اللغة العربية.. أي واقع؟!!

27 أكتوبر 2017 23:39
القديم والحديث... المعركة التي لم تمت

هوية بريس – كمال بوضى*

لقد كرم الله هذه الأمة بأحسن المكارم بأن جعل القران بلسان عربي مبين، كرسالة خاتمة خالدة جاءت لكي تسموا بالإنسان وترقى به إلى أعلى المراتب، و تبعده بذلك عن الغرق في بحول الضلال والوثنية التي طبعت حياة العرب لقرون طويلة، و إذا تصفحنا القران الكريم وجدناه يشير في أكثر من موضع إلى عربيته، (بلسان عربي مبين-قرانا عربيا لعلكم تعقلون…)، أما التكريم الآخر فيكمن في أنه “أوحى بها إلى خير خلقه، وجعل لسان أمينه على وحيه، وخلفائه في أرضه، وأراد بقضائها ودوامها حتى تكون في هذه العاجلة لخيار عباده”. فكما يعلم فالرسول الكريم من قبيلة قريش التي عرفت بفصاحتها، وعلو كعبها في الفصاحة وفي ضروب البيان والمعاني. قال النبي الكريم: (أنا أفصح الناطقين بالضاد بيد أني من قريش).

لقد اعتنى العرب وغيرهم من الأعاجم باللغة العربية عناية فائقة لم تعرف لغة مثلها ذلك، فلقد “تركوا في خدماتها الشهوات وجابوا الفلوات ونادوا لاقتنائها الدفاتر وسامروا القماطر والمحابر، وكدوا في حصر لغات طبائعهم، وأشهروا في تقييد شواردها أجفانهم وأجالوا في نظم قلائد أفكارهم، وأنفقوا على تخليد كتبها أعمارهم، فعظمت الفائدة وعمت المصلحة وتوفرت العائدة”. والسبب في ذلك أن الاعتناء بها كان يعني بالضرورة العناية القران، والتراث اللغوي والفكري يظلان شاهدان على هذا الأمر، ولنأخذ مثالا من أحد العلوم العربية حتى يتضح المقال ويفهم المغزى من الكلام، فعلم النحو كعلم من علوم اللغة الأساسية نشا كرد فعل على فشو اللحن في الألسن، فقد ذكرت الكتب التي خاضت في تاريخ النحو أن أحدهم قرأ قوله تعالى: (إن الله بريء من المشركين ورسوله) بالكسر والصواب أن تكون بالرفع. ليكون من الواجب في ظرف تاريخي محدد وضع قواعد تضبط اللسان العربي وتحمي لغة القران من فساد الألسن و فشو اللحن، خاصة بعد اتساع رقعة الخلافة الإسلامية لتشمل بلاد الأعاجم. حيث طلب علي بن أبي طالب من أبي الأسود الدوؤلي أن يتكلف بهذا الأمر، مرددا قولته الشهيرة (أنحوا هذا النحو). ومع مرور العصور ظهرت العديد من التصانيف في مختلف العلوم (نحوا، وبلاغة، وصرفا…) التي اهتمت اهتماما منقطع النظير باللغة العربية، والمتصفح لكتب الجاحظ وابن جني والجرجاني يجد هذا العناية و من زوايا مختلفة.

إن نظرة تأمل لواقع اللغة العربية في المجتمعات الناطقة بها في وقتنا هذا، يتجلى لنا بوضوح تردي هذه اللغة وضعف انتشارها كما كانت في السابق، فقد أصبحنا نرى الركاكة والضحالة والإسفاف والخلط في اختيار الألفاظ المناسبة لسياق محدد تغزوا لغة القران، وهو أمر لا ينبغي البتة حدوثه، لأن في الاعتداء على العربية ضرب للقران الذي يعد دستور الأمة وموجهها إلى طريق الحق والصواب.

ويمكن إرجاع أسباب هذا الواقع المزري للغة العربية إلى جملة من العوامل، تحدد كالآتي:

العولمة: لقد برز هذا الوحش الكاسر مستهدفا ضرب كل القيم والمقومات الفكرية والثقافية الخاصة بكل مجتمع على حدة، فالعولمة في أساسها تسعى لطمس المعالم التي تأسس صرح كل أمة، وتحاول فرض سيطرة الثقافة الواحدة على حساب كل الثقافات حتى وان كانت هذه الثقافات لها تاريخ عريق أكبر من تاريخ أمريكا.

لقد عملت العولمة على الرفع من شأن اللغة الانجليزية، وجعلها لغة العالم، فهي عندهم لغة الاقتصاد والسياسة والإعلام والتواصل، وحتى لا يظن أحد أننا نتعارض مع اللغات الأخرى، فالقصد عندنا هيمنة لغة على أخرى عن طريق ضرب أصولها ومقوماتها.

الفساد الإعلامي: إن معظم الوسائل الإعلامية العربية لا تولي أي اهتمام للعربية، والدليل على هذا الأمر المقالات الصحافية التي في اغلب الأحيان تكتب بلغة خالية من الإحكام والإبداع الفني والأسلوبي، بل إن قراءة الصحف تورث في النفس فساد الذوق، ثم النشرات الإخبارية خاصة الجوية منها التي تُسمع فيها جمل غير مفهومة وصعبة التفسير كذلك، فمثلا يكثر في النشرات الخاصة بحالة الطقس استعمال جملة شائعة (هائج إلى قليل الهيجان)، وهذه جملة إذا أمعن النظر في بنيتها التركيبة والدلالية تبين بما لا يدع مجالا للشك أنها جملة لاحنة، أضف إلى ذلك قلة البرامج والأنشطة التي لا تولي جانبا من الاهتمام للغة العربية، هذا الاهتمام الذي يوجه نحو البرامج الفارغة الخالية من المضمون، تماشيا مع أذواق أكثر الناس الذين طُبع على قلوبهم وعقولهم التفاهة من حية لا يشعرون.

ضعف همة القراءة: من الأسباب الحقيقية التي تقف وراء هذا الواقع المزري الذي تعيشه اللغة العربية، ذلك أن فعل القراءة لم يعد قائما بشكل قوي وفعال كما كان الحال في العقد السابق، فإذا أخذنا علما من أعلام الثقافة الإسلامية نطالع العجب العجاب، والجاحظ خير مثال يستشهد به في هذا المقام .هذا الرجل الذي كان يبيت في دكاكين الوراقين الليالي ذوات العدد، حتى أنه قرأ مختلف العلوم والفنون التي أجاد فيها سابقوه، فساهمت هذه الظروف في ولادة مفكر عبقري كتب فأبدع فحرك العقول ونفض عنها غبار التقليد والجمود… وفي هذا الموقف أستحضر قول الشاعر:

أولئك آبائي فجئنا بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع

غياب مناهج حقيقة: تعمل على تأطير مختلف شرائح المجتمع في سبيل النهوض باللغة العربية سواء عن طريق القيام بندوات أو مؤتمرات فكرية، أو من خلال القيام بأنشطة فكرية تزرع في الناشئة حب اللغة العربية، وتجعلهم يفتخرون بهذه اللغة التي وصفها ابن جني بأنها لغة شريفة لطيفة، لا أن تكون ندوات يضيع أكثر وقتها في المدح والثناء والتصفيق.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* أستاذ التعليم الثانوي.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M