الفقه الملفق الهجين وخطره على مصداقية الزواج الشرعي.. “المرأة العدول”

27 يناير 2023 17:54

هوية بريس – د.رشيد بنكيران

الفقه الملفق الهجين وخطره على مصداقية الزواج الشرعي.. المرأة العدول
أ): عرفت الأمة الإسلامية منذ بدايتها كتابة العقود وتوثيقها، وأبدعت في ذلك حتى صار توثيق العقود علما مستقلا بذاته يسمى “علم التوثيق”، ويسمى كذلك “علم الوثائق”، وأيضا علم “الشروط والسجلات”. ولم يشترط الشرع الذكورة فيمن يتولى مهمة توثيق العقود، أو قرر فيها تمييزا معينا بين الأنثى والذكر كما هو الحال في تحمل الشهادة (1)، إلا أن عمل الناس جرى به ـ منذ قرون مضت ـ على أن الموثق، ويسمى كذلك الشروطي ـ الذي انتصب لتوثيق العقود بين الناس والنظر في صحة شروطها ـ يكون رجلا. ولم يشترط الشرع في مهمة توثيق العقود بالكتابة عددا معينا، بل اكتفى بواحد أطلق عليه القرآن اسم الكاتب (2).

ب): لتوثيق حقوق الناس في الشرع صور متنوعة، من بينها: الكتابة(3)، والإشهاد(4)، والضمان والكفالة(5)، والرهن(6)، وحق الاحتباس(7) وغيرها من الصور التي نقلتها المدونات الفقهية.

واليوم، عرف مصطلح “الموثق” أو “الموثق العصري” (notaire) ـ الذي يمتهن مهمة توثيق المعاملات المالية ـ خصوصيات إضافية، أمكنته منها مؤسسات الدولة بقوة القانون، وأصبح محل ثقة لدى الناس. وقد ولج لهذه المهنة الرجال والنساء على حد سواء، دون أي نكير من المجتمع، لعلمهم المسبق أن ما يقوم به الموثق هو كتابة العقود المتعلقة بالمعاملات المالية وتوثيقها، وهي لم يشترط الشرع الذكورة فيمن يتولى فيها مهمة التوثيق، ولا عددا محددا من الموثقين لصحة التوثيق. بل ذهب القانون المغربي إلى أبعد من ذلك؛ إذ اكتفى بشرط الجنسية المغربية فيمن يزاول هذه المهمة، ولم يشر أي إشارة تذكر إلى ديانته هل هو مسلم أم غير مسلم(8).

ج) إن توثيق المعاملات المالية ليست حكرا على الموثق العصري، بل يضطلع بها أيضا الموثق العدلي المعروف ب “العدول”، فهو على غرار صنوه العصري (notaire)، يتمتع بكل الصلاحيات الشرعية، ثم القانونية التي تؤهله للقيام بتلك المهمة على أحسن وجه.
وكما أن توثيق المعاملات المالية لا فرق فيه بين الرجل والمرأة، فلا مانع يمنع المرأة التي تمتهن التوثيق العدلي من هذه المهمة، بل أن تقوم بها بمفردها تماماً كصنوتها العصرية، وكل من اشترط في أداء هذه المهمة عدلين ذكرين أو أنثيين، فقد ناقض الشرع والعقل معا.

د) كما سبق الإشارة إليه، الإشهاد أخص من التوثيق، وهو صورة من صوره المتنوعة، وقد أمر به الشرع أمر إيجاب أو ندب واشترط فيه شروطا حسب موضوع الشهادة، ففي الديون مثلا نَصّ القرآن على أن يكون الشهود على الديْن اثنين عدلين من الرجال، أو رجلا وامرأتين، ويقاس عليه سائر الحقوق المالية. وفي موضوع الزنا أن يكون أربعة شهود من الرجال، وفي الحدود والقصاص لا تجوز فيها شهادة النساء(9).

أما الشهادة على النكاح الذي هو موضع النقاش، فقد اختلف فيه العلماء على قولين لا ثالث لهما؛ قول ألحقه بعقود الأموال لشبهه بها من جهة الحقوق المالية المترتبة على عقد النكاح كالصداق والمتعة والنفقة، وأجازه بشاهدين من الرجال أو بشهادة رجل وامرأتين، وهم الأحناف ورواية عند الحنابلة والظاهرية، بل ذهب ابن حزم إلى جواز شهادة أربع نسوة على عقد النكاح. وقول آخر لجماهير العلماء ـ المالكية والشافعية والحنابلة ـ ألحقه بالحدود لشبهه بها من جهة استحلال الفروج التي إذا انتهكت بغير وجه حق أفضت إلى حد شرعي، ولم يقبل في الشهادة عليه إلا رجلين، وعضد مذهبه بعمل المسلمين به منذ الصدر الأول حتى وُصف بأنه السنة المتبعة الماضية(10).

هـ) قررت خطة العدالة في موادها القانونية أن مهمة العدول هو تلقي الشهادة وتوثيقها بالكتابة وأدائها؛ ففي المادة 27 من تلك الخطة: “يتلقى الشهادةَ في آن واحد عدلان منتصبان للإشهاد”، وفي المادة 34: “يؤدي العدلان الشهادة لدى القاضي المكلف بالتوثيق بتقديم وثيقتها إليه مكتوبة… بقصد مراقبتها والخطاب عليها”. فدلت المادتان على أن التوثيق العدلي يتحقق بانتصاب شخصين معينين للشهادة يتلقيانها ويكتبان موضوعها ويؤديانها.

وعليه، فنحن أمام عمل إذا ارتبط بعقد النكاح فإنه يكون في غاية الحسن، ويحقق للمستفيد منه درجة عالية من الاطمئنان؛ إذ يشتمل على وسيلتين من وسائل التوثيق، وهما: الكتابة والإشهاد. أما التوثيق بالكتابة فلا مانع شرعا أن تتولى مهمته المرأة كما سبق تقريره آنفا ولو بمفردها، وأما الشهادة على عقد النكاح، فلا يقبل في المذهب المالكي، الذي يعد من الثوابت المغربية الراسخة، شهادة امرأتين ولو مع رجل، بله أن تستقل امرأتان بذلك، ويحصر الشهادة في رجلين عدلين.

ولو أرادنا أن نتوسع في هذا الباب ونترخص استلهاما من مذهب الأحناف، لا يسعنا إلا ما أفاده ظاهر آية الدين؛ {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} أي رجلا وامرأتين، وكذلك بما دل عليه قول النبي عليه الصلاة والسلام كما جاء في الصحيحين: «أَلَيْسَ شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ مِثْلَ نِصْفِ شَهَادَةِ الرَّجُلِ» قُلْنَ بَلَى”؛ فإنه عليه الصلاة والسلام كان في معرض البيان وأطلق الشهادة ولم يخصصها بنوع منها، فدل على أن شهادة المرأة تساوي نصف شهادة الرجل على وجه العموم. ولهذا، لا يمكن أن تتمتع أي شهادة بالحقيقة الشرعية خارج هذين الصورتين؛ شهادة رجلين، أو شهادة رجل وامرأتين إلا ما استثني بدليله.

وبناء عليه، فانتصاب امرأتين لتلقي الشهادة وأدائها لوحدهما دون معية شهادة الرجل في عقود النكاح وفي غيرها من التصرفات المالية، لا يمكن أن توصف بأنها شهادة شرعية، ما دامت تعدت الحدود الشرعية التي وضعها لها الشرع، وعقد النكاح الذي بني عليها عري عن الإشهاد المطلوب شرعا.

و) من التغييرات التي عرفتها مدونة الأسرة الحالية في خصوص الزواج مسألة ولاية المرأة، فقد نصت المدونة على أن الولاية حق للمرأة، تمارسه الراشدة حسب اختيارها ومصلحتها، وللراشدة أن تعقد زواجها بنفسها(11). وهو مذهب للأحناف، يرى صحة تزويج المرأة الرشيدة نفسها، بخلاف مذهب الجمهورـ ومنهم المالكية ـ الذين يشترطون موافقة ولي المرأة لصحة الزواج.

وإذا كان مذهب الأحناف يقرر حق المرأة في تزويج نفسها بنفسها، فقد مكن ولي المرأة، في المقابل، من حق الاعتراض على الزواج إذا رأى ما يضطره لذلك وفق الضوابط الشرعية. وهذا الحق أو القيد الذي يحقق نوعا من التوازن بين الأطراف لم تأخذ به مدونة الأسرة ولا اعترفت به(12)، وهو ما جعل النظر الفقهي الذي اعتمدت عليه هجينا نسب له إلى مذهب من المذاهب الفقهية.

واليوم، أنظر إلى الفقه الهجين كيف يتسلط على شرط آخر من شروط عقد النكاح وهو الشهادة، ويعتمد رأيا لا علاقة له بالمذهب المالكي، ولا نسب بينه وبين أي مذهب من المذاهب الفقهية الأخرى كما سبق بيانه، فأصبحنا أمام عقد نكاح محدث لا يحضره الولي ولا الشهود الشرعيون، وهو الأمر الذي جعل مصداقية الزواج في خطر كبير، والمقبلين على ذاك العقد المحدث في شك منه مريب.

♦ والسؤال الذي يفرض نفسه:
لمصلحة من يتم تغيير مراسم الزواج الشرعي المعهود!؟
وما المصلحة المرجوة من هذا التغيير؟
وإذا كان الزواج لدى المسلمين شأنا دينيا، فلماذا يتم القفز على المرجعية الإسلامية الأصيلة وتعويضها بأخرى ملفقة هجينة!؟

هامش: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) كما في شهادة على الديون: (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ). فجعل الشرع شهادة المرأة نصف شهادة الرجل.
(2) (وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ).
(3) الكتابة: أن يكتب الموثق المعاملات التي جرت بين المتعاقدين وغيرها من التصرفات، فالكتابة وسيلة لتوثيقها، وقد أمر بها الله سبحانه وتعالى أمر إرشاد وتوجيه في آية الدين من سورة البقرة: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ..).
(4) الإشهاد : أن ينتصب الشهود لتحمل الشهادة على تصرفات الناس وأدائها عند الحاجة إليها، فالإشهاد على التصرفات وسيلة لتوثيقها، كما أمر الله عز وجل به في سورة الطلاق عند الرجعة، وعند النكاح من باب أولى، وأيضا عند الطلاق، وأمر به عند الوصية: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ…) [المائدة: 106].
(5) الضمان والكفالة قد يستعملان بمعنى واحد، وقد يستعمل الضمان للديْن والكفالة للنفس، وهما مشروعان للتوثيق. إذ فيهما ضم ذمة الكفيل إلى ذمة الأصيل على وجه التوثيق، والأصل في ذلك قول الله تعالى: {..وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72].
(6) الرهن وسيلة من وسائل التوثيق، إذ هو المال الذي يجعل وثيقة بالدين ليستوفي الدائن من ثمنه إن تعذر استيفاؤه ممن هو عليه ، والأصل فيه قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ..} [البقرة: 283].
(7) حق الاحتباس: من حق الدائن أن يتوثق لحقه بحبس ما تحت يده لاستيفاء حقه إذا كان الدين يتعلق به، كمن يحتبس مثلا المبيع إلى قبض الثمن كاملا من المشتري.
(8) انظر القانون المنظم لمهنة التوثيق العصري رقم 32.09.
قلت: وهذا مخالف لظاهر القرآن حينما أسند هذه المهمة إلى العدل من المسلمين؛ (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ..) فهو خطاب للمؤمنين، وكذلك: (وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ).
(9) «وأجمع أكثر العلماء على أن شهادتهن لا تجوز فى الحدود والقصاص» «شرح صحيح البخاري – ابن بطال» (8/21).
(10) قال الزهري (ت: 121هـ): “مضت السنة من رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- والخليفتين من بعده ألا تجوز شهادة النساء في الحدود”. أخرجه ابن أبي شيبة في “المصنف” (6/ 544).
(11) أنظر المادة 24 والمادة 25 من مدونة الأسرة.
(12) وهو ظلم وقع على ولي المرأة وخصوصا الأب؛ لأن من حقه شرعا وعقلا أن يكون له رأي فيمن يصاهره، وتحقيق الكفاءة في الزواج مصلحة شرعية ينبغي مراعاتها.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M