المسألة الإرثية المثارة بالمغرب.. سياقها وأصولها الفكرية والفلسفية ومناقشتها

06 مايو 2017 19:49
المسألة الإرثية المثارة بالمغرب.. سياقها وأصولها الفكرية والفلسفية ومناقشتها

هوية بريس – حسن فاضلي أبو الفضل

مقدمة

المسألة الإرثية المثارة بالمغرب.. سياقها وأصولها الفكرية والفلسفية ومناقشتهاإن ما يثار حول المسألة الإرثية بالمغرب ليس حديثا عرضيا أو آجتهادا من شخص أصاب فيه أو أخطأ، بل هو جزء من مخطط دقيق ومتكامل تم الترويج له وتنزيله بعد ذلك على خطوات ومراحل متتالية ومُحكمة. فكان أوله ما تعلق بلغة الوحي وخطاب الشرع، فلكي تنفصل الشعوب عن دينها نفسيا وروحيا، آحتاج المخطط إلى فصل الشعوب العربية/الأمازيغية عن لسان كتاب ربها وسنة نبيها عليه الصلاة والسلام، كما أن الدول المستعمِرة/المحتلة أدركت صعوبة آختراق الحكومات والمجتمعات المتدينة والمحافظة، فدعت إلى فصل السياسة عن المعتقد الغيبي وفصلها والناس عن الأخلاق، ولكي يفقد الدين قداسته ورهبته وتفقد الشريعة قيمتها الامتثالية في قلوب المسلمين، دفعت نحو التشكيك في قطعيات الشريعة وضنياتها الراجحة والطعن في مقدساتها، ولكي تستهدف عمق الأسرة المسلمة ومقومات آستقرارها، آقتضى ذلك نشر البنوك وإغراقها في القروض الربوية، ولكي تُفقدها تماسكها وقيمها كان هذا الكم الهائل من المسلسلات والأفلام والمقاطع الإباحية…

وهذه مقالة تكشف شيئا من سياق هذ المسألة الإرثية -الثقافي- وأصولها الفكرية والفلسفية، وأنها خالية من أي آجتهاد شرعي/علمي، وأنها لم تستند إلى مصلحة شرعية ولا مطلب آجتماعي، وإنما إلى مروق أصحابها ودعاتها، ولا أعنيهم بها كما لا أعني إقناعهم ولا أقصده؛ لعلة بسيطة وهي خُلوهم من الأهلية العلمية والعقلية، وإنما أقصد بها كل الناس ماعدا من سبق!

وقبل الشروع في بناء المقالة ومناقشة القضية ومحاججتها، يحتاج الأمر لذكر مسلمتين أَوَليتين:

أما الأولى: فإذا كان الله عز وجل هو مُرسل الرسول عليه الصلاة والسلام ومُنزل الكتاب، فإن كل ما في هذا الكتاب منسوب لله تعالى سواء كان قصصا أو عقيدة أو أحكاما أو أخلاقا أو غيره، فأحكام هذا الكتاب وشريعته إذن إلهية المصدر وربانيته، والله من صفاته الكمال فكذلك كتابه وشريعته، وشرط كمال الكتاب وكمال شريعته أن تكون كل أحكامه مصلحة وكل أحكامه عدلا.

طيب! هل إذا طال الزمان وتغيرت الأحوال يفقد الكتاب كماله وتفقد الشريعة كمالها ومصلحيتها وعدلها؟ الجواب -طبعا- لا؛ لأن كما هذا الكتاب لا يتأثر بطول الزمان ولا بتغير الأحوال، ولأن كمال الشريعة ومصلحيتها وعدلها لا تتأثر بطول الزمان وتغير الأحوال.

وأما الثانية: إذا كانت العملية الجراحية في مجال الطب لا تُجرى إلى من طبيب (اء) حاذق طويل الخبرة بالأسقام والعلل وأبدان الخلائق، وإذا كانت البنايات الشاهقة وناطحات السحاب لا تقوم إلا على تصميم مهندس (ين) حاز من قوانين الهندسة وقواعد الحساب ما أهّله لذلك، فكذلك النظر في خطاب الشرع والبحث في أحكامه لا يقدر عليه إلا من عقل عن المشرع خطابه، وأحاط بأصوله وخبر فروعه وأدرك مقاصده وعلل أحكامه، وبرع في تنقيح مناطات الأوصاف المعتبرة في الأحكام وتخريجها وقبل ذلك تحقيقها، وعلم من فقه الواقع وحال المكلف ما به يوافق مقصود الشرع في آستنباطه للأحكام ويكلفه بها، ونال من لسان العرب وأساليبه مثل ذلك.

وإذا كانت عدم أهلية الجرّاح تلحق الضرر بالأبدان وتزهق الأرواح، وعدم أهلية المصمم تهدم العمران والمعمار والبنيان، فكذلك عدم أهلية مستنبط الأحكام تساويها في الضرر بل تفوقها، فقد دل من آستقراء الشرع ونصوصه أن حفظ الدين مقدم على ما سواه من النفس والعقل وغيره.

فهل ترى أن من قال مقالته في تحريف شرع الله قد تحقق بما ذكرنا؟ اللهم لا!

أولا- السياق الثقافي العام للقضية:

بعدما أنهت و.م. الأمريكية الحرب الكبرى (العالمية) الثانية لصالحها، وذلك بعد أن آضطرت اليابان للاستسلام والخضوع للشروط الأمريكية، سعت هذه الأخيرة نحو نظام عالمي جديد، وهو نظام ما بعد الحرب الكبرى الثانية؛ نظام جعلها تتولى ريادة العالم السياسية والعسكرية والاقتصادية والعلمية والسيطرة على ثرواته، مما آضطر أكثر دول العالم للاصطفاف في صفها بصفتهم (حلفاء)، بحيث إذا لم توافقها هذه الدول فَعلى الأقل لن تعارضعا في سياستها الخارجية.

ذكر “نعوم تشومسكي” في كتابه (ماذا يريد العم سام؟) أن و.م.الأمريكية تسيطر على نصف ثروات العالم، وذكر في كتابه (الهيمنة أم البقاء) أنها تسعى دائما للحفاظ على هيمنتها سواء من خلال التهديد بالقوة المسلحة أم بآستعمالها فعلا، وأن السياسة الإمبريالية الكبرى تؤكد على حقها في شن (حرب وقائية) لإزالة أي تهديد (متخيل). وهو دون التهديد (المحتمل)الذي قد يؤسَس على تقارير خاطئة أو كاذبة كما هو الشأن مع العراق…

هذه الهيمنة السياسية والعسكرية لا يمكن أن تستمر ولا يمكن أن يطول عمرها إلا إذا رافقتها هيمنة ثقافية وفكرية، فهي الضامنة لها؛ تسبقها وتُمهد لها وتلحقها لتُبقي نتائجها أو تُطيل عمرها. فسنوات من الآحتلال العسكري والثقافي قد تُخضع شعوبا وأمما للقوى المحتلة قرونا طويلة. وهذه الأمر أدركته و.م.الأمريكية و(حلفاؤها) جيدا فسعت إليه، ونحن نعيش نتائجه الآن.

لحد الآن يبدو أن لا علاقة بين المسألة الإرثية المُثارة في بلادنا وبين الهيمنة الأمريكية وحلفائها! على العكس تماما؛ فالدول (الكبرى) أدركت جيدا من تاريخ الأمة والشعوب الإسلامية ودعوات الإصلاح أنها تسعى دائما إلى تبليغ رحمة السماء وعدلها إلى كل أهل الأرض، وشواهد الأندلس والقوقاز لازالت آثارها قائمة إلى يومنا هذا، فيما الدول والشعوب الإمبريالية تسعى إلى الاستيلاء على خيرات وثروات ضعفاء الأرض، وشواهد إفريقيا وأمريكا اللاتينية وغيرها لازالت آثارها قائمة إلى يومنا هذا. ولأن هذه الدول الكبرى تسعى للحفاظ على مصالحها في الخارج فقد تم توحيد العدو بينها وهو (العالم الإسلامي)، ومن ثم بدأ التخطيط لتفكيك دول هذا (العدو) وتقويض نهضة الأمة العلمية والفكرية والنفسية وغيرها، وإعادة رسم حدودها وخرائطها. لكن كيف تم تقويض هذه النهضة؟

تم ذلك من خلال آستهداف مقومات هذه النهضة وأسسها، وكل ذلك في كتاب الله الذي قلنا إنه متصف بالكمال وأن شريعته متصف بالكمال وأنه آشتمل على مصلحة الإنسان كله والزمان كله والمكان كله؛ فهو يأمر بالعدل ويأمر بالإحسان وإيصال الحقوق إلى أهلها، ويدعو إلى العلم ويدعو إلى التدبر والتفكر ويحث على إعمال العقل وإدارة الفكر، وينهى عن عكس ذلك، بل ويرتب عليه حسابا أُخرويا…

ومن هنا بدأ التنفيذ بفصل هذه الأمة وشعوبها عن هذا الكتاب، والكتاب إنما أُنزل بلسان عربي مبين، وأول منازل العمل به فهمه ولا يكون ذلك إلا بلسان عربي؛ ولذلك رأينا الدعوة إلى آعتماد اللسان الدارج (العامية) في مصر والمغرب وغيرهما. وههنا أورد نصا يثبت ما سبق، وهومقتطف من دورية بعثها (المارشال) ليوطي إلى رؤساء المناطق التابعة للإقامة العامة الفرنسية بالمغرب، نشرها صاحب كتاب ( (Le maroc de damain ونشرها د.عبد العلي الودغيري في كتابه (الفرنكفونية والسياسة اللغوية والتعليمية الفرنسية بالمغرب)، جاء فيه “…إن العربية عامل من عوامل نشر الإسلام، لأن هذه اللغة يتم تعلمها بواسطة القرآن، بينما تقتضي مصلحتنا أن نطور البربر خارج إطار الإسلام.

ومن الناحية اللغوية، علينا أن نعمل على الانتقال مباشرة من البربرية إلى الفرنسية، ولذلك نحتاج إلى أشخاص عارفين بالبربرية، وعلى ضباطنا في الاستخبارات أن يأخذوا بكل جدية في دراسة اللهجات االبربرية… كما ينبغي أيضا إحداث مدارس فرنسية بربرية يتم فيها تعليم الفرنسية للبرابرة الصغار” (ص86).هذه الدورية بعثها المارشال يوم 16يونيو1921، ونتائجها من (آمتثال) أوامرها و(آجتناب) نواهيها لازالت قائمة إلى يومنا هذا، ولذلك نفهم الدعوات المتكررة لآعماد (اللسان الدارج) في المجال التعليمي والتربوي، ونفهم لِم سارع (فلان) إلى وضع قاموسه الدارج الذي يشرح فيه كلام الأسواق بكلام المحطات الطرقية، ونفهم سبب إثارة القلاقل بين العرب والأمازيغ، ونفهم لم تصر (ميسلون نصار) على آستضافة أبطال الدورية من مختلف التخصصات، ولا تخصص لهم!

يبدو الآن أن العلاقة بدأت تتضح بين القوى الاستعمارية الكبرى وبين تحريف دين المسلمين، بين ثقافة المحتل وبين المَرَقة عندنا، ولولا أن المقالة ستطول بنا لذكرنا لأشكال تحريف الدين عندنا أصوله من كتب القوم ورسائلهم ومذكراتهم. فكل ما يصدر عن هؤلاء من أقوال وأفكار ونظريات إنما يستهدف وحدة المغاربة -بما هم جزء من أمة الإسلام- ومقومات آستقرارهم وحل رابطتهم؛ وذلك أن “أول شروط الفكر الصحيح أن يكون مساعدا على بقاء هذه الأمة ومتابعة سيرها إلى الأمام، وكل فكرة تعمل على حل رابطتها وتمزيق وحدتها والقضاء على كيانها كأمة مغربية لها مقوماتها الخاصة ومميزاتها عن غيرها، فهي فكرة لا يمكن ولا يجوز أن تجد لها محلا من قبولنا وآعتبارنا. وبما أن الأفكار لا تظهر دفعة واحدة بل تتغلغل في المجتمع بواسطة المظاهر الجزئية، فواجبنا أن نبحث عن هذا الشرط في تلك المظاهر، فإذا وجدنا أثرا منه فذاك وإلا فيجب أن لا نتهاود في مقاومتها والقضاء عليها، ولو كانت مستترة بأبهى صور العصر وأزهى مفاتن الزمان” (النقد الذاتي، ص85، علال الفاسي).

لذلك كانت أقسى وأخطر مراحل الاحتلال هي مرحلة ما بعد خروج جنود المحتل وعساكره، حينها تبدأ عملية تفكيك المجتمع وضرب كل مقومات نهضته بالوسيلة البشرية الداخلية وبالدعم المالي الخارجي.

ثانيا- الأصول الفكرية والفلسفية لمسألة المساواة في الإرث:

لو كانت قضية المساواة في الإرث خطأ من طالب أوسقطة من باحث أو زلة من عالم مستوفاة شروط الآجتهاد وقواعد الاستنباط والنظر في مآلات خطاب الشرع وفعل المكلف، لآحتاج الأمر إلى مجرد رد فقهي تأصيلي يناقش الأدلة ويدحضها واحدة واحدة، ثم يثبت الصواب محل الخطأ، ولكن الأمر أخطر من ذلك؛ إنه جزء من مخطط كبير يحيط بالشخصية المسلمة من كل جوانبها العقدية والأخلاقية والتربوية والأسرية والمالية والفنية وغيرها، وكلها تعود لأصول فكرية وفلسفية تُكسب المخطط (مشروعيته) الحضارية والثقافية!

فقد جاء في إعلان الاستقلال الأمريكي لسنة 1776م ما يلي: “خُلق الناس سواسية، ومنّ عليهم خالقهم بحقوق لا تسلب منهم، من بينها: الحياة والحرية وطلب السعادة “، والإعلان بهاته الصيغة له أسبابه التاريخية من حروب وظلم وآحتلال وغيره، وله مبرراته الآجتماعية من عنصرية وتمييز وغيره. ولما تم هذا الإعلان كان الوضع في حاجة إلى بناء فكراني (إيديولوجي) يقطع مع همجية القرون الوسطى في أمريكا وأوربا. ولذلك ظهر الخطاب الفكراني الماركسي الأرثودكسي والخطاب النسواني الأنجلوسكسوني؛ الأول يرى أن الأسرة بنية يسترق فيها الرجل المرأة ويحتكر فيها الآمرية، والثاني يرى أن ” الفروق التناسلية العضوية بين الرجل والمرآة من ذكورة وأنوثة لا آعتبار لها، وأن الفروق بين الأدوار الآجتماعية القائمة على هذه الفروق التناسلية ليست طبيعية، وإنما هي ثقافية وتاريخية فيها من التحكم بقدر ما فيها من الآستلاب، ولكي تزول هذه الفروق في الأدوار المستندة إلى الذكورة والأنوثة، لابد من القيام بثورة لإزالة الطبقات الجنسانية، وينبغي أن تتولى هذه الثورة الجنسانية الطبقة المسحوقة منها، وهي النساء ” (روح الحداثة، ص 111، طه عبد الرحمن) ومن يقوم مقام النساء من الذكور. فتم نقل النزاع من صراع طبقي بين الإغنياء والفقراء بين الأسياد والعبيد بين البيض والسود بين السكان الأصليين والمحتلين إلى صراع بين المرأة والرجل، بين الآنثى والذكر.

ومن ههنا ظهرت المطالبة بالمساواة بين الذكر والأنثى -بعد تجاهل النزاع الحقيقي- في كل المجالات؛ في السياسة والآجتماع والآقتصاد والرياضة، وفي تسريحة الشعر ونوع اللباس، وفي أنواع العطور ومساحيق التجميل، ومنها المساواة في أنصبة الإرث الذي دعا إليه (النوابغ) عندهم و(المرقة) عندنا.

بعد أن وقفنا على مسار المطالبة بالمساواة وبيّنا أصوله الفكرية والفلسفية، بقي أن يقال: إذا كان هذا مسار المساواة في الدول الغربية (الكبرى)، فما دخل المطالبة بالمساواة في أنصبة الإرث بين الذكر والأنثى في بلداننا؟

في السنوات الأخيرة كثُر آستهلاك هذا التعبير (الكونية) نسبة إلى الكون وهو كل ما يحيط بنا، وهو بخلاف (الخصوصية)، ويعني في سياقه التداولي أن تتوحد المبادئ والقيم والقوانين والأسس وغيرها عند كل البشر؛ بحيث تصبح كالكون الذي ننتسب إليه جميها بنفس القدر، فلا يقبل مخالفتها ولا يجوز معارضتها. غير أنه لم يتبادر إلى أذهاننا هذا السؤال: إذا كانت الكونية تعني النظر الموحد للقيم والمبادئ والقوانين، وتعني إعمال قانون عقلي واحد في إدراك الأصل والحياة والمصير أو الغيب وفهمهما، فهذا النظر نظر من؟ وهذا القانون العقلي هو قانون من؟

لا يحتاج الأمر إلى جواب مكتوب، بل يكفي أن ننظر إلى الكرة الأرضة لنكتشف صاحب النظر الموحد والعقل الوحيد الذي يمثل نموذجا للكونية. غير أن “كثيرا مما يوصف بالكونية لا ينطبق على الأمم كلها بهذا المعنى، فضلا عن أن تتساوى في هذا الآنطباق؛ إذ حقيقة أمره أنه عبارة عن خصوصية أمة بعينها عُممت على الأمم الأخرى طوعا أو كرها، والتعميم الطوعي يحصل في حال التكافؤ الثقافي أو الفكري بين الأمتين المنقول منها والمنقول إليها… والحال أن الأمة الإسلامية في سياق أنواع الاستعمار التي ما فتئت تتوالى عليها، تظل مكرهة على الأخذ بخصوصية المستعمر وعلى النظر إليها على أنها كونية تلزم الأمم قاطبة” (الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري، ص:27، طه عبد الرحمن).

ولم تسعى الدول الكبرى على فرض نموذجها على كل الأمم وآعتباره نموذجا كونيا وحيدا لا ثاني ولا ثالث ولا رابع له؟

سبق معنا في البداية أن و.م.الأمريكية تسيطر على نصف ثروات العالم، ولولا هذا النموذج الذي تزعمه وحيدا في الفكر والثقافة والسياسة والإعلام… لما آستطاعت أن تسيطر على هذه الثروات؛ إذ كلما آمنت الشعوب والأمم بصدق هذا الزعم واعتبرت هذا النموذج نموذجها المنقذ من الضلال والتخلف والظلم والجهل، كلما قلت مناعتها ورفضها النفسي للمحتل، فتسهل السيطرة على الثروات وتقل المقاومة والممانعة أو قد تنعدم!

 يبدو الآن أن لا أحد يجد صعوبة في تبيُّن العلاقة بين مسار المساواة عندهم، والمطالبة بالمساواة بين أنصبة الذكر والأنثى في الإرث عندنا. بل إن هذه القوى الكبرى الداعية إلى نموذجها الوحيد في الفكر والأخلاق والقانون والسياسة وغيره، تدرك عامل العقيدة في تماسك وقوة الشعوب التي فرضت عليها نموذجها الكوني ذاك؛ وهي بذلك تحقق هدفين بمخطط واحد، الأول: آستمرار الهيمنة والآستفادة من ثروات هذه الأمم والشعوب، والثاني: تراجع نسبة التدين عندها هذه الشعوب وآنسلاخها من عقيدتها، ما يضمن لها عدم القدرة على النهوض مرة أخرى…

ثالثا- مناقشة فقهية تأصيلية منطقية آجتماعية للقضية:

من خلال تتبع أقوال بعض دعاة المساواة في الإرث لم أجد عندهم تعريفا ولا مفهوما ولا شرحا محددا للمساواة، فهل يقصدون به المساواة مطلقا بين الذكور الورثة والإناث الوارثات؛ فيصبح نصيب الإبن كنصيب البنت كنصيب الأخت كنصيب الزوجة كنصيب بنت الابن؟ أم أنهم يقصدون به المساواة بين الذكر المباشر والأنثى المباشرة؛ بحيث يرث الإبن بالفرض منفردا النصف أو الثلثين في حال التعدد؟ أم العكس بحيث ترث البنت بالتعصيب فقط؛ بحيث إذا آنفردت ترث كل التركة وإذا تعددت مع ذكر أو أكثر يقتسمان بالتساوي؟ أم أن جميع الذكور وجميع الإناث يرثون بالتعصيب فقط؟

أكاد أجزم أن لا أحد من هؤلاء قرأ نظام الإرث بما هو نظام، قد يكون أحدهم قرأ يوما آية في سورة النساء ولكن من المستحيل أن يفهم نظام الإرث ثم تصدر عنه مثل هاته (المهزلة)!

  فلو أن أحدا حدد المقصود بالمساواة وأنه المساواة بين الإبن المباشر والبنت المباشرة؛ بحيث يرثان بالتعصيب معا!، فإذا آنفردت البنت تأخذ كل التركة، وإذا تعددت مع أنثى أخرى أو ذكر يقتسمان التركة. ولكن ماذا لو آجتمعت البنت مع بنت الإبن في مسألة واحدة؟ فهل سترث معها بالتساوي، أم أنها ستحجبها!. في هذه الحالة يتم آسقاط نظام الإرث بأكمله، والذي لا يعلمه هؤلاء أن نظام الإرث من أدق ما يكون بحيث إذا تم تغيير نصيب وارث واحد أو تغيير طريقة إرث وارث واحد فإن نظام الإرث يتهاوى عن آخره، فنكون إذن ليس أمام المساواة بين الذكر والأنثى ولكن أمام حذف ثلاث آيات من القرآن وما يفوق عشرين حديثا صحيحا.

فإن قيل: نحن لا نقصد حذف آيات من القرآن ولا تحريف التنزيل، وإنما لأن الظروف تغيرت والمجتمعات تطورت وأصبحت المرأة موظفة ومشتغلة؛ فهي تشارك الرجل في النفقة، ولقد أوقف عمر رضي الله عنه حد القطع لما رأى آنتشار السرقة بسبب المجاعة!

قيل: أولا: عمر رضي الله عنه لم يوقف الحد ولم يغير حكم الله تعالى -وإن كان بعض الباحثين قد قالوا بالنظر المقاصدي في إيقاف الحد لا إسقاطه، والأمر ليس كذلك- وإنما نظر في موانع تطبيق الحد؛ ذلك أن الحدود لا تطبق على المكلف إلا إذا توفرت شروطها كاملة وآنتفت موانعها كاملة. ثم إن الحدود غير أنصبة الإرث؛ الأولى عقوبة دنيوية تُراعى فيها الشروط والموانع ولا دخل لنوع الحد في ذلك، والثانية آستحقاق تُراعى فيها شروط الآستحقاق وموانعه ولا دخل للأنصبة في ذلك.

ثانيا: الأحكام المتعلقة بتغير الظروف وتطور المجتمعات هي تلك الأحكام المسكوت عنها في الشرع -ويسميها بعض العلماء دائرة الفراغ في الشرع-، وهي المتعلقة بالمستجدات والنوازل المعاصرة، وقد أرجع الشرع آستنباط أحكامها للمجتهدين من العلماء وليس لعموم أهل القبلة.

ثالثا: أما وإن المرأة أصبحت مشتغلة ومنفقة على بيت الزوجية، فهذا قد حصل من قديم الزمان والمرأة البدوية تشتغل فتحطب الحطب وترعى الماشية وتسقي الحقول، فأين كان هؤلاء؟ أم أنهم يقصدون بالمرأة المرأة المدنية لا البدوية، فحينها يحتاج الأمر أولا إلى المساواة بينهما.

 رابعا: المساواة التامة بين الذكر والأنثى خارج أحكام الشرع تقتضي إسقاط المهر عن الرجل وإسقاط النفقة الواجبة على بيت الزوجية من مأكل ومشرب ومسكن وفراش، فهل يقول به هؤلاء؟!

ثم إن من النساء من تنفق على زوجها -لعلة مرضية أو لغير علة- وعلى أبنائها، ومنهم من بلغ العشرين والثلاثين أو يزيد ولازال يعيش على نفقة والدته، فهل إذا مات هذا الزوج وترك تركة، تأخذا الزوجة نصيبا أكبر من أبنائها بسبب الإنفاق على بيت الزوجية؟ أم تتساوى معهم؟

ثم إن الأنثى في حالات كثيرة ترث أنصبة تفوق أنصبة الذكر، ومثاله: توفي رجل وترك ثمانية (8) أبناء أو أكثر وزوجة – سواء كانت أما للأبناء أو زوجة أبيهم، وتركة قدرها (8 مليون سنتيم)؛ فسيكون نصيب الزوجة هو الثمن ويقابله (1 مليون سنتيم)، فيما نصيب كل إبن هو (0.87 مليون سنتيم؛ أي أقل من ميراث الزوجة). فهل تطالب الزوجة بالمساواة في هذه الحالات. وهناك حالات أخرى يتساوى فيها نصيب الأنثى بنصيب الذكر؛ وخلاصة هذا المثال أن الذكر لا يرث دائما ضعف ما ترثه الأنثى، فتارة يرث أكثر منها، وتارة يتساوى معها، وتارة ترث هي أكثر منه، وهذا الذي لا يدركه هؤلاء!

إن الشرع الحكيم لما أعطى للذكر في بعض الحالات أنصبة تفوق أنصبة الأنثى أو حقوقا قد تفوق حقوق الأنثى، فلأنه أمره بواجبات تفوق واجبات الأنثى، ففي حالة الزوجة المنفقة -مدار الكلام- فإننا لم نجد آية في الكتاب ولا حديثا في السنة ولا قولا لعالم ينص على وجوب النفقة على الزوجة، بل حتى في حالة عجز الزوج على الإنفاق نجد أن الشريعة خيرت الزوجة بين البقاء من غير نفقة وبين طلب الطلاق، ولم تلزمها بالنفقة ولو كانت موسرة وغنية، فإن أنفقت الزوجة على زوجها وأولادها برضاها فإن ذلك يعتبر تبرعا وهبة، فإن أخذ منها زوجها شيئا من غير رضاها يعد غصبا ولو كان معسرا فقيرا. فكيف يتم إذن إسقاط أنصبة محددة في الكتاب وإلزام الزوجة بالنفقة؟!

 قال تعالى: (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف) (البقرة: الآية233).

وقال سبحانه: (أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم، ولا تضارهم لتضيقوا عليهن، وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن) (الطلاق؛ الآية:6).

ومن السنة ما أخرجه مسلم من حديث جابر -رضي الله عنه- في صفة حجة النبي -صلى الله عليه وسلم- وفيه قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((اتقوا الله في النساء؛ فإنهنَّ عَوان عندكم، أخذتموهن بأمانة الله، واستحلَلتم فروجهن بكلمة الله، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف)).

وفي سنن أبي داود من حديث معاوية بن حَيْدة -رضي الله عنه- قال: قلتُ: يا رسول الله، ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: ((أن تُطعمها إذا طعِمتَ، وتكسوها إذا اكتسيتَ، ولا تضرب الوجه، ولا تقبِّح، ولا تَهجر إلا في البيت)).

وفي مدونة الأسرة (تجب نفقة الزوجة على زوجها بمجرد البناء، وكذا إذا دعته للبناء بعد أن يكون قد عقد عليها) (الماد194).

وفي المدونة أيضا (تشتمل النفقة الغذاء والكسوة والعلاج، وما يعتبر من الضروريات والتعليم للأولاد…) (المادة:189).

وأيضا (تستمر نفقة الأب على أولاده إلى حين بلوغهم سن الرشد، أو إتمام الخامسة والعشرين بالنسبة لمن يتابع الدراسة.

وفي كل الأحوال لا تسقط نفقة البنت إلا بتوفرها على الكسب أو بوجوب نفقتها على زوجها) (المادة 198).

يلاحظ في الفقرة الثانية من هذه المادة أن البنت قد بلغت حقوقها السقف، فلا تخل جميع مراحل حياتها من وجوب النفقة عليها على غيرها؛ قبل الزواج على أبيها وبعده على زوجها، فيما يتوقف هذا الحق عند الإبن بمجرد بلوغه سن الرشد.

إن أنصبة الورثة قد حسمها القرآن والسنة بما لا يدع مجالا لتحريفها وتأويلها، والدعوة إلى تغير هاته الأنصبة يحتاج إلى نص من الكتاب ينسخها، ومعلوم أن باب النسخ قد سُدّ بوفاة النبي عليه الصلاة والسلام، وكل ما قيل في الموضوع هو من باب تحريف شرع الله!

قال أحدهم: نحن لا نريد تغيير أحكام الشرع المتعلقة بالإرث وإنما نريد فتح نقاش مجتمعي! وكأن الأمر يتعلق بغلاء الأسعار أو ضعف التحصيل الدراسي عند الشباب أو آختلالات تدبير الشأن المحلي، في مثل هذه الحالات المدنية وأشباهها يمكن أن ندعو إلى نقاش مجتمعي لمدارسة الموضوع وتقديم حلول للأزمة. أما وأن الأمر يتعلق بشرع الله ونصوصه ثابتة في الكتاب والسنة، فإن المؤهل لذلك ليس عموم أهل الملة وإنما أهل الآجتهاد من العلماء فتفسير الدين “فضلا عن الاجتهاد فيه، يحتاج إلى علم ومعرفة وخبرة، وإنما يحق للشخص أن يمارس ذلك، وأن يتمادى فيه قليلا أو كثيرا بقدر ما له من العلم والمعرفة والخبرة” (الاجتهاد: النص، الواقع، المصلحة، ص12، أحمد الريسوني) كما يشترط العلم والمعرفة والخبرة في الطب والهندسة وغيرهما، وقد سبق معنا أن الآجتهاد لآستنباط حكم شرعي لا يقل أهمية وخطورة عن إجراء عملية جراحية وعن تصميم عمارة.

جميع التشريعات التي تصدر عن الإنسان يعتريها القصور والخلل ولذلك نراه مضطرا -من حين لآخر- لتغييرها وتجديدها أو تعديلها؛ لأن منسوبة إليه، والإنسان هو الإنسان من صفاته الضعف والعجز ومدافعة نوازع الهوى إياه، فهل نتخلى عن شريعة ربانية متصفة بالكمال والمصلحية والخلود لشريعة آدمية تحمل من صفاته ما يتصف به، وأقل ما يقال فيها أنها صادرة عن عقل لا يحيط بكل الناس ظاهرهم وباطنهم، ولا يدرك مصالهم الفردية والجماعية والحاضرة والمستقبلية في آن واحد!

خاتمة لابد منها

أيها المغاربة المسلون هذا دينكم الذي آرتضاه الله لكم، وهو دين أجدادكم من القرن الهجري الأول، آمنوا به وآتبعوا رسوله عليه الصلاة والسلام عن طواعية وآقتناع، ودافعوا عنه بأموالهم وأولادهم وأنفسهم، وآنتصروا له وبلغوه للأمم الأخرى وخاضوا في سبيله البر والبحر. وهو منصور بنا أو بغيرنا، وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن المستقبل له، ففي الحديث الصحيح عن تميم الداري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل عزاً يعز الله به الإسلام وذلاً يذل الله به الكفر له” (أحمد والطبراني والبيهقي وغيره).

فنالوا شرف الثبات عليه ولا تهدموا ما بناه أجدادكم، فقد ناضلوا وناظروا غيرهم لإثبات ربانيته وعالميته ورحمته وشموليته وعصمته من التحريف. فما أراهم قد أخذوا به إلا وقد درسوه ونقحوه وأزالوا الباطل منه وبينوا حكمه وأسراره، فخذوا وصيتهم بحقها وكونوا خير خلف لخير سلف…

والله أعلم.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M