالِها على طبيعتِهِ البشرية، وعارضةً كلَّ ذلك عَرْضَ امرأةٍ خلعَتْ -أوَّلَ ما خلعتْ- أمامَ عينيهِ ثوبَ الـمُلْك”.

ثم قال: “وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ” ولم يقل “أغلقَتْ” وهذا يُشعر أنَّها لَـمَّا يئسِت، ورأَتْ منه محاولةَ الانصراف، أَسرَعتْ في ثَورةِ نفسِها مهتاجةً تتخيَّلُ القفلَ الواحدَ أقفالًا عِدَّة، وتجري من بابٍ إلى باب، وتَضطربُ يدُها في الإِغلاق، كأنَّما تُحاوِلُ سدَّ الأبوابِ لا إغلاقَها فقط.

“وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ” ومعناها في هذا الموقفِ أنَّ اليأسَ قد دفعَ بهذِهِ المرأةِ إلى آخرِ حدودِه، فانتهَتْ إلى حالةٍ من الجنونِ بفكرتِها الشهوانية، ولم تعدْ لا مَلِكَةً ولا امرأة، بل أنوثةً حيوانيةً صِرْفةً، متكشِّفةً مصرِّحة، كما تكونُ أنثى الحيوانِ في أشدِّ اهتياجِها وغَلَيانِها.

هذه ثلاثةُ أطوارٍ يترقَّى بعضُها من بعض، وفيها طبيعةُ الأنوثةِ نازلةً من أعلاها إلى أسفلِها. فإذا انتهَتِ المرأةُ إلى نهايتِها ولم يَبْقَ وراءَ ذلك شيءٌ تستطيعُهُ أو تعرضُهُ بدأَتْ من ثَمَّ عظَمةُ الرجولةِ الساميةِ المتمكِّنةِ في معانيها، فقال يوسف: “مَعَاذَ اللَّهِ” ثم قال: “إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ” [يوسف: 23] ثم قال: “إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ” [يوسف: 23]. وهذه أسْمَى طريقةٍ إلى تنبيهِ ضميرِ المرأةِ في المرأة، إِذْ كانَ أساسُ ضميرِها في كلِّ عصرٍ هو اليقينَ بِالله، ومعرفةَ الجميل، وكراهةَ الظُّلْم. ولكنَّ هذا التنبيهَ المترادِفَ ثلاثَ مرَّاتٍ لم يكسرْ من نَزْوَتِها، ولم يَفْثَأ تلك الحِدَّة، فإنَّ حبَّها كانَ قدِ انحصر في فكرةٍ واحدةٍ اجتمَعت بكلِّ أسبابِها في زمنٍ، في مكانٍ، في رَجُل، فهي فكرةٌ مُـحْتَبَسَةٌ كأنَّ الأبوابَ مغلَّقةٌ عليها أيضًا؛ ولذا بقيَتِ المرأةُ ثائرةً ثورةَ نفسِها. وهنا يعود الأدبُ الإلهيّ السامي إلى تعبيرِهِ المعجزِ فيقَول: “وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ” [يوسف: 24] كأنَّمَا يُومئُ بهذه العبارةِ إلى أنَّها ترامَتْ عليه، وتَعَلَّقَتْ به، والتجأتْ إلى وَسيلتِها الأخيرة، وهي لَـمْسُ الطبيعةِ بالطبيعةِ لإلقاءِ الجمرةِ في الهَشيمِ!

جاءَتِ العاشقةُ في قضيتِها ببرهانِ الشيطانِ يَقْذِفُ بهِ في آخرِ محاولتِه. وهنا يقَعُ ليوسفَ -عليه السلامُ- برهانُ ربِّهِ كما وقعَ لها هي برهانُ شيطانِها. فلولا برهانُ ربِّهِ لكانَ رجُلًا من البَشَرِ في ضعفِهِ الطبيعيّ.

قال أبو محمد: وههنا ههنا المعجزةُ الكبرى؛ لأنَّ الآيةَ الكريمةَ تُريدُ ألاَّ تنفيَ عن يوسفَ -عليهِ السلامُ- فُحولةَ الرجولة، حتى لا يُظَنَّ بهِ، ثم هي تُريدُ من ذلك أن يَتعلَّمَ الرجالُ، وخاصةً الشبانَ منهم، كيف يَتسامَوْنَ بهذه الرجولةِ فوقَ الشهوات، حتى في الحالةِ التي هي نهايةُ قدرةِ الطبيعة؛ حالةِ مَلِكَةٍ مُطَاعةٍ فاتنةٍ عاشقةٍ مُـخْتَلِيةٍ مُتَعَرِّضَةٍ مُتَكَشِّفَةٍ متهالكة. هنا لا ينبغي أن ييأسَ الرجل، فإنَّ الوسيلةَ التي تجعلُهُ لا يرى شيئًا من هذا- هي أنْ يرى برهانَ ربِّه.

وهذا البرهانُ يُؤَوِّلُهُ كلُّ إنسانٍ بما شاء، فهو كَالمِفْتاحِ الذي يُوضعُ في الأقفالِ كلِّها فيفُضُّها كلَّها؛ فإذا مثلَ الرَّجلُ لنفسِه في تلك السَاعةِ أنَّه هو وهذه المرأةَ منتَصِبانِ أمامَ اللهِ يراهما، وأنَّ أمانيَّ القلبِ التي تهجِسُ فيه ويظنُّها خافيةً إنَّما هي صوتٌ عالٍ يسمعُهُ الله؛ وإذا تذكَّرَ أنَّه سيموتُ ويُقْبَر، وفكَّر فيما يصنعُ الثرى في جسمِهِ هذا، أو فكَّرَ في موقفِهِ يومَ تَشْهَدُ عليهِ أعضاؤُهُ بمَا كانَ يعمل، أو فكَّرَ في أنَّ هذا الإثمَ الذي يقتَرِفُهُ الآنَ سيكونُ مَرْجِعُهُ عليه في أختِهِ أو بنتِه، إذا فكَّرَ في هذا ونحوِهِ رأى برهانَ ربِّه يُطَالِعُهُ فجأة، كما يكونُ السائرُ في الطريقِ غافلًا مُندفِعًا إلى هاوية، ثم ينظرُ فجأةً فيرى برهانَ عَيْنِه؛ أتروْنَه يَتَردَّى في الهاويةِ حينئذٍ، أم يقفُ دونَها وينجو؟ احفظوا هذه الكلمةَ الواحدة التي فيها أكثرُ الكلام، وأكثرُ الموعِظة، وأكثرُ التربية، والتي هي كالدِّرْعِ في المعركةِ بينَ الرَّجلِ والمرأةِ والشيطان، كلمةَ “رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ”.

قال عبد الرحمن بن عبد الله وهو يتحدث إلى صاحبه سهيل بن عبد الرحمن: ولزمتُ الإمامَ بعد ذلك، وأجمعتُ أن أتشبَّه به، وأسْلُكَ في طريقه من الزهدِ والمعرِفة؛ ثم رجعْتُ إلى المدينةِ وقد حفظْتُ الرجلَ في نفسي كما أحفظُ الكلام، وجعلْتُ شِعاري في كلِّ نَزْعةٍ من نَزَعاتِ النفسِ هذه الكلمةَ العظيمة: “رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ” [يوسف: 24]، فما ألممْتُ بإثمٍ قط، ولا دانيْتُ معصيةً، ولا رَهِقَنِي مَطْلَبٌ من مطالبِ النفسِ إلى يوم النَّاس هذا، وأرجو أنْ يَعْصِمَني الله فيما بقي، فإنَّ هذه الكلمةَ ليسَتْ كلمة، وإنَّما هي كأمرٍ منَ السماءِ تحملُه، تمُرُّ بِه آمِنًا على كلِّ مَعَاصي الأرض، فما يَعْتَرِضُكَ شيءٌ منها، كأنَّ معك خَاتَم الـمَلِك تجوزُ به.[22]

فليكن شعارنا معشر الشباب عند كلِّ فتنة أو ابتلاء أو امتحان في الحرام قول: “مَعَاذَ اللَّهِ”؛ “إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ”؛ “إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ”؛ حتَّى تتجلَّى لنا الأنوار الإلهية الرَّبانِية ساطعةً كالنجوم المضيئة في ظلمات الليل الحالك، فيهتدي بها كلُّ شابٍ وشابةٍ في سلوك الطريق المستقيم، في مدارج إيَّاك نعبد وإيَّاك نستعين، متمثلين قول الحقِّ جلَّ وعلا: “رأى برهان ربِّه”.

[1]  ينظر الحب في التراث العربي، تأليف: د، محمد حسن عبد الله، عالم المعرفة، العدد:36 ديسمبر 1980، ص:572 وما بعدها.

[2]  متفق عليه من رواية أنس بن مالك رضي الله عنه.

[3]  ينظر الشباب العربي ومشكلاته، تأليف: د، عزت حجازي، مجلة عالم المعرفة، العدد 6 فبراير 1985، ص: 12.

[4]  المرجع السابق، ص:09.

[5]  ذكر د، عزت حجازي أنَّ الأصدقاء يشكلون للشاب جماعته المرجعيّة وتسبق في أهميتها غيرها من أسرة أو رفاق الدراسة، ويستمدُّ الشاب منها قيمه وعاداته وأساليب تصرفاته ومعايير الحكم على الذات والآخرين. وقد أرجع أهمية العلاقات بين الأقران في حياة معظم الشباب المتمرد إلى عدة عوامل ذكر خمسا منها إيجابية وأربعا سلبية، فلتراجع في كتابه “الشباب العربي ومشكلاته”، ص: 206.

[6]  المرجع السابق، ص:09.

[7]  أخرجه أحمد في “المسند” ( 8/307/ح 8398)، والقضاعي في “مسند الشهاب” (1/141/188)، وابن أبي الدنيا في “الإخوان” (37)، وابن عساكر في “ذم قرناء السوء” (34-38/3)، وابن السبكي في “طبقات الشافعية” (3/225)، وابن حجر في “الأمالي المطلقة” (ص:151) من طريق: عبد الرحمن بن مهدي، عن زهير بن محمد، به .قال الترمذي: “هذا حديث حسن غريب”، وقال النووي في “رياض الصالحين” (ص:174): “إسناده صحيح”، وقال ابن مفلح في “الآداب الشرعية” (3/528): “إسناده جيد، وموسى حسن الحديث”، وقال ابن حجر: “حديث حسن”.

[8]  يقول الأستاذ رشيد أبو ثور: “أصبح ذلك اليوم منظماً من خلال نوادي ممارسة ما يسمى ب”الجنس التبادلي”، حيث يؤمها الزوجان بحثاً عن ثنائي آخر ليتبادل كل طرف شريكه مع الآخر، وتعرف هذه النوادي خلال السنوات الأخيرة بفرنسا ازدهاراً ملموسا”.

[9]  ينظر “الأسرة والحق الطبيعي“، مقال للأستاذ رشيد أبو ثور، بمجلة المنعطف، عدد مزدوج: 15-16 سنة 2000م، ص: 110-111.

[10]  المرجع السابق، ص: 111.

[11]  Primetime live poll: American Sex Survey A peek Beneath the Sheets Analysis By GARY LANGER, with CHERYL ARNEDT and DALIA SUSSMAN  نقلا عن كتاب “الفردوس المستعار والفردوس المستعاد” للدكتور أحمد خيري العمري، ص: 489-490.

[12]  Rape statistics http://oak.cats.ohiou.edu/ ad361896/anne/cease/rapestatisticspage.html  نقلا عن المرجع السابق، ص: 494.

[13]  المرجع السابق، ص: 495.

[14]  الحديث من رواية أبي هريرة أخرجه البخاري في صحيحه.

[15]  روضة المحبين ونزهة المشتاقين، تأليف: الإمام ابن قيم الجوزية (ت:751هـ)، مطبوعات المجمع الفقهي الإسلامي بجدة، ص:600.

[16]  ذكره ابن الجوزي في “ذم الهوى“، ص: 245.

[17]  أخرجه الطبراني في “المعجم الكبير” (ح: 10363) من حديث ابن مسعود، وفي إسناده عبد الرحمن بن إسحاق الواسطي وهو ضعيف.

[18]  روضة المحبين، ص:146.

[19]  المرجع السابق، ص: 146.

[20] جزء من حديث رواه ابن ماجة في سننه (ح:4019) وأبو نعيم في الحلية (333/8- 334) عن ابن أبي مالك عن أبيه عن عطاء بن أبي رباح عن عبد الله ابن عمر بلفظ: (يا معشر المهاجرين خمس إذا ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قطُّ، حتَّى يعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون، والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا…الحديث)، ورواه الحاكم في مستدركه (540/4) من طريق أبي معيد حفص بن = =غيلان، وصحح إسناده ووافقه الذهبي، وله شاهد في الموطأ عن ابن عباس بلفظ: (ولا فشا الزنا في قوم قط إلا كثر فيهم الموت..الحديث)، وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (193/10): “وفي حديث بريدة عند الحاكم بسند جيِّد بلفظ: (ولا ظهرت الفاحشة في قوم إلا سلَّط الله عليهم الموت)، ولأحمد من حديث عائشة مرفوعاً: (لا تزال أمتي بخير ما لم يفش فيهم ولد الزنا فإذا فشا فيهم ولد الزنا أوشك أن يعمَّهم الله بعقاب)، وسنده حسن“. وذكره الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم: 7978، وفي السلسلة الصحيحة برقم: 106. وناقش الدكتور خالد الحايك هذا الحديث بجميع أسانيده وخلص إلى أنَّه ضعيف بكلِّ طرقه!!

[21]  أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط (ح:3177)، وابن ماجة (ح:1847)، والحاكم في المستدرك (2/160)، والبيهقي في سننه الكبرى (7/78)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (624).

[22]  ولمن أراد التعرف على قصة القس لـمَّا ابْتُلِيَ بحبِّ سلاَّمة جارية صاحبه سهيل وحُبِّها له وكيف رآى برهان ربِّه فليراجع كتاب “وحي القلم”، لمصطفى صادق الرافعي، المكتبة العصرية-بيروت، ط: 2002، ص: 93-97؛ وينظر أيضا كتاب الأغاني لأبي فرج الأصفهاني.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M