الكاتبة الأردنية احسان الفقيه تكتب: متى تحلّق الصقور؟

03 أبريل 2016 17:43
الكاتبة الأردنية احسان الفقيه تكتب: متى تحلّق الصقور؟

هوية بريس – إحسان الفقيه

الأحد 03 أبريل 2016

يحكى أن فتى كان يعمل مع والده على سفح جبل، فوقعت عينه على عش قد انتظم فيه بيض أنثى الصقر، فالتقط واحدة، وجعلها مع بيض الدجاج في مزرعته.

احتضنت الدجاجة الأم جميع البيض بما فيه بيضة الصقر، ومع مرور الأيام خرج من البيضة صقر صغير، عاش مع الدجاج، يأكل كالدجاج، ويلتقط الحب مثله، ويصيح.

يوما ما، رأى صقرا كبيرا يحلق بجناحيه في عنان السماء، فتعجب من شأنه، هو يشبهه تماما في الهيئة، هكذا رأى نفسه في صفحة الماء، فلماذا لا يطير مثله؟ لماذا يعيش مع الدجاج الذي يختلف عنه في كل شيء؟

بدأ الصقر يحرك جناحيه استعدادا للطيران، لكنهما واهنان، قد أصابهما الضمور بطول السكون، إلا أن بعض الصقور المحلقة راقبته، وبدأت في تشجيعه على الطيران، ورويدا رويدا، بدأ النشاط يدب في جناحي الصقر، إلى أن حلّق في السماء، وأدرك أن عنانها مرعاه الخصيب.

تلك القصة متعددة السياق، أصلها قصة للروائي الأمريكي “فرنسيس ك. خوشو”، أطلق عليها “النسر الذي ظنّ أنه دجاجة”، رغم اختلاف سياقها في المراجع، إلا أن فكرتها واحدة، هي ذلك الإنسان الذي خدعته المرآة، فعكست له ضعفا مُتوهما، بينما في الحقيقة قد أوتي من القوة ما لا يخطر له ببال، تماما مثل هذا الصقر، الذي لا يدرك أنه صقر، ورضي أن يعيش كالدجاج.

فلتحدثني عن طبيعة الأوضاع المعيشية الوعرة، وعن التخلف الذي يكتنف الأمة، وعن الفقر والجهل والمرض والجوع الذي يأكل في العقول والعظام، وعن الاستبداد الذي ران على كثير من الدول، وأفرز همما بالية، وعزائم واهنة، تعيش حبيسة آلامها.

أوافقك الحقيقة المُرّة، وليس بمقدوري أن أستعير مقولة الشاعر محمود درويش “لا عرش لي إلا الهوامش”، لأن كثيرا من أبناء أمتي عرايا حتى على هامش الحياة.

أعلم أن البيئة لها حظٌّ وافر في تشكيل مسار الفرد، لكن هذه الأوضاع المأساوية لا ينبغي أن تسجن تلك الطاقات الكامنة بداخلك، فقط أطلق لنفسك شراعها، ودعها تتناغم مع الكون.

أنت تستطيع، نعم إنك تستطيع، فأنت كائن متفردٌ، كرّمه الله تعالى على كثير ممن خلق {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء:70].

لعلك نسيت أنك الخليفة في الأرض، قالها ربك قبل نشأتك الأولى {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30]، وإذا كنت مستخلفا في الأرض لإعمارها بنهج السماء، وجعلك ربك قادرا عليها، وسخّر لك قوتها الباطنة والظاهرة، فهو يعني أنك قوي بما يكفي لإتمام الرسالة.

ودعْ سيد الظلال يُحلّق حولها بحسِّه الأدبي وفكره العميق، فيرسلها إليك أمثالا سائرة: “فهي المشيئة العليا تريد أن تسلِّم لهذا الكائن الجديد في الوجود، زمامَ هذه الأرض، وتطلق فيها يده، وتكِلُ إليه إبراز مشيئة الخالق في الإبداع والتكوين، والتحليل والتركيب، والتحوير والتبديل؛ وكشف ما في هذه الأرض من قوى وطاقات، وكنوز وخامات، وتسخير هذا كله -بإذن الله- في المهمة الضخمة التي وكلها الله إليه”.

يا ابن دمي.. الصلاح وحده لا يكفي، أرأيت إلى ما استعاذ منه الفاروق عمر: “اللهم إني أعوذ بك من جَلد الفاجر وعجز الثقة”.

وعلى خطاه لم يُخف الشاعر عنّا الرثاء:

تبلّد في الناس حسُّ الكفاح…..ومالوا لكسبٍ وعيشٍ رتيب

يكـاد يُزعـزع من هـمـتي…..سدور الأمين وعزم المريب

خذها من غير فقيه، هما اثنتان يا ابن العم لا قوام للأمة بدونهما: القوة والأمانة، وبحسبك آي القرآن تخلّد شهادة امرأة سقى لها موسى الكليم: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص:26].

الكاتبة الأمريكية “جين ماري ستاين” عدّدت في كتاب لها بعنوان “كيف تضاعف قدراتك الذهنية”، البراهين العلمية على امتلاك الإنسان لقوى هائلة تفوق سقف تطلعاته.

وطرحت تساؤلات لـ”إسحاق أزيموف” الأديب الأمريكي، الروسي المولد- الذي كان أصل تخصصه في الكيمياء- في ما يتعلق ببعض الحقائق حول قدراتنا العلمية:

لماذا لا نتعلم بصورة أفضل في حين يحتوي المخ على 200 بليون خلية (بما يعادل عدد النجوم في بعض المجرات الكونية)؟

لماذا لا نتذكر في حين تستطيع عقولنا أن تحتفظ بحوالي 100 بليون معلومة (والتي تعادل ما تتضمنه دائرة معارف)؟

لماذا لا نفكر بصورة أسرع في حين أن أفكارنا تسافر بسرعة تتجاوز 300 ميل في الساعة (وهي سرعة أكبر من أسرع قطار في العالم).

بالمناسبة، هو يتحدث عن أكبر سرعة في وقته، وإلا فإن قطارا يابانيا يعمل بخاصية الرفع المغناطيسي سجل في أبريل 2015م سرعة 603 كيلومترا في الساعة.

ويضيف: لماذا لا نفهم بصورة أفضل في حين أن عقولنا تحتوي على أكثر من 100 تريليون وصلة محتملة؟

أنت قوي، إن لم تصدّقني فانظر إلى الصبي الصغير كيف يقود الجمل الضخم، فينقاد معه بيُسر، وتابع الصياد الضعيف حين يحتال على الوحوش الضارية ويُسْقطها بالحُفَر، وراقب من يدرب الصقر ويروض خيل البراري كيف يفعل ذاك.

إنها قوة الاستخلاف التي تتيح له استغلال قوى الكون العاتية، من أجل تسخيرها لعبودية الخالق سبحانه.

هل بإمكانك أن تتعلم لغة حية في أقل من شهر؟ لِم لا؟ فعلها إنسانٌ مثلك، يملك عقلا بشريا مثل عقلك، هو الصحابي الجليل زيد بن ثابت، يحكي عن ذلك فيقول: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : أتُحسن السريانية؟ فقلت: لا . قال: فتعلمها؛ فإنه يأتينا كُتُب، فتعلمتها في سبعة عشر يوما).

ومن الصدر الأول وخير القرون، ننتقل إلى حيث الآثار والبحث عن الماضي تحت ركام التراب، إلى العالِم الأثري الألماني هنريخ شليمان، الذي قال عنه ويل ديورانت في قصة الحضارة: “قد اعتاد في أثناء اشتغاله بالتجارة أن يتعلم لغة كل بلد يتجر معه، وأن يكتب بهذه اللغة ما يتصل بأعماله في مفكرته اليومية، وبهذه الطريقة تعلم اللغات الإنجليزية، والفرنسية، والهولندية، والإسبانية، والبرتغالية، والإيطالية، والروسية، والسويدية، والبولندية، والعربية. ثم ذهب إلى بلاد اليونان ودرس فيها لغة الكلام الحية، وسرعان ما أصبح في مقدوره أن يقرأ اليونانية القديمة والحديثة بالسهولة ذاتها التي يقرأ بها الألمانية”.

وأبدا لم يكن الوهن والمرض والعجز البدني مبررا للقعود والرضا بالسكون المقيت، عبد الله بن أم مكتوم، كان أعمى البصر لا البصيرة، معلول الجسد لا النفس، لم يستسلم لواقعه أو ينزوي في زاوية الحياة، بل دقّ صدره بيده وقال: هآنذا.

وما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليمضي في غزواته ويستخلف ابن أم مكتوم على المدينة، إلا وهو يعلم يقينا أنه الرجل.

نقل ابن عبد البَرّ في الاستيعاب عن الواقدي قوله في استخلاف ابن أم مكتوم: “استخلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم، على المدينة ثلاث عشرة مرة في غزواته”.

ومع أن الله قد رفع عنه الحرج في الجهاد، إلا أن نفسه التواقة إلى نُصرة الدين وفتح الطريق أمام البشرية للتعرف على الإسلام، جعلته يحلق في ميادين القتال وهو الرجل الأعمى، فكان يطالب في المعارك أن يكون حامل الراية.

كانت الراية بالفعل له، أتدري كيف ولِمَ؟ يأتيك منه الجواب: “ادفعوا إليّ اللواء فإني أعمى لا أستطيع أن أفِرّ، وأقيموني بين الصفين”.

وشهد ابن أم مكتوم معركة القادسية كبرى المعارك الإسلامية في بلاد الفرس، وحمل الراية بها حتى لقي ربه شهيدا.

ولئن كَبُر عليك النظر إلى القرن الأول متذرعا بعوامل بنائه الخاصة، فدونك أهل العصر من رواد العلم والنضال.

فسبحان من هزّ عرش الصهاينة بعملاق لا تهتز له يد، ولا تتحرك له قدم، خلا تراب الأرض من أثره، ولكن خلد الله بين الأنام ذكره، هو الشيخ المناضل أحمد ياسين، الذي ارتعدت له الفرائص الصهيونية.

بربك ماذا يُنتظر من قعيد يعيش بشلل رباعي، تعجز يده عن دفع ذبابة تقع على وجهه، قدماه لم تلامسا الأرض منذ إصابته المبكرة في أولى فترات شبابه، وفقد إحدى عينيه جراء التعذيب الوحشي في سجون إسرائيل، وبقيت الأخرى تزحف بضعفها إلى أختها.

لكنها قوة النفس والإرادة وقبلهما العقيدة، استطاع أن يُربي شعبا بعلمه ودعوته وتفاعله مع الجماهير، وأنشأ حركة حماس التي وقفت شوكة في حلقوم الاحتلال، ولقي ربه شهيدا بعد أن استهدفته الأباتشي بثلاثة صواريخ وهو خارج من المسجد بعد أداء صلاة الفجر.

مشكلة الخمول والقعود والرضا بالعيش على هامش الحياة، تنبع من داخل الإنسان، من نظرته الدونية إلى نفسه وازدرائها، واعتقاداته تجاهها، فهو لا يرى قوته وقدراته.

ولعل مزيدا من التوضيح ينتظرنا عبر هذا الرجل الذي قالت عنه المذيعة الأمريكية “برنادت ريكادر”: “في رأيي يعدّ من أفضل المحاضرين العالميين”، ذلك الرجل الذي أسعد الملايين، ليس فقط بعلمه وأسلوبه الساحر، وإنما بذلك السمت الذي لا تخطئ العين كونه تصالحا مع النفس ورضا عن الله، إنه المحاضر العالمي ومدرب البرمجة اللغوية العصبية الشهير، الدكتور إبراهيم الفقي رحمه الله.

في كتابه “قوة التحكم بالذات” يقول د. إبراهيم الفقي: “أشد الأضرار التي يمكن أن تصيب الإنسان هو ظنه السيئ بنفسه، وهناك حديث شريف يقول: (لا يحقرن أحدكم نفسه)”.

في الكتاب ذاته، ينقل الفقي عن عالم النفس النمساوي “ماسلو”، قصة تبرز تأثير الاعتقاد السلبي على النفس والسلوك البشري، قصة رجل مريض يعتقد في نفسه أنه جثة، مجرد جثة، فخطر في بال الطبيب أن يتوجه بسؤال ذكي إلى مريضه: “هل من المعقول أن تنزف الدماء من الجثة؟”، أجاب المريض على الفور نفيا، فما كان من الطبيب إلا أن وخز إصبع مريضه فنزل منه الدم، فصاح ذلك المريض: الآن فقط اقتنعت أنه من الممكن أن تنزف الدماء من الجثث”.

يقول الكاتب الأمريكي، روبرت ديلتز، في كتابه “الاعتقاد”: “يمثل الاعتقاد أكبر إطار للسلوك، وعندما يكون الاعتقاد قويا ستكون تصرفاتنا متماشية مع هذا الاعتقاد”.

يا عزيز القوم ثق بقدراتك، بتلك القوى والطاقات التي أودعها الله فيك، ورُدّها جميعا إلى المُنعم بها، وأطلقها حيث يريد ربُّك، لتشق بها سكون الكون من حولك، في غير بطَرٍ أو تكبر، وكن كما تحتاج إليك أمتك: صقرا يحلق في الفضاء.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M