القنب الهندي (الكيف) بين إشكال الإفتاء وغموض دواعي التقنين

05 مارس 2021 20:52

هوية بريس – د.محمد عوام

في علم المنطق والأصول قاعدة في غاية الأهمية، وهي قولهم: “الحكم على الشيء فرع عن تصوره”، والحكم ثمرة لما ينتج عن التصور، والتصور مبني على إمعان النظر في الواقع، وفحص المسألة المدروسة، للحكم عليها. فكلما كان التصور جيدا، كان الحكم جيدا، لأن الحكم فرع عنه، وهو أعني الحكم الثمرة المرجوة من التصور.

ومثل هذا ينطبق أيضا على التقنين، نقنن ماذا، وكيف نقنن، وما عواقب ومآلات التقنين، اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا، وكيف نوازن بين احتياجاتنا الطبية وواقعنا الاجتماعي والأمني؟ وهكذا كلها أسئلة لا بد للمُقَنِّن أن يضعها في الحسبان، وأن يكون شديد الانتباه إليها ولغيرها. إذ أن أي خطأ في دراسة وتشخيص الواقع الذي يراد له أن يقنن، لا جرم أنه سيفضي إلى كوارث غير مأمونة العواقب، وانفلاتات لا ينفع معها الندم من بعد.

ولما كانت الحكومة المغربية بقيادة حزب العدالة والتنمية، تروم إلى تقنين نبات القنب الهندي، المعروف في بلدنا بالكِيفْ،  من غير أن يدرك المواطن المغربي السر في ذلك، ولربما قد تبحث من بعد إلى من يفتيها في الموضوع، فتركن إلى الفتاوى المترخصة على حساب ما يعقب ذلك في مآلات، فلا جرم أنه قد تحتم البيان على أهل العلم في شتى تخصصاتهم.

لا أريد الخوض في تلك الفتاوى التي صدرت في استعمال الحشيش في الطب، ولا حتى الإشكال الكلامي الذي خاضه المتكلمون من معتزلة وأشاعرة وماتريدية هل الأعيان محرمة لذاتها أم محرمة لتعلق خطاب الشرع بها؟ وإن كنت قد سبق لي أن حررت الكلام في الموضوع في رسالتي لدبلوم الدراسات العليا سنة 1994م ورجحت في ما جنح إليه الماتريدية وابن تيمية وابن القيم، للاعتبارات الآتية:
أولا: لأن من المبادئ الأصولية والفقهية المسلمة عند النقاش تحرير محل النزاع، حتى تتضح الصور، وتتميز القضايا، بحذف أو إلغاء ما ليس داخلا في الموضوع.
ثانيا: مما له اعتبار في الإفتاء والاجتهاد الفقهي، وهو محك خبرة الفقيه، وسر قوته العلمية، تحقيق مناط الحكم، وتحقيق مناطق الحكم اليوم، متوقف أيضا على مدى إلمام الفقيه المجتهد بالواقع إلماما دقيقا، بالاطلاع حتى على التقارير المخبرية أو الأمنية أو الدراسات والبحوث الاجتماعية والنفسية التي رصدت الظواهر الإنسانية والاجتماعية، وخاضت في تحليلها والوقوف على الأسباب التي كانت من ورائها. فإذا الفقيه لم يستوعب الواقع الذي يريد الحكم عليه ويتصوره حق التصور، فأنى له أن يحكم عليه، وكيف يحكم عليه وهو يجهله، أو لم يتصوره حقيقة، أو كان تصوره له ناقصا، فالحكم على الشيء فرع عن تصوره. وهذا النوع من التقصير حذر من الوقوع فيه العلامة ابن القيم رحمه، نص على ذلك في كتابه القيم (الطرق الحكمية في السياسة الشرعية)، فقال:”والذي أوجب لهم ذلك: نوع تقصير في معرفة الشريعة، وتقصير في معرفة الواقع، وتنزيل أحدهما على الآخر.”
ثالثا: الفتاوى والنوازل القديمة لها ارتباط بواقعها، فهي بذلك شديدة الصلة به، والذي يعنينا منها هو الأدلة الذي بنيت عليها، أما إذا كانت نوازلنا ومستجداتها وليدة واقعنا، فنحن في حاجة إلى إعمال القواعد الأصولية والمقاصدية والفقهية، دون أن نصير إلى تلمس القياسات والتخريجات على ما عهد من اجتهاد فقهائنا العظام.

ثم إن القنب الهندي يومئذ وعموما التدخين، لم تظهر بدقة مضاره الخبيثة على الجسم والعقل الإنساني، مما جعل الفقهاء يختلفون في الحكم عليه بين الكراهة والحرمة. أما اليوم فهناك إجماع يقيني من الفقهاء والأطباء على حرمة التدخين، والتقارير العالمية تؤكد هذا. ولم تكن هناك شبكات ولا منظمات عالمية ووطنية تتاجر في المخدرات والحشيشة بهذا الشكل الذي نراه اليوم، أو أن هناك منطقة بكاملها مثل ما هو عندنا في شمال وريف المغرب، اختصت في زراعة القنب الهندي وتحويله إلى مخدر الشيرا وغيره، حتى جعل الدولة من جراء آثاره اللعينة أن تفكر في إنشاء مراكز طب الإدمان.

ولا يخفى أيضا سلطة المجتمع، التي كان لها أثرها في التربية، والتوجيه، وتغيير المنكر، وقوة الجهاز الأمني، لأنهم كانوا في الأغلب على أحسن الوجوه من التدين. أما اليوم فحالنا ينبيك عنا، والواقع يفضح توجهنا.

ولهذا من أراد أن يتكأ على الفتاوى القديمة، فلا تسعفه، لأن لها علاقة بواقعها وظروفها. ثم الإشكال ليس في القول بالتحريم فقها إن كان استعمالا شخصيا، أو جوازا إن كان استعمالا طبيا، وإنما هو الإشكال فيما يجره هذا التقنين من مفاسد جمة، ويوسع دائرة المحرم، وتبقى دائة الصناعة الطبية محدودة جدا، وهذا هو مكمن الداء، وموطن الإشكال، حينما يصير التقنين مفسدة في ذاته، حينما يجلب مفاسد أكبر منه، فيكون بذلك وسيلة يتوسل بها إلى غيره من المفاسد.

رابعا: مما يعتد به في الفقه، أن الحكم قد يصدر من الفقيه اعتبارا لمآل الفعل، لأن الفعل له حكمان، حكم باعتبار الحال، وحكم باعتبار المآل، ومراعاة المآل شرط في بناء الفتاوى والاجتهاد، والذي لا يلتفت إليه، قد تتسبب فتواه في جواز ما هو ممنوع حرام شرعا. ويحضرني هنا ما صدر عن ابن عباس رضي الله عنه حين جاءه رجل وقال له: هل للقاتل من توبة، فقال: لا. مع العلم أنه قد سبق أن أفتى غيره بالتوبة. ومن يملك أن يسد باب التوبة في وجوه عباده إذا رجعوا إلى ربهم منكسرين وجلين؟ لا أحد البتة. وهل يظن بسيدنا ابن عباس أنه لا يفطن إلى ذلك، أو غابت عنه؟ كلا، وإنما حكم بعدم توبة المقدم على القتل، ويريد من الفقيه الصحابي الجليل أن يفتيه. هنا تدخل خبرة الفقيه، ودرايته بفقه النفس والواقع؟

خامسا: من أخطر ما يدخل على باب الإفتاء، هو تلمس الأدلة لتسويغ وتسويق لقضية ما، وحشر الأدلة حولها، ولو بالاعتساف والتأويل. والمنطق العلمي، كما هو الفقهي يقتضي –كما قال الشاطبي- سوق الأدلة بروح الافتقار، لا بروح الاستظهار. ويمكن صوغ القاعدة على الشكل الآتي (يؤخذ الدليل مأخذ الافتقار لا مأخذ الاستظهار). وبناء على هذه القاعدة فرق الشاطبي بين منهج الراسخين ومنهج الزائغين. فالراسخون تقودهم الأدلة والاستدلال إلى النتائج، والزائغون يضعون النتائج ويتلمسون ويبحثون لها عن الأدلة، وهذا بلا ريب خلل في المنهج وخلل في التفكير.

أما الحكومة المغربية، التي تريد أن تقنن القنب الهندي، فهل ما تريده جاء خدمة لتوصية الأمم المتحدة أم أنها فعلا فكرت وقدرت فرأت انها في حاجة إلى الصناعة الطبية المستخلصة من القنب الهندي، وجوابنا على ذلك فيما يلي:

أولا: على الحكومة أن تبين للرأي العام نسبة الاحتياجات من نبتة القنب الهندي (الكيف)، التي تستعمل في الصناعات الطبية، ونسبة الأدوية التي تستخلص من تلك النبة. فمثلا لو كنا في حاجة إلى طن من النبات والواقع ينتج لنا أضعافا مضاعفة من نباتات القنب الهندي، فهل من المعقول أن نقدم على التقنين، بحجة احتياجاتنا الطبية؟ لأننا نعلم علم اليقين أن ما تبقى من فائض الاحتياج يستعمل لأغراض أخرى، وهي المخدرات. والواقع يؤكد هذا ، ويفصح عنه. وماذا كانت تعمل منذ سنوات لتغطية الاحتياجات؟.

ثانيا: هناك إشكال دستوري، وهو أنه في حالة ما إذا قنن ونص على أن يستعمل فقط في مناطق الشمال والريف، فبأي حق دستوري يتم التفريق بين المواطنين في ما هو دستوري يتساوون فيه، فلماذا يمنع أهل الجنوب أو الوسط من زراعته؟ فتحديد المناطق دستوريا يخالف مبدأ أصيلا في الدستور وهو مبدأ المساواة والعدالة؟

ثالثا: سألت أحد أساتذة الطب، ولو سمح لي بنشر اسمه لفعلت، عن استعمال القنب الهندي في الصناعات الطبية، فقال استعماله محدود جدا، ويكفي منه القليل، لصناعة المسكنات العالية الدرجة كالمورفين Morphine والبنج. ومما استفدته من صديقي وأخي الدكتور أمين بناني، وهو طبيب متمكن وله دراية واسعة بالأمراض النفسية بالإضافة إلى تخصص الأمراض الصدرية، في اتصال هاتفي معه، فقال لي “إذا كنا نسلم بأن مادة القنب الهندي مادة بيولوجية بالأساس شأنها في ذلك شأن سائر الأعشاب الطبية، والتي هي أساس جميع المستحضرات الطبية والصيدلية، ذات الآثار البيولوجية المستعملة لعلاج سائر الأمراض فهذا يلزمنا منهجيا، إذا سلمنا بالقاعدة أن نفرق بين الأدوية والمواد البيولوجية ذات التأثير الجسدي ووظائفه المتعددة والأخرى ذات الآثار على الوظيفة الدماغية تحديدا. إن الآثار الدماغية لأي مادة بيولوجية يرفعها تلقائيا إلى مستوى أعلى وأخطر، ويستدعي نقاشا علميا دقيقا ومتخصصا يسحضر الأبعاد النفسية والروحية والعاطفية والسلوكية التربوية.”

فهل يعقل أن نقبل بتقنين الاستعمال المحدود أمام مخاطر انتشار الزراعة التي عادة وبحسب الواقع تستعمل بعد تحويلها إلى مخدرات، فتكون بذلك الحكومة قد فتحت باب الشر، الذي لا تتحكم فيه البتة. لأنها تنظر للقوانين فتخرجها، لكن لا تتحكم فيها في التطبيق، إذ ذلك موكول إلى الأجهزة الأمنية. ثم هم يقولون إنه أيضا يستعمل في التجميل، ونحن نقول: التجميل أمر تحسيني وليس من قبيل الضروري، والمواد التجميلية تستخلص من نباتات كثيرة منها شجرة الصبار، فلا يمكن أن نفتح باب الشر لأمر تحسيني، لأن الحياة غير متوقفة عليه.

وهذه المسألة أي التقنين للقنب الهندي شبيهة بمسألة الترخيص للخمر، والتنصيص على بيعه للأجانب، غير أن ذلك بخلاف الواقع ونسبة الاستهلاك، فكم من الأجانب عندنا حتى يستعملوا تلك الأطنان من الخمور؟ حتى أصبح الخمر منتشرا بشكل مريع. وكذلك واقع استعمال القنب الهندي وتحويله إلى مخدر، فالواقع خير شاهد، وهو الشاهد المزكى، الذي لا يطعن فيه أحد.

رابعا: هل استحضرت الحكومة ومن ينصرها في ذلك الموازنة بين الاستعمال الطبي لنبتة القنب الهندي المحدود، دون تضخيم ولا تهويل، والانفلات الذي سيقع من جراء التقنين، والذي سيستغله أباطرة وبارونات المخدرات واللوبيات المتحكمة في الاقتصاد، حتى يمكنها أن تخرج بنتيجة واقعية مبنية على اعتبار المآل وسد ذرائع الفساد؟ أم أن الحكومة قد عجزت عن التصدي للفساد فلم تجد بدا من أن تفتح له بابا يعلم الله كم من الشرور ستدخل منه. إن التذرع بالاستعمال الطبي مع الغموض الذي يكتنف هذا التقنين، بغياب معطيات كثيرة، يفضي إلى أن الغرض ليس كذلك، وبخاصة في هذا الظرف بالذات، أعني بعد كارثة التطبيع.

خامسا: المعلوم من ديننا قطعا أن الشيء المحرم، لا يستعمل إلا عند الضرورة القصوى حفظا للأنفس من الضياع، وهو مقصد شرعي لا غبار عليه، والضرورة تقدر بقدرها، يعني لا ينبغي تجاوزها والتوسع فيها، وإلا ما أصبحت ضرورة، والسؤال هنا لماذا الحكومة لا تفصح عن هذه الضرورة، وهل هي فعلا لها تأثير على الواقع؟ وهل يمكن الاستغناء عنها بصناعة طبية أخرى تؤدي نفس الدور؟ وهل يمكن استيراد الأدوية الطبية بتكلفة أقل؟ المهم هناك العديد من الأسئلة تلف هذا الملف، وتنبئ أن هناك غموضا لا يفصح عنه، لا ندري لماذ؟ هل لحاجة في نفس ذوي الشأن لا في نفس يعقوب؟

سادسا: هذا التقنين الخطير الذي تزمع الحكومة تقريره في مرسوم قانوني، فلماذا لا تتوسع بإدخال المجلس العلمي الأعلى، وهو أعلى هيئة علمائية، حتى يسمعوا لكلام العلماء، بعد الاستماع لعلماء المختبرات والطب. لماذا نغيب الرؤية الشرعية؟ أليس دستورنا ينص على أن دين الدولة هو الإسلام؟ أليس عندنا علماء؟ فلماذا حكومة العثماني تغض الطرف عن النظر الشرعي في الموضوع؟ لأن البحث في المسألة له وجوه: وجه تجريبي مخبري، ووجه قانوني، ووجه شرعي. فكان لا بد من اجتماع موسع لهذه الأطراف الثلاثة. وإلا فلتفصح الحكومة عما عندها؟

إن التقنين للقنب الهندي في ظل أوضاعنا الحالية، واعتبارا للمآلات، وبناء على سد ذرائع الفساد، لا يبشر بالخير، بل هو شر ينبغي للحكومة أن تحجم عنه، وتطوي ملفه، وإلا سيبقى وصمة عار عليها، وعلى حزب العدالة والتنمية الذي يقودها برئاسة سعد الدين العثماني.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M