اللغة العربية بين الاستعمال والتداول!‎

17 يوليو 2019 19:46
اللغة العربية بين الاستعمال والتداول!‎

هوية بريس – محسن اعويرة*

صحيح أن اللغة أداة للتعبير عما يجول في ذهن الإنسان من أفكار، وعما يختلج في نفسه من مشاعر؛ وبذلك فهي أداة مشتركة للتعبير عن المنطق العقلي والانفعال الوجداني.. وفي نفس الآن فمن داخل كل لغة لغات -وهنا لا أقصد اللكنات واللهجات- لغة علمية، لغة أدبية، لغة تقنية، لغة دينية.. ويمكن استحضار كذلك الوظائف التي تقوم عليها اللغة، والمستنبطة من التعريف الشائع لابن جني “مجموعة أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم”.

1- الوظيفة اللسانية “أصوات”.

2- الوظيفة الاجتماعية “قوم”.

3- الوظيفة النفسية “عن أغراضهم”.

وفي هذا السياق فاللحظة السيكولوجية للإنسان هي التي تحدد نوعية اللغة التي يمكن أن يتفاعل بها ومعها. لعل النقاش كان محتدما قديما عن أصل اللغة، هل هو فطري إلهي، أم مكتسب وضعي بشري؟ لكن أصبحنا اليوم نتحدث عن طبيعة اللغة؟ لأن التعامل مع النص الأدبي أو العلمي أو الفلسفي ليس هو نفسه التعامل مع النص الديني! لا من حيث الآليات ولا المناهج التحليلية التأويلية النقدية..

ولهذا نجد تباينا يختلف باختلاف اللغة لا الدين، إذ الدين واحد من لدن آدم عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم، لكن لغة الكتاب المقدس مع الإنسان والزمان والمكان هي التي تجعل من الدين يكتسي مجموعة من التأويلات.. وهنا يعتبر اللاهوتي والفيلسوف الألماني بول تيليش أن الله وحده هو المقدس وينبغي أن تفهم كل العقائد الدينية على أنها رموز محضة له، ويرفض أن يعد أي شخص أو أي شيء أو مؤسسة مقدسا، لأن المقدس الوحيد هو المطلق الأبدي اللامتناهي الله، وما الرموز الدينية كالصليب وغيرها إلا مشاركة في قدسية الله.. وهذه النظرية عكس ما ذهب إليه هيجل على أن اعتبار المسيحية الحديثة يعتقدون بتقديس الصليب والابن والروح القدس.

إنَ الحفاظ على اللغة الأصلية للنّص الديني حفاظٌ على جوهره من تحريف الجاهلين وانتحال المبطلين وتأويل الغالين.. لهذا كان من تحريف الكتاب المقدّس بعهديه الجديد والقديم ما كان من ضياع لغته الأصلية “العِبرية والآرامية واليونانية”، فبتساهل أهل الكتاب في لغتهم وعدم ضبط قواعدها والعناية بألفاظها ومدلولاتها ضاعت نصوصهم الدينية وتمّ تحريفها وتبديلها.. أما القرآن الكريم فقد اعتنى الله جل وعلا بحفظه، وبحفظه حفظ العربية فقيّض لها رجالا وضعوا قواعدها وضبطوا نحوها وصرفها وتوسعوا في بلاغتها وآدابها.. وببحثهم هذا غاصوا في القرآن فكلّ درسه ودارسه بعلمه الذي يُتقنه وبفنّه الذي برع فيه، فالنّحوي قرأه قراءةً نحوية “معاني القرآن وإعرابه للفراء والزجاج” والبلاغي كذلك “مجاز القرآن لأبي عبيدة معمر بن المثنى، الكشاف للزمخشري”… لهذا تم الاعتناء باللغة العربية بنحوها وصرفها وبلاغتها وآدابها وعروضها… لكي تفتح للمسلم آفاقا للتفكير ومجالا للتّأمّل والتّأويل.. ولهذا اختار الله عز وجل هذه اللغة “قرآنا عربيا لعلكم تعقلون”، فهيَ دين، تأمل قول الثعالبي -رحمه الله- في كتابه “فقه اللغة وأسرار العربية، ص 11”: ومن أحب العربيةَ عُنيَ بها، وثابر عليها، وصرف همَّتَهُ إليها، ومن هداه الله للإسلام وشرح صدره للإيمان وآتاه حسن سريرة فيه اعتقد أن محمداً صلى الله عليه وسلم خير الرسل، والإسلام خير الملل، والعرب خير الأمم، والعربية خير اللغات والألسن، والإقبالَ على تفهمها من الديانة، إذ هي أداة العلم ومفتاح التفقه في الدين وسبب إصلاح المعاش والمعاد!

فمن أسباب تدهور اللغة العربية الممنهج إقحام اللغة الشائعة “الدارجة” وبعض الألفاظ السلسة في مقررات المنظومة التعليمية، واستعمال الرمز والأسطورة في الشعر الحديث والأسلوب السهل والتعبير الجميل وكل هذا يساهم في تقويض أركان اللغة الأصلية ورص حجرة كأداء أمام فهم القرآن الكريم.. ولهذا فقطاع التّعليم هو القطاع المُستهدف الآن، فبعد تدمير الشّعوب العربية بالسلطة الرّابعة (الإعلام) وتشويه ثقافتها مجتمعياً، عبر سلسلة من البرامج والأفلام والمسلسلات.. والتّحكّم في الأسر ضمنيا.. أصبحت المدرسة وفاعليها ومؤطّريها وكلّ من يمتّ لها بصلة محطّ سخرية وخلق نكت وطرائف تحدّ من امتداداتها وتكبح دورها ومسؤوليتها في تربية النّشء وتزويدهم بالأسس المنهجية والمعارف العلمية لإصلاح المجتمع والمساهمة في رقيه.. حملةٌ عشواء وخطة مدروسة لإقبار القيم وطمس هوية المجتمع وتمويه صورة الأستاذ والمدرسة داخل الأمّة! فمسألة الازدواجية في اللغة أو الانفصام اللغوي… أو كما أسماه القانون الإطار “التناوب اللغوي”.. لا يُنشئ لنا إلا جيلاً مفكّكا لا يافطة لغوية توحّدة!

مهمَّتُنا الآن ليست فقط تصحيح التّمثلات وتقويمها… وإنما إرجاع للمدرسة مكانتها المهمة واعتبارها الأساس ودورها الفاعل.. وهذا لا يتأتّى إلا بالانخراط المكثّف لكل الفاعلين التربويين، وجعل اللغة العربية لغة العلوم لبناء حضارة إنسانية ثانية!

ـــــــــــــــــــــــــ

* أستاذ باحث

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M