العبادات بين همّ الإقبال وهمّ القبول حياة للقلوب

09 يونيو 2019 09:50
د. بنكيران تعليقا على ندوة الحريات الفردية الممولة من طرف الاتحاد الأوروبي: قل لي من الممول أقول لك ماذا يحاك لك ويخطط لك

هوية بريس – د. رشيد بنكيران

تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال، فقد صمنا شهر رمضان، واجتهدنا في صلاة القيام، وقرأنا القرآن وأقبلنا على الله بالطاعات، فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يتقبل منا ذلك بقبول حسن،
هل تعلمون أن من السلف الصالح من كان يدعو الله عز وجل نصف سنة بأن يبلغهم الله شهر رمضان ويدركهم شهر رمضان، فإذا بلغهم الله عز وجل شهر رمضان وأدركهم شهررمضان، إذا هم صاموا كما صمتم، وقاموا الليل كما قمتم، وقرؤوا القرآن كما قرأتم، وتصدقوا بالمال كما تصدقتم، واعتمروا كما اعتمرتم…
دعوا الله سبحانه نصف سنة أخرى بعد انصراف رمضان بأن يتقبل الله منهم تلك الطاعات وتلك القربات..
كان السلف الصالح يعيشون ويحيون بين همين؛ بين همّ الإقبال على الطاعة، فإن اتوا بها وقاموا بها، انتقلوا إلى همّ أشد من الأول؛ وهو هم قبول الطاعة، هل قبل الله عز وجل منهم تلك القربات وتلك الطاعات،
فهذا أبو الدرداء رضي الله عنه كان يقول: لأن أستيقن أن الله قد تقبل مني صلاة واحدة أحب إليّ من الدنيا وما فيها؛
وهذا عبد الله بن عمر رضي الله عنه دخل عليه سائل فقال لابنه : اعطه دينارا فأعطاه. ولما انصرف السائل، قال الابن لأبيه : تقبل الله منك يا أبتاه، فقال ابن عمر : لو علمت أن الله تقبل مني سجدة واحدة أو صدقة درهم لم يكن غائبٌ أحبَّ إلي من الموت، أتدري يا بني ممن يتقبل الله ؟ أتدري يا مسلم ممن يقبل الله؟ أتدرين يا مسلمة ممن يتقبل الله؟
قال عبد الله بن عمر: (إنما يتقبل الله من المتقين).
ولهذا، كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه ينصح من حوله من المسلمين، وهي نصيحة لنا كذلك، فيقول: كونوا لقبول العمل أشدَ أهتماماً من العمل، ألم تسمعوا قول الله عز وجل : (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِين).
(إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِين) هي حقيقة إيمانية، الاهتمام بها والاشتغال عليها هي منزلة من منازل الإيمان ومدرجة من مدارج السالكين إلى الله عز وجل،
(إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِين) هي علامة المؤمنين حقا، ودليل المخلصين صدقا.
(إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِين) هي قاعدة عظيمة من قواعد السلوك الموصلة إلى الله تعالى لبلوغ مرضاته ومحبته وتحقيق ولايته.
أصل هذه المرتبة الربانية وهذه المنزلة ما جاء في قوله تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ، قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ، قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27))؛ فقصة قابيل وهابيل ابني آدم أنهما تقربا إلى الله تعالى بقربان، وهذا يعني أن كليهما كانا مؤمنين، وإلا فالكافر أصلا لا يتقبل الله منه مهما عمل عملا يبدو فيه صلاح بسبب كفره، مصداق ذلك قوله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا}.
فابنا آدم قربا قربانا إلا أن الله عز وجل تقّبل من أحدهما ولم يتقّبل من الآخر…
تقّبل ممن ؟ من الذي كان يتقيه صدقا، من الذي كان ظاهره كباطنه، من الذي كان سره كعلانيته…
تقّبل ممن؟ من الذي كان يأتي العبادة وهو يحبها؛ ممن كان يصوم… ويصلي… ويتصدق… ويقرأ القرآن… وهو يحبها، ويتذلل بين يدي الله من خلالها، ممن يفعلها ولسان حاله يقول أرحنا بها، ليس كمن يفعلها وهو يريد التخلص منها .. من لسان حاله يقول أرحنا منها.
ولهذا، فالمؤمن الصادق مع شدة إقباله على الطاعات، والتقرب إلى الله بأنواع القربات؛ إلا أنه يكون مشفقا على نفسه أشد الإشفاق، يخشى أن يُحرم من القبول، وخشيته من حرمان القبول مع الإقبال على الطاعات علامة من علامة القبول…
روى الترمذي وغيره بسند صحيح عن عائشة قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ  أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟!
فقال صلى الله عليه وسلم: «لاَ يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ، وَلَكِنَّهُمُ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ لاَ يُقْبَلَ مِنْهُمْ، ثم قال صلى الله عليه وسلم: “أُولَئِكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِى الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ”.
فالمقبول عند الله هو من يأتي الصالحات وهو يخاف أن يحرم القبول، ولهذا تجده بعد فعل الصالحات يلهج بالدعاء ولا يمل؛ يسأل الله القبول…
كذلك، من أعظم أمارات قبول الأعمال هو الثبات على الطاعات، أن يستمر العبد على طاعة ويثبت عليها..
مما يشهد لهذا المعنى، ما جاء في الصحيحين عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «أَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ»، والله إذا أحب عملا قبله، وكان صاحبه من المقبولين؛
يحب الله جل جلاله العمل القليل الدائم المستمر، ولا يحب العمل الكبير غير الدائم المبتور.
وإني لأعدّ ما جاء في صحيح مسلم مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ» يدخل في هذا المنهاج؛ تربية النفس على الاستمرار والدوام على عبادة الصيام.
لقد قمنا في شهر رمضان بأعمال ظاهرها عظيمة، وكثير منا يتساءل: هل حظيت بالقبول؟
فما عليك إلا أن تعرض نفسك على معيار الشرع في قبول الأعمال، أن تحيى بين همّ الإقبال وهمّ القبول.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M