الفقيه الحسن العبادي والنوازل السوسية

05 مارس 2016 21:27
الفقيه الحسن العبادي والنوازل السوسية

أحمد الشقيري الديني

هوية بريس – السبت 05 مارس 2016

من خلال هذا المقال حول ظروف “النوازل السوسية”، والصراع الدائر آنذاك بين الفقهاء و”الوضعيين” (نسبة إلى الذين يضعون قوانين مخالفة للنص) سنرى أن الصراع الدائر اليوم بين الإسلاميين والعلمانيين حول بعض القضايا (نموذج المطالبة بالتسوية في الإرث بين الجنسين) ليس وليد اليوم، بل هو قديم قدم الأهواء.

النوازل السوسية، شأنها شأن غيرها تعتبر سجلا واقعيا للعادات والتقاليد والأعراف المتأصلة في المجتمع، الشيء الذي يجعلها تكتسي أهمية بالغة للفقيه والمؤرخ والباحث الاجتماعي والأديب، بل قد ترصد الأحداث والوقائع المهمة التي أغفلها المؤرخ وسجلتها كتب النوازل من خلال احتكاكها بالمجتمع المسلم، لأن المؤرخ إنما يهتم بالأحداث الأكثر سطحية ووضوحا.

يقول العلامة سيدي الحسن العبادي -رحمه الله- في مؤلفه القيم: (فقه النوازل بسوس):

“للنوازل السوسية خصائص تميزها، منها أنها نشأت في ظروف صعبة بين قوم يتعصبون لأحكام الشريعة ويناضلون من أجلها، وهم فقهاء النوزال، وآخرين يحرفون أحكامها ويقفون في وجهها ويسعون جهدهم لإسقاط حدودها؛ وكثيرا ما ذهب الفقهاء ضحية ذلك، لأنهم لم يعيشوا أبدا في الأبراج العاجية، وإنما نزلوا إلى الميدان ليعيشوا وسط المعارك اليومية.. وقد عرف لهم المجتمع السوسي هذه المكانة، ونظر إليهم نظرة إكبار، فكان يعينهم على ما هم بصدده من نشر أحكام الشريعة ويقف إلى جانبهم في السراء والضراء..”.

“ثم إن القبائل السوسية كثيرا ما تكون بعيدة عن بسط الحكومة المركزية نفوذها عليها، فكانت القبائل تحكم نفسها بنفسها، وتضبط أمورها بعلمائها ورؤسائها. ولكثرة العلماء وانتشار التربية الدينية التي تنشأ عليها القبائل كان الرؤساء في مقام المنفذين، وعلماء الدين في مقام الحكام والمشرعين، مما يجعل المطلع على فتاوى السوسيين يتملكه العجب، لأنه سيشاهد الفتاوى والنوازل لا تغادر صغيرة ولا كبيرة من كل ما يتعلق من الحياة من كل جهة..”.

لكن هذه القاعدة لم تكن مطردة، خصوصا في ظروف السيبة وضعف السلطة المركزية؛

يقول الدكتور الحسن العبادي -رحمه الله- :

“يعتقد ان عرفاء القبائل “إنفلاس” ألجأتهم الضرورة في بادئ الأمر إلى وضع التدابير الزجرية لضبط الأمن وضمان الاستقرار خصوصاً في فترات ضعف السلطة المركزية العمومية.. وهي خاصة بالقبائل الجبلية والفحصية البعيدة عن مراكز الدولة..

ومما يدل على ذلك هذا النص الذي ذكره القاضي التمنارتي في الفوائد الجمة،حيث قال: مررت ببلاد هنكيسة فكانوا يتحاكمون إلي، فإذا عرضت خصومة تتعلق بحصونهم التي أعدوها لحفظ أموالهم، وكانوا يبنونها على شواهق منيعة، قالوا: هذه إنما يحكم فيها “ألواح الحصون”،فسألتهم عنها، فقالوا: هي ضوابط وقوانين رسموها، وينتهون إليها عند وقوع حادث في الحصن، فشرحوا منها كثيراً فوجدتها كلها من باب العقوبة بالمال التي ليست إلا في الغش، وليس شئ منها في الغش بل هي عوض عن الحدود التي نصبها الشارع زجرا؛ فقلت لهم:(هذا من التحاكم إلى الطاغوت الذي أمرنا أن نكفر به)..

وقد أثارت مسألة التحاكم إلى هذه الألواح نوازل شتى ناقشها العلماء النوازليون في حينها.. إذ الناس في سوس لا يعرفون طوال العهد الإسلامي إلا الشريعة الإسلامية قاعدة للحكم، سواء في أحكام الأسرة من زواج وطلاق وإرث وتبرعات، أو في أحكام المعاملات، حيث يتولى ذلك القضاة الشرعيون الذين يعينون من قبل السلطان أو نائبه أو فقهاء معروفون يحكمون في القضايا الشرعية، وقد عرف نظام تحكيم الفقهاء تطوراً كبيراً في سوس حتى العهود الأخيرة، وأما الحدود والجنايات والمظالم التي تقع في الأسواق والطرقات فقد كان يتولاها كبار القبيلة “إنفلاس”، خاصة في فترات اختلال الأمن، وضعف السلطة المركزية عن ضبط القبائل، واستتباب الأمن العام”: (“فقه النوازل في سوس”؛ ص:437).

ثلاث مسائل دار حولهما الصراع قديما وحديثا:

الأولى تتعلق بإضعاف القائمين على الشأن الديني:

يعيش القائمون على الشأن الديني اليوم على الكفاف بسبب رواتبهم الهزيلة، ويتعرضون للتضييق على حريتهم في الخطابة والفتوى، ويتم طرد الخطيب من منبره بتعسف دون الرجوع إلى القانون..

وهذا التضييق كان يعاني منه هؤلاء في العهد السابق كما أبرزه شيخنا العبادي في رسالته وهو يتحدث عن دفاع الفقهاء النوازليين على القائمين على الشأن الديني.

يقول -رحمه الله-:

“والظاهر أن ظروف الإنحطاط التي غطت مجمل مناحي الحياة أدت إلى ضعف في التدين وضعف الإهتمام بالقائمين على الشأن الديني، يبينه فتوى حول الأوقاف والشؤون الإسلامية، للعلامة النظار سيدي عيسى بن عبد الرحمان السكتاني (ت 1062هـ) أحد أعيان سوس ، مفتي مراكش وقاضيها، وقبلها تارودانت، تجلت فيها غيرته على أوضاع المسلمين و ما وصلت إليه أحوالهم من التفريط في شؤون الدين والأحباس، والتضييق على الأئمة والمؤذنين، وهي جواب عن سؤال الفقيه سيدي عبد الرحمان التلمساني،

قال رحمه الله:( أما بعد، فقد وقفت على جميع ما كتبتم، وما إليه أشرتم، ثم إن التضييق على الأئمة والمؤذنين، والنقص عما هم محتاجون إليه في القيام بوظيفتهم، وملازمة أوقاتهم ليلا ونهارا، فمن تغيير الحبس وإخراجه عن مصرفه وتعريض دين الله للضياع ما داموا قائمين بالوظيف، فالواجب على من بسطت يده في الأرض أن يصرف عنايته لسد هذه الثلمة، والنظر في أحباس المسلمين بالمصلحة، ويقدم الأوكد فالأوكد على ما هو المقصود عند المحبسين، سيما أحباس الملوك لأنهم نواب عن المسلمين، وأما التصرف فيها بحسب الحظوظ النفسانية مع الغفلة عن رعاية ما يجب فلا يحل، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، ثم التوسعة على طلبة العلم حملة دين الله وشريعته بنيته واجب، فإن أموال بيت المال ومستفاداتها كثيرة: مزارع وغيرها، ومن ذلك تكون التوسعة. والعرف في أحباس مغربنا الأقصى ألا تخرج عن الصنفين، أحدهم وهو الأوكد: الأئمة والمؤذنون، والثاني حملة العلم، والخروج عنهما تغييير للحبس، والله أعلم. وكتب عيسى بن عبد الرحمان)..”(أنظر الصفحة 193).

المسألة الثانية: تتعلق بإرث النساء:

في ندوة الأمس “من أجل نقاش مجتمعي حول منظومة المواريث” قال رحو الحسن، أستاذ بكلية الحقوق بالرباط: (إنه ليس هناك أي نص حول الإرث متفق على معناه، وأن ثلثا أحكام الإرث لا علاقة لها بالقرآن والسنة وإنما هي أقوال الفقهاء.. وأن الفقهاء بدعة جاءت مع الدولة العباسية..) هكذا بهذه المجازفة، ونحن نسوق لأستاذ القانون موقف الفقهاء النوازليين من ظلم المرأة في حقها في الإرث.

من أهم ما وقف عليه العلامة الحسن العبادي -رحمه الله- في بحثه القيم، دفاع الفقهاء النوازليين، وعلى رأسهم القاضي عيسى السكتاني ”عن حق المرأة في الإرث الذي أسقطه الملوك السعديون في أراضي سوس، رغم ثبوته بالكتاب والسنة والإجماع،

فبمجرد ما تولى أبو عبد الله محمد الشيخ المهدي ثاني ملوك السعديين، أصدر ظهيرا في هذا الشأن، ومما جاء فيه: (يعلم الواقف على هذا أننا أسقطنا الميراث للنساء ومهورهن والأحباس من وادي سوس، وواد هَوَزَة كذلك الملة، ووادي زكموزن من أسفله إلى أعلاه؛ فمن ماتت من النساء من تلكم البلاد فليس لقرابتها في ذلك شيء، بل يصير ذلك لبيت مال المسلمين، وكذلك القيمة أسقطنها من الأماكن المذكورة، وكذلك البنيان والأشجار أسقطنا الميراث منها، وكتب بذي الحجة الحرام عام 963 هـ) .

 وعلى ذلك مضى السلطان مولاي عبد الله الغالب بالله لإسقاط الإرث على النساء بوادي سوس، وجدد ذلك الأمر مولاي أحمد المنصور الذهبي بعد توليه، بظهير وجهه إلى قاضي الجماعة سعيد بن علي الهوزالي..”.

رفض الفقهاء النوازليون هذه السياسة الظالمة لحقوق المرأة ووقفوا في وجهها بشدة، وأصدروا فتاواهم دفاعا عن الشريعة وعن النساء.

وانظر مناقشة القاضي عيسى السكتاني لهذه القضية التي شرعها الملوك السعديون وألزموا الناس بمقتضاها ( لم ننقل المناقشة لطولها) جاء في آخرها: ” فمن أراد الاحتياط لدينه ولأخرته فليعط للنساء إرثهن والسلام”. (406 وما بعدها من كتاب فقه النوازل بسوس).

فتغيير أحكام الشريعة ليس وليد اليوم، بل هو ديدن الأهواء التي تجري بالسياسيين في كل عصر، والمرأة التي تعتبر الحلقة الأضعف، كان لها النصيب الأوفر من الحيف، وكان فقهاء النوازل يقفون إلى جانبها إذا كان حقها مما نصت عليه الشريعة بأصولها ومقاصدها ونصوصها القطعية، ومنه هذه الفتوى التي تتعلق بحقها في

المسألة الثالثة “الكد والسعاية”:

ذكر العلامة الحسن العبادي فتوى للفقيه داوود بن محمد بن علي التملي التونلي (ت. 998 هـ) حول حكم من كانت عنده أخته أو غيرها تشتغل له بشغل تولاه بنفسه أو بأمته أو زوجته، ثم بعد ذلك قامت تطالبه بالأجرة، ألها ذلك أم لا؟

قال في الجواب ما حاصله: اتفق مالك وأصحابه أن كل امرأة ذات صنعة وسعاية مثل نسج وغزل ومحمل، أنها كانت شريكة فيما بينها وبين زوجها أو أخيها أو أحد ممن تفاوض معها (أي أنهم شركاء في الربح)..

والأصل في ذلك أن عمرو بن الحارث تزوج حبيبة بنت رزق عمة عبد الله بن الأرقم، وكانت نساجة طرازة، ترقم الثياب والعمائم، وهو تاجر، وكل واحد يعمل بما عنده حتى اكتسبوا أموالا على الأصناف، فمات عمرو وترك أقرحة (أي أراضي قاحلة) وديورا وأموالا، فرفع أولياؤه مفاتيح الخزائن، ونازعتهم حبيبة، فتخاصموا إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقضى لها بنصف المال، وبالإرث في الباقي..

وإلى ذلك ذهب يحيى بن يحيى وأشهب وسحنون، والأصل في ذلك ما ذكره مالك في اختلاف الزوجين في متاع البيت… اهـ.

وإلى مثل هذا ذهب أبو زيد عبد الرحمان بن محمد الجزولي التامنارتي:

  جوابا عن امرأة استفادت أملاكا مع زوجها مدة الزوجية بينهما، هل لها حصتها من ذلك الملك على قدر سعايتها؟ أم نصيبها من أثمان تلك الأملاك؟

قال: إن اشتركا في أصل الأثمان، فهما في الأملاك على نسبتهما، وإن لم يشتركا فيها، بل كانت تخدمه على عادة نساء الجبال، فلا حق لها في الأصل، ولكن لها أجرة خدمتها على ما يراه أهل المعرفة بذلك من قريتها، بعد أن تحلف ما فعلت ذلك لزوجها لصلة الرحم..”.

وهكذا نرى كيف أن فقهاء النوازل لم يكونوا ضد حقوق المرأة، بل كانوا في واجهة الدفاع عنها، ولولا التطويل لذكرنا من كتاب شيخنا العبادي “فقه النوازل” العديد من فتاوى النوازليين التي تتجاوز عصرهم إلى ما نعيشه نحن اليوم.

رحم الله شيخنا العلامة سيدي الحسن العبادي الذي غادرنا إلى دار البقاء منذ يومين فقط.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M