الشيخ المختار السوسي رحمه الله: بين الأمس والغد

17 مارس 2016 18:45
الشيخ المختار السوسي رحمه الله: بين الأمس والغد

هوية بريس – الشيخ المختار السوسي

الخميس 17 مارس 2016

من طبائع الأيَّام التَّحولُ من حالٍ إلى حالٍ؛ ففي كلِّ يوم طلوعٌ جديدٌ لم يكن معروفا. أو أُفول معروف كأن لم يكن في يوم ما جديدًا، فما يألفه الأجدادُ حتَّى يكون جزءًا من حياتهم قد يكون عند الأحفاد منكورًا، وما يكون منكورًا عند جيل قد يكون عند جيل آخر مألوفًا.

وهذا ما يراهُ الإنسانُ في نفسه، فيكون في كهولته غيره في شبيبته فكرًا وذوقًا ورغبةً في شيء أو رغبةً عنه، وهي أطوارٌ جبلتْ عليها هذه الحياة. سنَّةُ الله في الكون ولن تجد لسنَّةِ الله تبديلا.

والتَّحولُ في الهيأةِ الاجتماعيةِ في غالب الأزمنةِ، يعهدُ منه أن يتتابع ببطءٍ: حتَّى لا يكاد يفطن له إلا الألمعيون، حتَّى جاء هذا العصرُ، عصر الذُّرةِ والصَّواريخ، فإذا بها تكاد تتحَّولُ من حال إلى حال في طرفة عين، خصوصًا في بعض الأقطار كقطرنا هذا الذي هجم عليه هذا العصر المسرع هجومًا مباغتا؛ فإذا به بين عشية وضحاها كأنَّما انقلب رأسًا على عقب.

أمـــــس

إنَّنا اليوم في “المغرب” لفي عهد يعدُّه من يعيشون قبله؛ ثمَّ يمتدُّ بهم العمر إلى أن يعيشوا فيه عهدًا غريبًا عجيبًا. فقد شاهدنا كلَّ شيء إلى تحوّل سريعٍ فقد كنَّا نحيا في بيئةٍ لا تكاد تمتُّ إليهَا هذه البيئة الجديدة بأيِّ لونٍ، كنَّا في دينٍ وفي عاداتٍ وفي هيئاتٍ وفي أفكارٍ وفي مقاييس وفي أوضاع، ثمَّ ها نحن أولاء مندفعون إلى ما يعاكس كلَّ ما ألِفناه على خطٍّ مستقيمٍ.

أمس كان الدِّينُ ومثله العليا، والتخلُّقُ به، والتَّحاكمُ إليه، والحرصُ على علومِه، واحترامُ حملته؛ هو المعروفُ المُجْمعُ عليهِ لا يختلفُ فيه اثنان لأنَّ ذلك راسخٌ في النُّفوسِ؛ وتواترتْ عليه القرونُ؛ منذ عرف المغربُ الإسلامَ في القرن الأوَّلِ الهجري إلى أن أدركنا نحن ذلك في أوائل القرن الرَّابع عشر.

أمس كانتِ الحضارةُ الشَّرقيَّةُ هي المعروفةُ وحدَها عندنَا بأذواقِها وآدابِها وألوانِها وهدوئها واتِّساعِ ساحتِها، وهي التي استطاعتْ أن تلتهمَ حضارةَ فارسٍ وبيزانطةَ. ثمَّ تبلورتْ في دمشق وبغداد والقاهرة والقيروان وقرطبة، ثمَّ كان مغربنا هذا ممَّنْ له من إرثِ هذه الحضارة كنوزٌ كاد يحافظُ عليها وحده منذ أن انهارتِ الأندلسُ. واستولى التركيون على الشَّرق الأدنى كلّه ما عدا هذا القطر السَّعيد؛ الذي لم يعرف إلَّا الاستقلال منذ عرف الاسلام إلى الآن، فكان يعرف مقدار كنوزه هذه ويعتزُّ بكلِّ ما فيها من ألوان وأفكار وفلسفة وعلوم وآداب ومعمار.

أمس كانتْ عندنا تقاليد محترمة في اللِّباسِ وفي اختيار التأثيث وفي هيأة الجلوس وفي إقامة الحفلات وفي مزاولة الأعمال، فتكونتْ لنا هيأةٌ اجتماعيةٌ توافقنا لأنَّها كانت متسلسلةً عن الأجداد، لا يحسُّ فيها بأنَّها تتغيَّرُ في كلِّ جيل، وإن كانتْ في الحقيقة لا بدَّ أن يكون فيها تغيُّرٌ ما في كلِّ جيلٍ _ فكانت لها موازين ٌخاصَّةٌ مألوفةٌ؛ إليها يتحاكمُ ذوُو الأذواق والأفكار عند الاختلاف، فيتخذ حكمها مسمطا، وقانونها مرتكزٌ في أعماق النُّفوسِ لا مسطَّرٌ في الطُّروسِ. تلاءمتْ فيه مقتضياتُ حياتنا وديننا وعادات مجتمعنا تلاؤمًا تامًّا؛ دينُ العربيَّةِ ولغةُ الدِّينِ، وعاداتٌ تكونتْ تحتَ نظرهمَا في قطرٍ امتزجَ فيه العربُ والبربرُ تمازجَ الماء القراح بالرَّاحِ.

هكذا كنَّا أمس نعيش عيشة راضية نقرُّ بها عينًا ونرضى عنها كلَّ الرِّضَا لا نرى بها بديلاً بل لا نظنُّ أنَّ هناك من يحيا حياةً طيِّبةً مثل حياتنا التي نحياها في أمسنا الحلو اللَّذيذِ؛ يوم كنَّا في عزلة عن العالم، في قطرنا هذا المحاط من جميع جهاته بسدود طبيعية، فمن الجنوب بالصحراء الكبرى، ومن الغرب والشمال بالبحر الواسع الذي لا نكاد نملك فيه ولو سفينة واحدة لركوبه، ومن الشرق بالجزائر التي سدت أيضا دوننا منذ أن استعمرها الفرنسيون من عقود من السنين، فهذا هو محيطنا الذي لا نعرف سواه قد ألفناه وسعدنا فيه سعادة من ينشأ في محلٍّ خاصٍّ في عمره كلِّه، فلا يتصوَّرُ أنَّ هناك حياةٌ أخرى غير ما هو فيه.

اليــــــوم

وفي هذا اليوم دهم علينا الاستعمارُ بخيله ورجله، بلونه وفكره، بسياسته ومكره، بحضارته المشعة؛ بعلومه الحيوية المادية، بنظامه العجيب؛ بمعامله المنتجة السريعة، بكل شيء يمتُّ إلى الحياة الواقعيَّة، فوقع لنا كما وقع لأصحاب الكهف يوم رجعوا إلى الحياة، فوجدوا كلَّ ما يعرفونه قد تغيَّرَ تغيُّرًا تامًّا.

وحين كان المغربُ لقنا حاذقا سريع التطور، مندفعًا إلى كلِّ ما يروقه. أقبل بنهم شديد على التهام كلّ ما في هذه الحضارة الغربيَّة العجيبةِ؛ التي تغير على جميع نواحي الحياة؛ فتحدثُ من التَّغييرِ ما يجرف التَّقاليدَ والأفكار وكلَّ ما يمتُّ إلى العادات، فإذا بالمغرب يتحوَّلُ في عهد قصير إلى مغرب آخر يغاير كلَّ ما كان معروفًا منه في الأمس. فإذا بأمثالنا نحن الذين كنا نعيش في شرخ شبابنا في المغرب المستقل قبل سنة 1330هـ؛ قد كدنا نكون غرباء في طور شيخوختنا في المغرب المستقل من جديد 1375هـ، فقد حرصنا أن لا ننكر إلَّا ما يستحقُّ أن ينكر، وأن نحمد كلَّ ما يمكن أن يحمدَ، واجتهدنا أن نسايرَ العصرَ، وأن نتفهمه فلا ننكر أخذ ما لا بدَّ من أخذه من أساليب الحضارةِ ونُظمِهَا وعلومها -لأن الحكمة ضالة المؤمن يلتقطها أنى وجدها- ولكنَّنا مع ذلك نشاهد إسرافًا في التَّحولِّ السَّريعِ الذي لم يراع فيه -حسب أنظارنا نحن المسنين- حكمة ما بين التفريط والإفراط؛ فنحاول أن نجمع بين محاسن أمس واليوم، ناصبين ميزان القسط، فإذا بنا نكادُ نعيش الآنَ على هامش الحياة العادية التي اندفعَ إليها هؤلاء الذين يملكون ناصية الحياة الاجتماعية بعد الاستقلال. وأعظم ما نهتمُّ له شيئان:

أحدهما: التفريط في المثل العليا التي لا ترسخ في الشعوب إلَّا بعد جهود قرون؛ ومتى اجتثت من أيِّ شعب بمثل هذه الاندفاعات العمياء فإنَّ أبناء ذلك الشَّعبِ سرعان ما ينحرفون عن الصِّراط المستقيم في الحياة.

وثانيهما: التفريط في المحافظة على اللُّغة العربيَّةِ وآدابها التي هي شعار المغرب وكنزه الموروث المحافظ عليه كلغة رسميَّةٍ حتَّى يوم عمَّمتْ تركيا لغتَها في جميع أنحاء بلاد العرب منذ أوائل القرن العاشر الهجري. وليت شعري لماذا كنَّا نحرصُ على الاستقلال إن لم تكن أهدافنا المحافظةُ على مثلنا العليا المجموعة في أسس ديننا الحنيف؟ والمحافظة على هذه اللُّغةِ التي استماتَ المغاربةُ كلُّهم عربُهم وبربرُهم في جعلها هي اللُّغة الوحيدة في البلاد.

ومعلوم ما للمغراويين والمرابطين والموحدين والمرينيين من تمجيد هذه اللغة وهي دول بربرية صميمة وذلك هو موضع العجب. وأمَّا أن يحافظ الأدارسة والسعديون والعلويون عليها فإنَّ ذلك أمر طبيعي؛ لأنَّ الجالسين منهم على العرش عربٌ أقحاحٌ. هكذا أصبحنا نرى كثيرًا من تراثنا يضمحلُّ بكلِّ سرعةٍ، ثمَّ لا يطمع أن يتراجع إليه الإخلاف إلا بعد زمان نطلب الله أن لا يطول.

الغـــــــــد

نحن نوقن أنَّه سيأتي يوم يثورُ فيه أولادنا أو أحفادنا ثورةً عنيفةً ضدَّ كلِّ ما لا يمتُّ إلى غير ما لآبائهم من النَّافعِ المحمودِ، ثمَّ يحاولونَ مراجعةَ تاريخهم ليستقُوا منه كلَّ ما في إمكانهم استدراكه، فلهؤلاء يجبُ على من وفَّقهُ الله من أبناء اليوم أن يسعى في إيجاد المواد الخامِّ لهم في كلِّ ناحية من النَّواحِي التي تندثرُ بين أعيننا اليوم، وما ذلك إلَّا بإيجاد مراجع للتَّاريخِ يسجَّلُ فيها عن أمس كلُّ ما يمكن من الأخبار والعادات والأعمال والمحافظة على المثل العليا؛ بل يسجَّلُ فيه كلُّ ما كان ولو الخرافات أو ما يشبه الخرافات، فإنَّ نهم من سيأتون في الغد سيلتهمُ كلَّ ما يقدَّم إليه كيفمَا كان؛ ليستنتج منه ما يريد أن يعرفه عن ماضي أجداده. وهذا أحدُ مغازي هذا الكتاب الذي بين يدي القارئ.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

“المعسول” (ج:1 ص:6-3).

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M