المجتمع المغربي وقضايا الوقف من خلال كتب النوازل الفقهية

24 يوليو 2019 19:10
واقع التدين في المجتمع المغربي

هوية بريس – زكرياء خديري
باحث في المذهب المالكي والتشريع المعاصر

عرف التاريخ الإسلامي والمغربي بوجه أخص تراثا إنسانيا عالميا يزخر بالإنجازات الكبرى والإبداعات المتنوعة في مجالات مختلفة، قدّم فيها السلف أمثلة عديدة على التطور الكبير الذي حققوه في مجالات الطب والعمارة والعلوم والآداب والشعر، في وقت كانت فيه أوروبا غارقة في بحر من الجهل والتخلف، مما دفع بعدد من الطلبة الأوروبيين إلى التتلمذ على يد العلماء المغاربة في جامعة القرويين، وبذلك استطاع المجتمع المغربي في حقب مختلفة تحقيق التنمية الشاملة بمفهومنا الحديث عبر توفير مناخ فكري وإداري وتكافلي مناسب، كان من بين أهم مؤسساته مؤسسة الوقف، التي كان لها حضور دائم وفاعل في حياة الأمة والمجتمع، ولعبت أدوارا متميزة في تحقيق التنمية الشاملة سواء منها الاقتصادية أو الصحية أو الاجتماعية أو الثقافية والتعليمية، ولا أحتاج إلى كثرة التمثيل فهذا جامع القرويين قامت ببنائه وتوسعته أم البنين فاطمة الفهرية ممّا ورثته من أبيها ابتداء من رمضان من سنة 245هـ، ومن رجع إلى كتب التاريخ علم مقام هذه السيدة العظيمة وما كانت تتحلى به من ورع وخُلق ودين، وتذكر الروايات التاريخية أنها صامت طوال فترة بناء المسجد التي امتدت إلى سنة 263ه/876مـ. ليبارك الحق سبحانه وتعالى في عملها ويصبح الجامع أقدم جامعة في العالم قامت على الوقف واستمرت قرونا إلى يومنا، وذلك بفضل الترواث الحبسية الواسعة التي خصصت لها ووضعت تحت تصرفها وخدمتها، فتخرج منها أئمة أعلام من أمثال الفقيه المالكي أبي عمران الفاسي وابن البنا المراكشي وابن العربي المعافري وابن رشيد السبتي وابن ميمون الغماري، بل وحتى شخصيات علمية ودينية من ّأوربا، وفي مقدمتهم البابا سلفستر الثاني والأسقف أندري (ت938هـ) والقسيس نيكولا كلينار (ت949هـ) وكذلك جاكويسن كوليوس (ت1032هـ)، وممن درّس بها المؤرخ ابن خلدون ولسان الدين بن الخطيب وابن مرزوق وأبو العباس الونشريسي.

وفي هذه المقالة نتوقف لنلقي الضوء على الوجه المشرق من حياة المجتمع المغربي في تفاعله مع قضايا الوقف من خلال المسائل التي كانت تطرح على الفقهاء والتي حفظت في مدونات كتب النوازل الفقهية.

وقبل عرض نماذج من هذه النوازل نقف قليلا عند مفهوم الوقف في اللغة والاصطلاح.

الوقف في اللغة معناه: الحبس والمنع، وفي الاصطلاح: حبس العين والتصدّق بالمنفعة، ومعناه: منع التصرف في أصل العين سواء كان هذا الأصل عقارا كالمنازل والدور، أو مالاً كالذهب والفضة، أو منقولا، أو غير ذلك ممّا يجوز وقفه.
وفي تعيين مصرفه يقول الشيخ عليش: ولا يشترط في الوقف تعيين مَصْرِفه، أي: ما يصرف ريعه فيه من الخيرات، فإن وُقف وقفاً ولم يعين مصرفه صح، وصُرِفَ ريعه في نوع غالب صرف أهل بلد واقفه، وإن لم يكن غالب، فالفقراء، أي: المحتاجون يصرف لهم ريعه.

وأولى الإشراقات النوازلية نلتقطها من كتاب “المعيار” للإمام الونشريسي، حول جري العمل على المسالفة بين المساجد إذا ظهر في إحداها ضرورة من البناء والإصلاح، وحول الاجتهاد في تفريق حبس المساكين عليهم، وورد في السؤال أنّها كثيرة الوقوع، وفيه:

وسئل عن مساجد لنظر ناظر يقبض فوائدها وينفذها في ضرورياتها من البناء والإصلاح، فربما نفذ دراهم هذا لهذا لكون الأخرى لا تحتاج لإصلاح، أو دراهمها كثيرة، فهل يجوز هذا أم لا؟ ولو كان على وجه السلف وظهر له فيه مصلحة للأخرى ووفرها برد السلف، فهل يفعل ذلك أم لا؟ ودراهم موقوفة على مساكين وأخرى على الحجاج الواردين على المدينة، وأخرى على المسجونين، وعُدم المساجن والواردون، فهل تصرف الدراهم المذكورة للمساكين أم لا يجوز ذلك، وتبقى بيده حتى يرد أربابها، أو ينفذها للمسكين على وجه السلف؟ وهذه المسألة عندنا كثيرة النزول، بيّن لنا الحكم في هذه المسائل كلها مأجوراً.

فأجاب: أمّا صرف غلاّت الأحباس بعضها في بعض، فيجوز على وجه المسالفة، بشرط أن يكون المسلف منه غنياً لا يحتاج إلى ما أسلف منه لا حالاً ولا استقبالاً؛ أو يحتاج في المستقبل بعد رد السلف، وأن يكون المسلف إليه غنياً بما أسلف، وفي ذلك خلاف، والذي مضى به العمل جواز السلف، وأما ما وقف على المساكين كما ذكرتم، وعلى الحجاج والمسجونين، وعدموا. فأمّا المساكين فلا يعدمون هنا، بل جل أهل بلدتكم مساكين، فيفرَّق عليهم بالاجتهاد، وأما الحجاج وأهل السجون فتوقف غلاّت أحباسهم حتى يوجدوا، والحجاج كل عام يطرقون بلدتكم، فإن خيف عليها ضيعة أو يدٌ عادية أُشتري بها ربع ووقف لهم، فإن قدموا وكان في غلاّت الأحباس الأصلية غلّة وما اشترى من غلاتها ما يقوم بمؤنتهم، اشترى من الغلة وإلا بيع، أو بيع منه ما يعرف فيما حبس عليه.

ومن خلال السؤال يظهر لنا مدى حرص المجتمع المغربي على المحافظة على الوقف وصيانته مخافة أن يصرف في غير ما وقف عليه، فكان الجواب واقفاً على اللفظ معتبراً المقصود من الوقف، فأجاز المسالفة بين المساجد بشرط أن يكون المسجد المُسلف غنياً غير محتاج إلى ما أسلف منه، كما أنّ المفتي لم يهمل وقف الحجاج أو المسجونين إذا عدموا، فقرر ما يصون حقوقهم ويحفظ ما وقف لهم في حالتي الأمن والخوف.

والنموذج الثاني أنقله من “فتاوي البرجي” وهي إحدى المجموعات النوازلية السوسية التي حفظت لنا نوازل القطر السوسي وفتاوى أكابر علمائه وما جرى عليه العمل السوسي، ومن ذلك جواب الفقيه قاضي الجماعة بالحضرتين المراكشية والرودانية سيدي عيسى بن عبد الرحمن السكتاني (ت1062هـ) عن سؤال يظهر من جوابه نصّه: الحمد لله وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، خطيب القاعدة السوسية – حرسها الله- الفقيه الفاضل الخير سيدي عبد الرحمن بن محمد التلمساني رزقني الله وإياه حسن الخاتمة.

أمّا بعد: فقد وقفت على جميع ما كتبتم وما أشرتم إليه، أما التضييق على الأئمة والمؤذنين والنقص عمّا هم محتاجون إليه في القيام بوظيفة وملازمة أوقاتهم ليلاً ونهاراً، فمن تغيير الحبس وإخراجه عن مصرفه وتعريض دين الله للضياع ما داموا قائمين بالوظيف، فالواجب على من بسطت يده في الأرض أن يصرف عنايته لسد هذه الثلمة، والنظر في أحباس المسلمين بالمصلحة، ويقدم الآكد فالآكد على ما هو المقصود عند المحبسين، سيما أحباس الملوك، لأنهم نواب عن المسلمين.

وأما التصرف فيها بحسب الحظوظ النفسانية مع الغفلة عن رعاية ما يجب، فلا يحل، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، ثم التوسعة عن طلبة العلم حملة دين الله وشريعة نبيه واجب، فإن أموال بيت المال ومستفاداتها كثيرة مزارع وغيرها، ومن ذلك تكون التوسعة، ومن كلام عمر رضي الله عنه: “أعط الأجناد والعلماء، ودع الأرض تأكل خبثها”، والعرف في أحباس مغربنا الأقصى ألا تخرج عن الصنفين، أحدهما: وهو الآكد عند الأئمة والمؤذنين. والثاني: حملة العلم، والخروج عنهما تغيير للمحبس، والله أعلم. وكتب عيسى بن عبد الرحمن لطف الله به.

ونتلمس في هذا الجواب ما للفقهاء والعلماء من دور رئيس في حماية الوقف والإسهام في إرجاع الأمور إلى نصابها كلما ظهرت الحظوظ النفسانية للقائمين عليه، كما نلحظ قوة الفقيه المفتي العلمية ونظره المتبصر بمقاصد الشريعة رعيا للمصلحة ومقصود المحبسين واحترازا من الغفلة عن رعاية ما يجب، مع ربط ذلك بالآخرة وما يقوله العبد عند لقاء ربه، ليختم الجواب بإعمال دليل العرف، وحيث لا نص فإنّ الخروج عنه تغيير للمحبس، وإخراج الحبس عن مصرفه لا يحل.

ومن أعالي درعة بورزازات نستقي النموذج الثالث من “نوازل” أبي عبد الله محمد الدرعي المشهور بالورزازي الكبير (ت1166هـ) حول بيع الحبس لتوسيع مسجد الجماعة والمقبرة والطريق، ونصه:

وسئل عن المقبرة إذا ضاقت وكان بإزائها أرض محبسة، هل يجوز بيع ذلك الحبس لتوسيع المقبرة أم لا؟
فأجاب: قال الإمام المتيطي: يجوز بيع الحبس لتوسيع مسجد الجماعة ولتوسيع المقبرة، ولتوسيع الطريق، والله تعالى أعلم.

وفي المعيار مسألة قريبة من هذه النازلة، ونصّها: وسئل القاضي أبو الحسن سيدي علي محسود – رحمه الله- عن أرض المساكين المحبسة عليهم، هل يجوز بيعها في مثل هذه السنة لعيشهم لما نزل من الخصاصة والحاجة بالمساكين أم لا؟

فأجاب: بيع أرض المساكين في مثل هذه السنة لعيشهم وحياة أنفسهم أفضل عند الله من بقاء الأرض بعد هلاكهم، وقد أمرت ببيع كثير منها في مثل هذه السنة.

وهكذا تعرض هاتين النازلتين لقضية بيع الحبس طلباً لسد ضروري من ضروريات الحياة أو حاجة ملحة نزلت بالمجتمع، فيأتي الجواب يراعي حاجة المجتمع ومصلحته العامة وما به يعود النفع على الكافة، آخذا بالمقصد العام من التشريع في جلب المصالح ودفع المفاسد، وفي الموازنة بينها، فيقدم ما كان نفعه أكبر وضرره أقل، ويدفع ما كان ضرره أكبر ونفعه أقل، ويقدم الأعلى على الأدنى، والعام على الخاص وهكذا…

وآخر إشراقة نوازلية التقطتها من “المعيار” كانت بعنوان “إذا حلّ ببلد مرضى من غيرها وأرادوا الدخول مع مرضاها في أحباسها”، ونصها:

وسئل ابن سهل: عن مرضى احتلوا بقرطبة من غيرها وطلبوا الدخول مع مرضاها في أحباسها المحبسة على المرضى بقرطبة، فاختلف فيها في الوقت الذي يجب لهم فيه الدخول مع مرضاها فيما يقسم عليهم من غلة أحباسهم.

فأجاب: بأن ذلك لهم بعد مُقام أربعة أيام إذا قالوا إِنهم يريدون الاستيطان بها. وبمثله أجاب ابن القطان فيما ذكر عنه أبو عبد الله بن رشد. وأجاب ابن مسلمة: إذا ثبت استيطانهم بها، فمن يوم ثبت في ذلك يفرض لهم في الأحباس – إن شاء الله-.

لنتأمل جيدا في هذه النازلة التي وقعت في القرن السابع الهجري وكيف كان المجتمع المغربي في فترة من فترات ازدهاره يوظف أحباساً في خدمة المستشفيات، فينزل مرضى من غير أهل البلد، فيطلبون الفتوى لإدخال هؤلاء المرضى في قسمة غلة أحباسهم؛ ليس التطبيب فقط بل وحتى غلة الحبس ينال منها المريض نصيبا!؟

وأختم هذه الجولة في كتب النوازل الفقهية والتي ذكرنا منها نماذج فقط أبرزت لنا وبكل فخر واعتزاز ما قام به الأجداد من تحبيس أوقاف على المساجد والمدارس والمستشفيات في تفاعل تام مع قضايا مجتمعاتهم بما يحفظ كرامتهم الإنسانية وأمنهم الاجتماعي ورقيهم المعرفي والعلمي والحضاري، فكانت تساؤلات المجتمع تصب في واد واحد، وهو حماية مكتسبات حضارتهم حتى لا يتلاعب بها المتلاعبون، وينحرفوا بالأمة عن مسار تقدمها وريادتها إلى عنوان تخلفها وتأخرها عن ركب الحضارة العالمة.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M